الاثنين، 31 مارس 2008

اللاسلطوية ليست عقيدة و لا يوتوبيا


اللاسلطوية ليست عقيدة و لا يوتوبيا
سامح سعيد عبود
اللاسلطوية نظرية إقتصادية إجتماعية وسياسية، لكنها ليست عقيدة.و هذا تمييز مهم للغاية. فالنظرية تعنى أنك تملك أفكارا قابلة للدحض والنقد والتطوير وحتى التغيير؛ أما العقيدة فتعنى أن الأفكار تملكك وتقيدك وتجمدك، فلا تملك إلا أن تصبح عبدا لها، أو أن تتحرر من أسرها. و من هنا فاللاسلطوية نسق من الأفكارِ، لكنه مرن، في حالة ثابتة من التطور والجريان، ومفتوح إلى التعديل في ضوء البيانات الجديدة التى تظهر لنا. فلطالما سيظل المجتمع يتغير ويتطور، فسوف تظل اللاسلطوية تتغير وتتطور. أما العقيدة، فهى على النقيض من ذلك، فهى مجموعة من الأفكار "الثابتةِ" التي تدفع الناس بشكل متصلب ومتعصب ، إلى إهمال حقائق الواقع أَو أن تدفعهم إلى تزييف تلك الحقائق لكى تتلائم مع العقيدة.
هذه الأفكار الثابتة والعقائد الجامدة غير القابلة للنقد والدحض تكون بالضرورة مصدر الإستبداد والتناقض، وهى تؤدى إلى المحاولات الخيالية لجعل كل شخص مهما بلغت مقايسه من طول وقصر، ومن بدانة أو نحافة، متطابق مع قالب العقيدة الوهمى، وكل هذه القولبة والتنميط للواقع والحياة يكون له نفس التأثير: دمار الأفراد الحقيقيينِ بإسم المذهب والعقيدة، التى تَخدم مصلحة بعض النخب الحاكمة عادة ،أو كما يصف باكونين " إلى الآن فإن التاريخ البشرى كان فقط تضحية دائمة ودامية من ملايين البشر الفقراء تكريما لبعض المجردات العديمة الرحمةِ.. الله، الدولة، الشرفِ الوطنى ، الحقوق التاريخية، الحقوق القضائية، الحرية السياسية، الرفاهية العامة." [الله والدولة , p. 59]
العقائد ساكنة و ميتة في صلابتها، و فى أغلب الأحيان هى صناعة شخصية لنبى ميت ، ديني أَو علماني، الذي ينصبه أتباعه معبودا معصوما عن الخطأ والزلل. اللاسلطويون يريدون الحياة ومن ثم يروا ضرورة دفن الموتى لكي يمكن للبشر الأحياء مواصلة الحياة. فالأحياء يجب أن يحكموا الموتى ،وليس العكس بالعكس. العقائد عدوة التفكير و الحرية، فهى تزودنا بكتاب القواعد والأجوبة الجاهزة التي تعفينا من عبء التفكير لأنفسنا.
من هنا فأنه لا مرجعية مقدسة فى الفكر اللاسلطوى لا لنصوص معينة و لا لأشخاص محددين مهما بلغ تقديرنا لهم.
اللاسلطوية ليست مجرد نظرية سياسية واجتماعية واقتصادية فحسب بل هى فلسفة للحياة والممارسة العملية ، فلأنها تعتمد على المبادرة الفردية وتثمنها ، فأنها لا يمكن أن تغفل عن سلوك الفرد وأخلاقياته ، ولا تقيد حريته فى التفكير والفعل ،بمذهبية جامدة ترسم له خطواته من الميلاد وحتى الموت ، وما يمكنا أن نقوله هنا أن اللاسلطوية تيار غير جامد ولا مذهبى ، و ليس له كتب مقدسة من أى نوع ، والمفكرين الذين طرحوا أفكاره الرئيسية ليسوا أنبياء معصومين من الخطأ، فهم بشر يتمتعون بما يتمتع به كل البشر من القدرة على الخطأ وتصحيحه ،ومن ثم فعلينا أن نقرأهم بروح نقدية تفهم أن هؤلاء مثلما فكروا نستطيع نحن أيضا أن نفكر ، ويمكنا أن نختلف معهم فى بعض القضايا ونظل لاسلطويين طالما أتفقنا على هدف التحرر البشرى النهائى من كل أشكال الاستغلال والقهر والاغتراب ، كما يمكن لنا الاستفادة من أفكار غير اللاسلطويين سواء بسواء ، فالجميع ليسوا بأنبياء مقدسين و لا ملهمين . وهذا ما يحتاجه البشر فعلا بعد كل هذه القرون الطويلة من الاتباع الأعمى للحكام والكهنة والمعلمين والزعماء المؤلهين والمعصومين .فنحن نحتاج للتحرر من عبودية التراث والمنقول والمألوف والعادة والتقليد والنص ، ونحتاج للتحرر من تقديس وعبادة الأشخاص أيما كانوا وأيما كانت قدراتهم وملكاتهم ، فلا يحق لأحد أيا ما كان أن يدعى احتكاره للحقيقة ،ومن ثم فأهم ما يتميز به اللاسلطوى هو القدرة الأعلى من غيره على التمرد على والنقد ل والشك فى كل ما حوله من أفكار و واقع ومؤسسات
يعلمنا الأباء وكذلك المدرسون أن الرضوخ والخنوع واليقين والقبول بما هو كائن وبما لقنونا إياه فضيلة ،وأن الخروج عن المنقول والتراث و المألوف رذيلة ، و اللاسلطوي على العكس ، يعلم أن كل ما حققه البشر من تطور ما تحقق لهم سوى بفضائل التمرد والنقد والشك ، وهى الفضائل التى تمتع بها القلة التى قادت البشرية نحو هذا التطور ،واللاسلطوية تسعى لأن تكون تلك الفضائل سمة الجميع .
وبناء على ما سبق
فاللاسلطوية تجمع فيما بينها على العديد من الاتجاهات تنقسم فيما بينها على أساس العديد من الخطوط الخلافية يمكن أن نميز فيما بينها كالتالى
الخط الأول بين من يرون ضرورة الثورة الشيوعية اللاسلطوية للوصول للهدف النهائى، و بين الأقل ثورية الذين يرون أن الوصول إلى الهدف النهائى يعتمد على عملية طويلة الأمد من الثورات والإصلاحات والتحرر الذاتى.
الخط الثانى بين هؤلاء المرتبطين بقوة بتراث ماركس و الماركسية غير اللينينية و بين هؤلاء الذين يقرون ببعض من مساهمات ماركس خصوصا الاقتصاد السياسى الماركسى ، لكن دون أن يقدسوه كما يقدسه البعض .
الخط الثالث بين من يرون ضرورة الاجماع لاتخاذ القرارات بين كافة الأعضاء داخل الجماعات اللاسلطوية ، و بين من يرون الاكتفاء فقط بقواعد الديمقراطية المباشرة لاتخاذ القرارات المختلفة التى تخص الجماعة وفق رأى الغالبية .
الخط الرابع بين من يدعمون وحدة الجماعة فكرا وممارسة فيما يتعلق بتحديد الاستراتيجية والتكتيكات الخاصة بالجماعة اللاسلطوية، و بين هؤلاء الذين مع تعددية الاتجاهات داخل نفس الجماعة فكرا وممارسة فيما يتعلق بتحديد الاستراتيجية والتكتيكات الخاصة بالجماعة اللاسلطوية .
الخط الخامس بين من ينظرون للصراع الطبقى كمجال أولى وأساسى للممارسة الثورية ، وبين هؤلاء الذين يعتبرون أن هناك مجالات أخرى أكثر أهمية كحقوق الأقليات والمرأة وحقوق الإنسان والبيئة .
الخط السادس بين من يقصرون النشاط الدعائى والتنظيمى داخل النقابات العامة ومؤسسات المجتمع المدنى، بين من يقتصرون على بناء منظمات دعاية لاسلطوية فقط .
تتنوع المدراس اللاسلطوية بتنوع أشكال الممارسة العملية التى يتوصل لها اللاسلطويون عبر نضالهم ، فهناك شيوعيوا المجالس الذين يقدرون تجارب المجالس العمالية التى تظهر عفويا فى لحظات الانتفاضات العمالية كما حدث فى الثورة الروسية الكبرى، وهناك التعاونيون الذين يتبنون التعاونيات كحركة عفوية ظهرت فى القرن التاسع عشر واستمرت حتى الآن، وهناك النقابيون الذين يرون فى النقابات ليست منظمات اقتصادية فحسب بل أنها يمكن أن تكون منظمات ثورية تنظم العمال من أجل تحررهم النهائى.. هذا التنوع فى مدارس الممارسة العملية لا يجعل من اللاسلطوية يوتوبيا خيالية كما يصفها البعض، فهى ليست حلما بالجنة التى نتصورها منتظرين أن تحدث ذات يوم جميل،ربما يكون الهدف النهائى بعيد المنال بالنسبة لسائر البشر، ولكننا يمكن عمليا أن نصل لمستويات أعلى من الحرية والمساواة كل يوم أكثر من اليوم الذى سبقه، وربما ننكسر أحيانا فى بعض الأيام، ونتراجع فى بعضها، هنا أو هناك. هذا هو التراكم الكمى غير المحسوس، والذى سوف يؤدى يوما لتغير أكثر كيفية وتنوعا فى ما نتمتع به من حرية ومساواة، وهذه ليست يوتوبيا من أى نوع.

الأحد، 30 مارس 2008

اقتراحات عملية

اقتراحات عملية
سامح سعيد عبود
يغامر عشرات الألوف من شباب العاطلين المصريين سنويا ببيع بعض ممتلكاتهم أو ممتلكات ذويهم الصغيرة ليدفعوها لعصابات الهجرة السرية لأوروبا حيث يتعرض هؤلاء الشباب إما إلى الموت فى عرض البحر أو الترحيل من على الشواطىء الأوروبية، فهل يمكنا أن نساعد من يفكر من هؤلاء الشباب بتلك المغامرة بتنظيمهم فى جمعيات تعاونية إنتاجية يستثمرون فيها نقودهم القليلة ومهاراتهم المختلفة ، ويضمنون عمل حر فى بلادهم بدلا من تلك المغامرة غير المأمونة.
يدفع أولياء الأمور المصريون حوالى 17مليار جنية سنويا على الدروس الخصوصية غير المصاريف الدراسية و فى نفس الوقت لا يتلقى أولادهم تعليما جيدا ،كما أن المدرسين أنفسهم يطحنون فى تلك العملية بعد اليوم الدراسى الرسمى الذى يحصلون مقابله على مرتبات متدنية فهل يمكن قيادة تنظيم مدراس تعاونية يساهم فيها أولياء الأمور و المدرسين ليضمن أولياء الأمور خدمة تعليمية جيدة ورخيصة لأولادهم ويضمن المدرسين عبرها فرص عمل مجزية ومريحة فى نفس الوقت.
يتعرض حوالى 3 مليون من الباعة الجائلين لعمليات بلطجة سواء من قبل رجال الإدارة الحكومية أو من البلطجية العاديين فضلا عن استغلالهم من تجار الجملة فهل يمكن مساعدتهم فى تنظيم أنفسهم فى مواجهة كل تلك الأطراف التى تستغلهم بتنظيمهم تعاونيا ونقابيا.
تنتشر الأمية بكافة أشكالها فى أوساط الأطفال والصبية فهل يمكن تنظيم جمعيات أهلية لتبنى محو أمية هؤلاء وتعليمهم حرف بسيطة وتنظيمهم نعاونيا فى أعمال إنتاجية وخدمية تحميهم من استغلال أصحاب العمل الذين يستغلون جهلهم وصغر سنهم وحاجتهم.
يدبر الملايين من المصريين حاجتهم المختلفة عبر ما يعرف بالجمعيات التى يسددون أقساطها الشهرية ويقبض قيمتها أحد المشتركين شهريا بين الجيران والأقارب وزملاء العمل و هى فكرة طبيعية بدائية تحتاج لتطوير لتحويلها لصناديق تضامن ذات طبيعة دائمة بين هؤلاء.
بالطبع أن هذه المقترحات لا تغطى كل المشاكل الاجتماعية التى يمكن أن نتصدى لها، ولكن المهم هو المنهج نفسه الكامن وراء تلك المقترحات الذى يتجاوز الاعتماد على دولة الرعاية التى اصبحت غير راغبة فى الحل أو عاجزة عنه ، كما تتجاوز نظرية الخدمة التبشيرية لشراء ولاء الناس ذات الطبيعة السلطوية التى لا تخفى على أحد، فالمطلوب هو مساعدة الناس فى تنظيم أنفسهم و حل مشكلاتهم بأنفسهم مع ما هو ضرورى من الإرشاد والمبادرة والمساعدة منا، وهو الأمر المطروح نظريا فى المقال المنوه عنه عاليه

التعاونيات كأداة للتحرر الذاتى

التعاونيات كأداة للتحرر الذاتى
سامح سعيد عبود
*عندما درست التعاون فى السنة الأولى فى كلية الحقوق جذبتنى الفكرة وتبنيت فكرة مجتمع يمارس أفراده كل أنشطتهم عبر التعاونيات بحيث لا يبقى للدولة من وظائف تؤديها إلا مهامها السيادية التقليدية فى الأمن الداخلى والدفاع والتمثيل الخارجى والعدل والمالية العامة، و لكن هذا الانجذاب ظل مكبوتا لسنوات طويلة، وذلك لثلاث أسباب هى : الأول سوء الفهم السائد حول فكرة التعاون، و الثانى التطبيق المشوه للتعاون ، والثالث النفوذ الفكرى لاشتراكية الدولة سواء فى جناحها الشيوعى أو فى جناحها الاشتراكى الديمقراطى.
*عدت مجددا لدراسة التعاونيات، بالتخلص من تأثير تلك الأسباب، و أكتشفت أنها الأداة الوحيدة الممكنة لتحقيق حلم الحرية والمساواة والتقدم ، ولكن بشرطين الأول استقلالها عن الدولة والرأسمالية، و الثانى تخلصها من التشوهات البيروقراطية والرأسمالية التى قد تشوب تطبيقاتها أحيانا، وهما شرطان لايتناقضان مطلقا مع المبادىء الرئيسية للتعاون بل يتطابقان مع جوهر تلك المبادىء ،والحقيقة أن الحركة التعاونية تتنازعها ثلاث ميول، ميل سلطوى يميل لتحويل التعاونيات إلى جهاز من أجهزة الدولة فى إطار خططها للتنمية، وميل رأسمالى يعتبر التعاونيات مؤسسات رأسمالية يجب أن تهدف للربح ، و ميل ثالث لاسلطوى و لا رأسمالى يحرص على أن تكون التعاونيات منظمات مدنية وديمقراطية وشعبية مستقلة تماما عن الدولة والرأسمالية.
* تأثرت التعاونيات دائما بتدخل البيروقراطية الحكومية فى شئونها مما أفقدها طابعها الطوعى والديمقراطى والمدنى فى كثير من الأحيان، و قد حول هذا التدخل بعضها فى النهاية إلى مؤسسات بيروقراطية شبه حكومية كما فى مصر وشبيهاتها من الدول، مما ساعد على أن ينخر فيها الفساد و على أن تفقد شعبيتها، ومن هنا ترفض التعاونيات السويدية على سبيل المثال أى تدخل حكومى فى شئونها، فى حين أن التدخل التشريعى لتنظيم التعاونيات فى مصر يساعد على افساد التعاونيات تلقائيا حيث يحدد جزءا لا يتجاوز 10% من العائد لصالح أعضاء مجالس الإدارة ، برغم إن الإدارة فى التعاونيات لابد وأن تكون بلا امتيازات حرصا على عدم فسادها، ومن هنا يفضل أن تدار التعاونيات بالنظام الذى يقترحه مايكل ألبرت المسمى "حزمة الوظائف المتوازنة" الذى يتيح لجميع الأعضاء المشاركة فى الأعمال الإدارية. والجدير بالذكر أن القانون المصرى يسمح بتعين موظفى الحكومة فى التعاونيات لإدارتها وانتدابهم للعمل فيها على غير رغبة أعضاء التعاونيات أصحاب السلطة الوحيدة فى أى تعاونية.
*تتأثر التعاونيات بالعلاقات الرأسمالية السائدة فى المجتمع سواء من حيث استخدام التعاونيات أحيانا للعمل المأجور أو من حيث تأثرها بالسوق الرأسمالى وما يحكمه من قواعد المنافسة، و برغم من أن التعاونيات يجب أن لا تهدف مبدئيا للربح فإن منطق الإنتاج من أجل الربح الرأسمالى السائد جعل من التعاونيات فى بعض الأحيان مؤسسات شبه رأسمالية.
* نقاء التعاونيات من تشوهها بيروقراطيا أو رأسماليا و اعتبارها علاقة إنتاج مستقلة ومتميزة عن العلاقتين البيروقراطية والرأسمالية مرهون بتحررها من كل من سيطرة البيروقراطية والرأسمالية على السواء، وهذا أمر يمكن تصور حدوثه فى المستقبل عندما تتحول هذا العلاقة من وضع الهامشية الحالى لوضع السيادة فى المجتمع.وهى عملية تحتاج لنضال اقتصادى وسياسى واجتماعى وثقافى دؤوب و طويل الأمد.
* جوهر الرأسمالية هو عبودية العمل المأجور وهو ما خلقته الرأسمالية وتبقى عليه، و مما لاشك فيه أن أى حركة تحرر ترغب جديا فى تجاوز الرأسمالية لابد وأن يكون هدفها هو تحرير البشر من عبودية العمل المأجور، وكل أنواع العبودية الأخرى، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا فى نمطين من أنماط الإنتاج هما الإنتاج الفردى لصغار الفلاحيين والمهنيين والحرفيين و الإنتاج التعاونى .
*انغمست الحركة العمالية بجناحيها الثورى والإصلاحى، لقرن من الزمان فى تجربتى اشتراكية الدولة المختلفتين، الشيوعية المهزومة والإشتراكية الديمقراطية المأزومة، وبرغم ما تحقق على أيديهما من مكاسب هائلة لاتنكر للطبقة العاملة وكوارث مروعة لا تنسى وقعت على الطبقة العاملة أيضا، فإنهما برغم ذلك لم يحققا للعمال المأجورين التحرر من عبوديتهم المأجورة، ذلك أن هذين اللونين من الاشتراكية أنحرفا عن جوهر التحرر من العبودية المأجورة، واقتصرا على إشباع احتياجات العمال المأجورين المادية الذى سهل بعد ذلك حرمانهم منها فى السنوات الماضية، كما أنهما سلبا أحيانا تلك الحرية النسبية المتمثلة فى القدرة على التفاوض على شروط العمل والحياة التى وفرتها الرأسمالية لعبيدها ، فتدهوروا من وضع أكثر حرية لأوضاع الأقنان لدى الدولة، وهو وضع أسوء حتى و لو كانوا حققوا بتلك الاشتراكية درجة أكثر من الاشباع المادى.
*يقوم التعاون على عدد من المبادىء التى أقرها الحلف التعاونى الدولى وهى أولا عضوية الجمعية طوعية ومفتوحة، بغضّ النظر عن الجنس أو العرق أو الآراء السياسية أو الدين أو الوضع الاجتماعي وثانيا ديمقراطية الإدارة، فلكل عضو صوت واحد مهما بلغت أسهمه ، ثالثا الاستقلالية عن كل من الدولة و رأسالمال باعتبارها منظمات مستقلّة تساعد نفسها بنفسها، ويديرها أعضاؤها بأنفسهم، رابعا مشاركة العضو اقتصادياً بشرط أن تكون الفائدة محدودة على رأسالمال المساهم به، وأن يوزع العائد إما على معدلات الإنتاج فى التعاونيات الإنتاجية، وإما على معدلات الاستهلاك فى التعاونيات الاستهلاكية، خامسا التعاون بين التعاونيات ، سادسا التعليم والتدريب المستمرين للأعضاء وحرية الحصول على المعلومات، سابعا الاهتمام بتنمية المجتمعات المحلية.
*القواعد التعاونية ليست مقدسة بحيث لا يمكن تطويرها أو تغيرها، فقد كانت القواعد السابقة للحلف التعاونى الدولى لا تتضمن مبدأى تعاون التعاونيات والاستقلال عن الدولة ورأسالمال، ولما كان هذا الحلف ليس له مرجعية مقدسة أساسا، فالحركة التعاونية يمكن أن تتحول إلى حركة تحرر ذاتى من عبودية الأجر لا مجرد حركة تنمية اقتصادية أو كحل للأزمات التى تسببها الرأسمالية كما تريد لها الحكومات، بل يمكن تحويلها لحركة مناهضة لكل من الرأسمالية والبيروقراطية تحارب من أجل الانتصار الكامل عليهما تدريجيا كما وسبق للرأسمالية أن انتصرت على الإقطاع تدريجيا، وعبر إثبات التفوق الاقتصادى للتعاونيات على المؤسسات الرأسمالية، وهذا يعنى تطوير هذه المبادىء نفسها ودعمها بمبادىء أخرى تضمن هذا التوجه اللاسلطوى واللارأسمالى للتعاونيات .
*يقال أن التعاون لايصلح إلا فى مجالات الإنتاج والخدمات التى تعتمد على وحدات صغيرة ومحلية، وهذا ليس صحيحا لأن من أهم مبادىء التعاون الجديدة أن تتعاون وتتكامل التعاونيات فيما بينها وتتحد من أسفل لأعلى لكي يمكنها تغطية كل الأنشطة البشرية، ومن هنا فإن بعض المرافق العامة والصناعات الكبيرة فى الكثير من البلاد تدار وفق نظام الريجى التعاونى، وهى منظمات تعاونية بين التعاونيات لا الأفراد . استطاعت أن تشق طريقها فى أعمال البنوك،وفى توريد المياه، و فى النقل، وفى إنتاج الكهرباء وتوريدها، وفى إدارة الموانى و السياحة و تكرير البترول و صناعة السكر..الخ. وقد حققت فى ذلك نجاحا لم تحققه غيرها من المنظمات، فالتاريخ يشهد أن واحدا منها لم يتعثر أو يقع فى هوة الإفلاس وحتى فى أوقات الشدة والأزمات استطاعت أن توازن ميزانيتها وأن تؤدى خدماتها على أكمل وجه.
*يتهم البعض التعاونيات أنها مؤسسات رأسمالية لأنها تحافظ على حقوق الملكية الخاصة المتمثلة فى مبدأ الفائدة المحدودة على رأسالمال، وهو مبدأ لا تأخذ به التعاونيات فى ألمانيا وبلجيكا والسويد على سبيل المثال، فالمساهمة فى هذه الحالة مساهمة تبرعية من طالب العضوية لتأسيس التعاونية ودعمها وكمقابل للعضوية، إلا أن من يأخذون بمبدأ الفائدة المحدودة على رأسالمال ، يدافعون عن رأيهم بأن الرأسمال يؤدى دور خادم لنشاط التعاونية، وليس بهدف الاستثمار فيها، حيث أن العائد فى معظمه يوزع على أساس المعاملات، فضلا عن أنه مبدأ مفيد لتشجيع تجميع المدخرات والملكيات الفردية الصغيرة وتحويلها لملكية تعاونية، و من ثم توسيع رأسمال التعاونية ودعم نشاطها، كما أن جزءا كبيرا آخر من العائد يكون احتياطى الجمعية وهو لا يقل عن 15% وفق القانون المصرى ، و يكون نتيجة تراكمه رأسالمال الاجتماعى للتعاونية و هو غير قابل للتجزئة، فهو ملك للجمعية و لايصح أن يوزع على الأعضاء. فضلا عن أنه عند انسحاب العضو من الجمعية فأنه يحصل على قيمة أسهمه فقط، ومن ناحية أخرى يمكن اعتبار أن الفائدة على رأسالمال فى هذه الحالة نوع من التعويض عن انخفاض سعر العملة بسبب التضخم ، وهذه الفائدة لا تتجاوز 6% من القيمة الأسمية للسهم وفقا للقانون المصرى ، كما لا يجوز أن يتجاوز نصيب فوائد الأسهم 15% من إجمالى العائد وفقا للقانون المصرى، و فى النهاية لايجوز توزيع أى أرباح على الأسهم إلا فى حالة تحقيق أرباح للجمعية، و من ثم يمكن القبول مؤقتا بهذا المبدأ كخيار واقعى فى المراحل الأولى للتعاونيات باعتبارها نمط هامشى يجب دعمه، بحيث يمكن التخلى عنه فى المستقبل عندما تتوفر الشروط الموضوعية المناسبة التى تجعلها نمط سائد.
*يعيب البعض على التعاونيات التى تنتج الخدمة أو السلعة، أنها يمكن أن تحقق أرباحا من تشغيل عمال مأجوريين من غير أعضاء التعاونية فتتحول بذلك لمشروعات رأسمالية، وهو ما يجيزه قانون التعاون المصرى فى سياق تشويهه للفكرة التعاونية وابتذالها،وهذا وضع غير صحيح مبدئيا حيث تتميز الجمعيات التعاونية بأن كل عضو فيها يعتبر عاملا وشريكا فى الوقت نفسه، فإذا فقدت الجمعيات إحدى هاتين الصفتين فلا تعتبر جمعية تعاونية، وهذه الخصيصة مستفادة من الغاية التى تهدف إليها هذه الجمعيات، فهى تهدف إلى تحرير العمال ليكونوا جميعا شركاء يمارسون وظيفة المنظم فى المشروع الرأسمالى، و يمكن مقاومة هذا الميل بترسيخ مبدأ تعاونى جديد هو مبدأ عدم تشغيل العمل المأجور، و بدلا من ذلك تسهيل شراء الأسهم و من ثم العضوية للراغبين فى العمل فى التعاونيات، و هذا يساعد فى توسيع رأسمال التعاونية وتمويلها و دعم نشاطها.
* يعيب البعض على الجمعيات التى تبيع الخدمة أو السلعة أنها تحقق أرباحا أيضا عندما تبيع الخدمة أو السلعة لغير الأعضاء، وهذا العيب يمكن تلافيه بالالتزام بمبدأ تعاونى جديد هو عدم بيع الخدمة أو السلعة لغير الأعضاء فى التعاونيات التى تبيع السلع والخدمات، و الالتزام بهذا المبدأ سوف يشجع كل من يرغب فى الاستفادة من انخفاض أسعار خدمات التعاونيات وسلعها فى أن يكون عضوا بها بالمساهمة فى رأسمالها، و هذا يساعد فى توسيع رأسمال التعاونية وتمويلها و دعم نشاطها، إلا أنه من الجدير بالذكر إن جزءا من عائد التعاونية لا يقل عن 15% وفق القانون المصرى يعود على المستهلكين من غير الأعضاء وفقا للمبدأ التعاونى الخاص بالاهتمام بتنمية المجتمع المحلى الذى يضم غالبا هؤلاء المستهلكين الذين حققوا ربحا للتعاونية بالتعامل معها، و بهذا المبدأ يعاد للمستهلكين جزء من الأرباح التى تسببوا بها.
*التعاونيات مثلها مثل الإنتاج الفردى نمط إنتاج هامشى ضعيف بالطبع فى مواجهة كل من بلطجة بيروقراطية الدولة و استغلال الرأسماليين، وهو يتأثر بهما بشدة، مما يجعل من مسألة استمراره نقيا بلا تشويه بل ونجاحه فى الإلتزام بمبادئه أمر فى غاية الصعوبة، ولكن من قال إن الأمر سهلا، وهل كان سهلا أن يستولى الشيوعيون على السلطة بالقوة، أو أن ينتزع الاشتراكيون الديمقراطيون السلطة عبر البرلمانات فى غرب أوروبا. مقابل ذلك فالميزة فى التعاونيات أنها يمكن أن تحرر فورا قطاعات يمكن أن تتزايد تدريجيا من العمال وصغار المهنيين والفلاحيين والحرفيين دون انتظار لثورة سياسية لا يعرف أحد متى تأتى، و عندما تأتى فقد تحررهم جميعا أو تعجز عن تحريرهم.
*على من يؤمنون بالفكرة التعاونية باعتبارها طريقا للتحرر والمساواة أن يطرحوا مهمة نجاحها واستمرارها كمهمة كفاحية طويلة الأمد على أنفسهم كحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد التى مازال يتبناها البعض، فهى تحتاج مثلها إلى بذل جهودا خارقة وابداعات عبقرية إلا أنها غير دموية، و ذلك لإنجاحها اقتصاديا فى مواجهة الرأسمالية، و نضالا سياسيا من أجل استقلال التعاونيات التام عن الدولة ومواجهة بيروقراطيتها، ونضالا اجتماعيا يربطها بحل مشكلات الواقع المحلى الذى تعمل فيه، ونضالا ثقافيا يطور من وعى البشر ليلائم هذا النمط، حتى يصبح دعم التعاونيات فى مواجهة الرأسمالية موقف رأى عام اجتماعى ، وحتى يستهجن الوعى السائد عبودية الأجر كما يستهجن الآن العبودية الكاملة والقنانة، و حتى يستهجن غالبية البشر الملكية الخاصة كما يستهجنوا الآن أكل لحوم البشر.
*بالرغم من الصعوبات التى لا تنكر أمام نجاح التعاونيات إلا أن نقطة قوتها الأساسية فى مواجهة نقطة ضعف المشروع الرأسمالى، هو أنها يمكن أن تبيع سلعها وخدماتها بأسعار أقل كثيرا مما هو سائد فى السوق الرأسمالى، وذلك بخصم معظم ما يحصل عليه التجار والوسطاء والمقرضون من سعر السلعة أو الخدمة، والاكتفاء فى هذه الحالة بالبيع بأسعار أعلى قليلا من أسعار المنتج المباشر للسلعة أو الخدمة لتحقيق هامش بسيط للعائد يغطى المصروفات الإدارية و تكوين الاحتياطى والخدمة الاجتماعية، وذلك فى حالة التعاونيات التى تبيع السلعة أو الخدمة، ومن ناحية أخرى فى التعاونيات التى تنتج السلعة أو الخدمة، فأنه يتم بيع السلعة أو الخدمة بسعر أقل مما يبيع به الرأسمالى سلعه أو خدماته، وذلك بخصم صافى ما يحصل عليه الرأسمالى من أرباح من سعر السلعة أو الخدمة بعد تغطية التكاليف والاحتياطى، وجدير بالملاحظة أنه يمكن توفير الكثير من التكاليف غير الضرورية المحملة على سعر السلعة أو الخدمة التى يتطلبها المشروع الرأسمالى فى إطار منافسته مع المنتجين الآخرين كتكاليف الدعاية والإعلان مثلا، و كل هذا يعطى التعاونيات قدرة هائلة فى مواجهة المشروع الرأسمالى.
*يبدأ طرح التعاونية كحل لمشكلات كل من العمال فى التحرر من عبوديتهم المأجورة و من الاستغلال الرأسمالى ، و المتعطلين عن العمل والمهمشين من أجل إيجاد فرص عمل حرة وكريمة بدلا من التسول من الدولة والأغنياء، و صغار المهنيين والحرفيين والفلاحيين فى التحرر من البلطجة الحكومية وغير الحكومية، ومن الاستغلال الرأسمالى على السواء ، و بالطبع يحتاج الأمر نضالا لتجميع هؤلاء وتنظيمهم و إرشادهم، ومساعدتهم من أجل تدبير الرأسمال الكافى لممارسة نشاطهم، وهى عمليات ليست بالهينة بل تحتاج لإبداعات لكنها غير مستحيلة، حيث أن أى مشروع يمكن أن يبدأ صغيرا وينمو كما قد يفشل، و عليهم والحال هكذا أن يعتبروا أن نجاحهم الاقتصادى فى مواجهة متطلبات السوق الرأسمالى والتدخل الحكومى مهمة حياة أو موت بالنسبة لهم، وفى نفس الوقت أن يدعموا السياسات التى تحقق استقلالهم و نجاحهم وتلبى مصالحهم.
*يبدوا أن الحلف التعاونى الدولى تنبه إلى الصعوبات التى تواجه التعاونيات فى ظل ظروف المنافسة الرأسمالية السائدة، فأضاف مبدأ تعاونيا جديدا وهو تعاون التعاونيات، وهو يعنى الحرص على أن لا تنشأ أى منافسة بين التعاونيات، بل و أن تتعاون التعاونيات المختلفة و تتكامل فيما بينها محليا وكوكبيا، حتى يتطور الأمر بعد توسع الحركة التعاونية إلى حد كافى يتيح للتعاونيات أن تقرر ألا تتبادل سلعها وخدماتها إلا فيما بينها، فتحقق أسلوبا للتبادل التعاونى بين المنتجين والمستهلكين التعاونيين مستقلا عن السوق الرأسمالى، وفى هذه الحالة يمكنها فحسب أن تثبت تفوقها على الرأسمالية، من حيث الكفاءة فى اشباع الاحتياجات البشرية، وقد ناقش الحلف التعاونى الدولى مؤخرا بمناسبة مرور مئة وخمسين عاما على إقامة أول تعاونية فى روتشديل بانجلترا عام 1844،إمكانية إقامة اتحادات تعاونية متعدية الجنسية لتحقق هذا التكامل فيما بين التعاونيات كوكبيا، فى مواجهة المؤسسات الرأسمالية متعدية الجنسية التى تستفيد من اتساع السوق الكوكبى.

الجمعة، 28 مارس 2008

ردين للفعل على الاستعمار

ردين للفعل على الاستعمار
سامح سعيد عبود
أتى الغزو الاستعمارى كنتيجة منطقية للتوسع الرأسمالى الذى انطلق من غرب أوربا ليكتسح العالم مكونا حضارة رأسمالية عالمية واحدة ، وفى سياق الغزو و كأثر من آثاره تكون نوعين من رد الفعل ، لا يخفى جذرهم العنصرى فى الحالتين .
رد الفعل الأول الناتج عن الصدمة الحضارية هو الاحساس بالنقص والشعور بالدونية فى عقول قطاعات من شعوب العالم الثالث المتخلف والتابع الذليل للرأسمالية العالمية ، وذلك هو الوجه الآخر من الاحساس بالتفوق والشعور بالاستعلاء فى وعى قطاعات من شعوب العالم المتقدم والمسيطر ، فلكى تستمر حالة التبعية والتخلف لابد وأن يتم إيهام تلك الشعوب بأنها أقل ذكاءا أو نشاطا أو أخلاقا وهذا سر تخلفها ومن ثم تبعيتها ، وبالتالى عليها أن تظل تابعة للأكثر ذكاءا ونشاطا وأخلاقا فهذا هو قدرها المحتوم الذى عليها أن تقبله صاغرة ..أما الحديث عن النهب الاستعمارى المنظم لثروات الشعوب وإعاقة تقدمها ،وبذر بذور تخلفها ،ورعايتها والعناية بها حتى وصلت هذه الشعوب لذاك المستوى من التخلف ،باعتبار أن هذا هو العامل الأساسى وراء كل هذه المظاهر ،و تناسي أن الكثير من هذه الشعوب ومنها الشعب المصرى ،كانت ذات تاريخ حضارى عريق ، فهو ما يتم طمسه و لايتم الكشف عنه وتوضيحه إلا أحيانا . وهكذا يتم الاستخفاف بالثقافة المحلية ، ومحاولة محو كل ما هو خلاق بها ، وإبراز كل ما هو جامد وسقيم ومتخلف ، كدليل على انحطاط الشعوب المتخلفة ، وابهارها بالجانب المظلم فى الثقافة الرأسمالية الحديثة ، ليستمر العبيد فى عبوديتهم للسادة الاستعماريين.
أما رد الفعل الثانى ، فهو على النقيض من رد الفعل الأول ، إذ يحاول متبنوه التمسك بالطرف الآخر من التمايز والخصوصية التى يتمسك بطرفها الأول متبنوا رد الفعل الأول ،مقدمين ما يتمسكوا به كمبرر للتحرر الوطنى والقومى فيما لا حاجة لمبرر له ..فأنت لكى تصبح حرا لاتحتاج لأى مبرر لرغبتك فى الحرية ، وهى الحق الذى لا نزاع فيه لكل الشعوب والأفراد ، وقدس الأقداس الذى لا يجوز تدنيسه بأى قيود إلا حريات الآخرين.
فهؤلاء تحت حجج التمايز الحضارى والثقافى ، و أيديولوجيات الهوية والخصوصية الجماعية دينية كانت أو قومية ، لا يرون سوى الجانب المظلم فى الحضارة والثقافة الحديثتين باعتبارهما نتاج العالم المتقدم الذى لا يرون فيه سوى الجانب الاستعمارى العنصرى البغيض ،ويتعامون عن أن بجانب هذا الجانب وكناتج عن الصراع الطبقى والاجتماعى الذى يموج به العالم المتقدم ، يوجد جانب مستنير و إنسانى وتقدمى . وهم غافلون على أن مواجهة العنصرية بعنصرية مضادة لابد و أن يخسر فيها الطرف الأضعف والمتخلف ،فالعنصرية البغيضة لا تواجة إلا بما هو مستنير و إنسانى وتقدمى .
و هؤلاء فى نفس الوقت الذى يستوردون فيه التكنولوجيا الحديثة والسلع الاستهلاكية الحديثة ، يرفضون العلوم الاجتماعية الحديثة والفكر الحديث بحجة أنه وارد العالم المتقدم ،والحقيقة أنه ماوجدت حضارة فى العالم إلا وتأثرت بفكر أجنبى أو استوردت تكنولوجيا أجنبية ،فالعلوم والأفكار والثقافات حق مشاع لكل البشر لهم أن ينهلوا منها كيفما شاءوا ، فهى نتاج العقل البشرى الواحد ، والذى لايصح أن نضعها فى موضع واحد مع السلع التى تصدر وتستورد ، فحتى هذه السلع فقدت طابعها المحلى والقومى مؤخرا . فى الوقت الذى فيه تتزايد معدلات التوحد البشرى فى ثقافة عالمية واحدة ، ويتحول البشر من العيش فى جزر اجتماعية منعزلة إلى الحياة فى قرية صغيرة واحدة بفضل ثورة الاتصالات الحديثة ، قرية هى وطننا جميعا نحن سكان الأرض ، والذين نشترك فى العديد من المشكلات المشتركة التى تتطلب منا حلولا عاجلة على مستوى العالم ،وتتطلب تضافر جهود البشرية بأسرها بعيدا عن كل ما يفرقها من قوميات وأديان وثقافات ولغات وألوان ، ولكن الغريب أنه مع كل ذلك فالنزعات القائمة على الهوية الجماعية دينية كانت أو قومية تزداد انتشارا وقوة بوجهها العنصرى البغيض ، سواء فى العالم المتقدم أو المتخلف على السواء . بل وللأسف ومن واقع تجربتى فقد لاحظت انتشارها بقوة فى أوساط غالبية المثقفين العرب .
أن محاولة التقوقع حول ما هو محلى و قومى تفترض أن الثقافة المحلية تكفينا شر البحث العقلانى عن الأفضل و الأكثر كمالا ورقيا وتطورا ، ومن ثم البناء على هذا الأساس ،تطورا حضاريا جديدا ،كما فعل الأغريق بتراث المصريين القدماء ،والأوروبين بتراث العرب والمسلمين ،والعرب بتراث الأغريق والفرس والهنود والرومان .
فانصار الهوية الجماعية المتهافتة وتحت مسمى التمايز والخصوصية ،يرفعون شعارات الرسالة القومية الخالدة ،أو الرسالة الدينية المنقذة للبشرية من سقوطها ، وهم فى كل الأحوال و تحت شتى الدعاوى استبداديون مهما أدعوا الديمقراطية ، و رجعيون مهما زعموا من تقدمية ، وهم يغذون ويتغذون على التعصب القومى أو الدينى الأعمى ، ويتنفسون التفاهات والسطحيات مهما غلفوها بالسفسطة الغامضة التى توحى بالعمق ، وقد يصل الحال ببعضهم أحيانا إلى حافة الهوس والجنون والحمق ، فنجد كتاباتهم على العموم لا مكان لها إلا بين أطباء النفس والعقل حيث تمتلأ بكل أعراض الهوس والبارانويا والهستريا واللاعقلانية فى المنطق والأسلوب ..و إلا ماذا نسمى ما لديهم من اعتقادات خاطئة ثابتة بالتفوق الجوهرى على كل الآخرين ، وانهم بسبب هذا التفوق يتعرضون لمؤامرات الآخرين واضطهادهم و كراهيتهم، ذلك أن هؤلاء الآخرين يخشون تفوقهم الفطرى المكبوت عن الانفجار بسبب ذلك التآمر، وهم دائمى الشكوى من الاضطهاد والكراهية من الآخرين، هؤلاء الذين يعرفون سواء معترفين أو منكرين بتفوقهم سواء بما يملكوه من ثقافة محلية ، أو دين أو سمات قومية معينة ،أو تراث حضارى قديم .
العالم المتقدم لم يبنى حضارته الرأسمالية التى سادت العالم على رمال التآمر على العالم المتخلف واضطهاده فحسب ، فقد كانت كل أعمال النهب والتآمر والقهر والاستغلال مجرد أجزاء ثانوية فى عملية البناء العظيمة لتلك الحضارة وكنتيجة لها وليست سببا بأى حال من الأحوال ، فالرأسمالية كنمط إنتاج وحضارة وثقافة حققت انتصاراتها لأنها الأكثر تطورا وتقدما وكفاءة بما يكمن فى جوهرها نفسه من إمكانيات هائلة للتقدم والتطور بما يفوق وبما لاقياس معه أى أنماط إنتاج سابقة ، فالحقيقة أن مركز الحضارة الرأسمالية العالمية ، وفى حين أن عدد سكانه لا يتجاوز خمس سكان الأرض ينتج 90% من الإنتاج العالمى المادى فضلا عن السواد الأعظم من الإنتاج الفكرى فى الفن والأدب والعلم والفلسفة والثقافة التى مازال المحيط المتخلف يقتات عليه .
أنصار الهوية الجماعية فى بلادنا العربية يصدعون رؤوسنا بالحديث عن الغرب المادى والشرق الروحانى ،وما يندرج تحت هذا من تفصيلات وتنويعات هى من الخرافات التى لاتليق إلا بالأطفال ، حيث لا تؤسس على دراسة موضوعية لتاريخ البشرية وتراثها العالمى ، وانما هى تهويمات أقرب للغة الشعر والخطابة تذكرنا بأنماط الشعر القديم من هجاء ومديح ،فالغالبية الساحقة من من يكتبون لدينا لا يفهمون من وظيفة للكتابة إلا ما كان يفهمه الشاعر أو الخطيب الجاهلى من الانتصار لقبيلته والهجوم على غيرها من القبائل .
و أنصار الهوية الجماعية تحفل كتاباتهم بالإدعاءات الكاذبة النابعة من التعصب الأعمى ،حيث يعظمون بلا عقل و لا تفكير التراث المحلى والثقافة القومية بكل ما فيهم من مبتذل ونفيس ، بل يرفضون الاعتراف بكون المبتذل مبتذلا أو ينكروه ،ويتحول لديهم كل ما هو محلى إلى شىء مثالى مطلق ، فالجماعات الإسلامية مثلا لا تبرز و لا تعترف إلا بكل ما هو عظيم فى الحضارة الإسلامية ، فى حين ينكرون الهزائم التى عرفتها تلك الحضارة ، كما يرفضون الاعتراف بالظلم الاجتماعى والاستبداد السياسى والاستغلال الاقتصادى طوال تاريخ تلك الحضارة ، ومن ثم يغضون الطرف متجاهلين الثورات الشعبية ضد الطبقات السائدة التى أزاقت الظلم والاستبداد والاستغلال لطبقات المقهورين باسم الإسلام والدين والشريعة ،ولم يكن هذا ليمنع أن تقدم الحضارة الإسلامية ما قدمته للعالم من تراث حضارى غنى ، فقضية التقدم والتخلف شىْ مختلف عن ما نتحدث عنه من مظالم عرفت ما هو أكثر منها الحضارة الرأسمالية نفسها الأكثر تقدما . فلا يمكن أن لا نحارب الرأسمالية لأنها قدمت للعالم كل هذا التراث الحضارى الأكثر تقدما ورقيا وتطورا بما لا يقاس به أى تراث آخر بلاشك . غافلين عن ما ارتكبته من جرائم ومخازى .
فالإسلاميون والقوميون العرب عموما لا يعترفون بمخازى ومفاسد الطبقات العليا فى المجتمعات الإسلامية ،من خلفاء و أمراء وصفوة رجال الدولة والعسكر بل والكثير من رجال الدين وعلمائه ،ولحسن الحظ ،وبرغم قلة ما وصلنا من كتب التاريخ والأدب ،ومع كثرة ما عراها من تزييف وتشوية لصالح الطبقات السائدة والفاسدة ،إلا أننا استطعنا أن نعرف الكثير مما كان يحدث فى قصور الأغنياء و أكواخ الفقراء ،أما هم فلا يقرأون فى التاريخ الإسلامى إلا ما يرغبون فى قراءاته من جوانب مشرقة ، وينكرون ما دون ذلك باعتباره أكاذيب وإفتراءات ، ذلك لأنهم لا يعترفون إلا بما يرضى ذواتهم المتعصبة ،أما الحقيقة فلتذهب للجحيم . فهم يقيمون لحظات الانتصار العظيمة فى التاريخ كدليل على سمو الشعب أو الثقافة المحلية وانحطاط الشعوب الأخرى والثقافات الأخرى وخصوصا الثقافة العالمية الحديثة و بالأخص وهذا هو بيت القصيد فى اتجاهاتها التقدمية .
هذا هما ردى الفعل على ظاهرة الاستعمار الحديثة ، وهما ردى فعل لن ينجزا لا قضية التقدم و لا قضية التحرر لجماهير المقهورين فى العالم .إن لم يكن التمسك بهما معرقلا لكل من التقدم والتحرر

أزمة اليسار الوطنى

أزمة اليسار الوطنى
سامح سعيد عبود
(( ردا على ما جاء فى كل من مقال " القوى التقدمية ومستقبل مصر" للأستاذ عبد الغفار شكر . ومقال " قضايا ملحة فى تطوير الفكر الاشتراكى العلمــى فى مصر للأستاذ حلمى شعراوى فى مجلة الطريق اللبنانية – العدد الرابع يولية / أغسطس 1995تحت العنوان الكبير " نحو تجديد الحركة التقدمية المصرية " ))
ظهرت الحركات الاشتراكية فى مصر ، الماركسية منها وغير الماركسية وجنود الاحتلال الإنجليزى يعربدون فى شوارع القاهرة والإسكندرية ، وشهدت صعودها الأخير وجنود إسرائيل يحتلون أرض سيناء . وقد انطبق منحنى هبوط وصعود تلك الحركات مع منحنى هبوط وصعود حركة التحرر الوطنى ، وتربت أجيال تلك الحركات على إعلاء الصراع القومى على حساب الصراع الطبقى ، وفى أحسن الأحوال المزج بينهما . صحيح أن الماركسيين منهم كانوا يصرحون بأمميتهم ، إلا أنهم فى الممارسة العملية ، وفى خطابهم السياسى ، و رؤيتهم النظرية ، لا تحركهم إلا الأهداف و المبادئ القومية المطعمة برؤية شعبوية ، وقد امتلكوا من الجسارة ما جعلهم يمزجون بين المنهج الماركسى ومناهج الهويات القومية والحضارية والثقافية . مما أورثهم أزمتهم المزمنة .
ولما أصبحت أزمة الاشتراكية واضحة للعيان غير منكرة من أحد ، و أصبح حديث البحث عن مخرج لها ، هو حديث كل المتمسكين بهدف العدالة الاجتماعية ، وأخذت دعوى تجديد كل من الفكر الاشتراكى والحركة الاشتراكية تجد قبولا واسعا ، إلا أننا نلاحظ فى كثير من الأحيان أن بعض دعاوى التجديد أخذت تدعو لنفس الأفكار القديمة . وتطرح الحلول القديمة نفسها لمشكلات واقع قديم تجاوزها التاريخ فعليا ..حيث أن خبرات الصبا والشباب تظل تلقى بظلها على أذهان الشيوخ رغم تغير ما يعيشونه من أحوال .
فالأستاذ حلمى شعراوى يكتب فى مقاله " إنه لا يعقل ألا يدرك الاشتراكيون المصريون معنى وجودهم فى مجتمع فلاحى لتغيب المسألة الفلاحية بهذا الشكل عن فكر وممارسة الفصائل المهيمنة على الحركة الاشتراكية فى مصر والعالم العربى " فعندما يتحدث خطاب اليسار الوطنى على الطابع الفلاحى للمجتمع المصرى ، فأنه يتعامى عن حقيقة أن المجتمع المصرى فقد طابعه الفلاحى بل والزراعى منذ فترة طويلة . حيث تبلغ قوة العمل فى مجال الزراعة 30% من أجمالى قوة العمل ، حوالى 4مليون عامل زراعى من أصل 13مليون عامل بأجر هم إجمالى قوة العمل المصرية حسب إحصاء 1986. ويبلغ مجموع الحيازات الزراعية حوالى 3 مليون حيازة من حيازات أشباه البروليتاريا الزراعية وحتى حيازات كبار الملاك الرأسماليين الزراعيين . وأن جملة سكان المدن يبلغون 64 %من إجمالى تعداد السكان فى أواخر الثمانينات فى حين كانوا 25% فى الخمسينات .ويعمل30 % من إجمالى قوة العمل فى الصناعة و 40 % من إجمالى قوة العمل فى التجارة والخدمات ( كل هذه البيانات مستمدة من إحصائيات تعداد السكان لسنة 1986) .
فقد تحول المجتمع المصرى الزراعى الذى كان يعيش على زراعة القطن وتجارته ، إلى مجتمع خدمى يعيش على دخل قناة السويس والبترول والسياحة و إيرادات المصريين العاملين بالخارج فى حين تأتى الزراعة والصناعة كمصادر للدخل فى آخر القائمة . وبرغم أن المجتمع المصرى أكثر المجتمعات تصنيعا فى المنطقة العربية فأن إجمالى ما يشارك به العالم العربى فى الإنتاج العالمى بما فى ذلك البترول يبلغ حوالى 2,5 %.
فهل بمثل تلك الأفكار القديمة المستندة على معلومات قديمة فقدت صلاحيتها منذ زمن طويل يمكن تحديد أطر حركة تقدمية جديدة ، قادرة على تجاوز أزمة الاشتراكية الراهنة . والتى كان السبب الرئيسى لها التمسك بنفس تلك الأفكار ؟.
يفسر خطاب اليسار الوطنى الأزمة المجتمعية الشاملة التى تعيشها مصر على إنها بسبب توجه الحكم نحو المزيد من الليبرالية الاقتصادية ، استجابة لتوجهات الدول الدائنة ، وتنفيذا لبرنامج التثبيت الهيكلى هكذا يبدأ الأستاذ عبد الغفار شكر مقاله ، وهذا التفسير يتغافل عن الأساس المادى الذى دفع ويدفع كل دول العالم بلا أدنى استثناء من دول المركز الرأسمالى المتقدم الدائنة ، إلى الدول البيروقراطية المسماة بالاشتراكية ، إلى أنظمة التحرر الوطنى ، سواء أكانوا ما يزالون يرفعون لافتاتهم أم تخلوا عنها ، إلى إتباع نفس السياسات الليبرالية ، ولماذا سقطت كل أشكال تدخل الدولة فى عملية الإنتاج ، بسقوط كل الاشتراكيات الستالينية والديمقراطية والقومية والدينية وعلى نحو متزامن ومطرد منذ عقد السبعينات ؟ هل هى الخيانات والمؤامرات وفقا للتفسير التآمرى للتاريخ ؟ أم الضرورة المادية الكامنة وراء تطور المجتمعات ألا وهى ضرورة تطوير قوى الإنتاج وفقا للتفسير المادى للتاريخ ؟ .تلك الضرورة التى أجبرت نفس الدول الدائنة على التخلى عن السياسات الكينزية بكل ما تعنيه من قيام الدولة بدورها الاجتماعى بتدخلها فى عمليات الإنتاج والتوزيع والتبادل . وهى فى هذا لا تختلف عن الحكومة المصرية أو أى حكومة أخرى إلا فى الدرجة . وبالتالى فالأمر لا يتعلق بخيانة ما من الحكومة المصرية لوطنها أو شعبها الذى تحكمه . فما يحدث هو جزء من اتجاه عالمى ، وبالتالى فإن نظريات الردة والخيانة والمؤامرة ، بل وحتى نظرية التبعية لا تصلح لتفسيره .
أما التفسير الصحيح فهو أن دور الدولة القومية المباشر فى عملية الإنتاج استنفذ قدراته فى تطوير قوى الإنتاج ، وحل أزمات ومشكلات النمو ، بل وأصبح معوقا أمام تطوير تلك القوى ، بعد ما كان الوسيلة المثلى لكل البورجوازيات الضعيفة والعاجزة والمأزومة لحل مشكلاتها مع هذا النمو فى الفترة من أواسط القرن الماضى وإلى السبعينات من القرن الحالى ، وذلك من خلال اشتراكيات الدولة ثم الاشتراكيات الستالينية ، ثم الاشتراكيات الديمقراطية والقومية والدينية عبر العالم بأسره .
والسر وراء هذا التحول من النقيض إلى النقيض هو التدويل الكامل للقسم الأعظم والأكثر أهمية من الإنتاج والتوزيع والتبادل من خلال الشركات المتعدية الجنسية العملاقة التى تسيطر على 70 % من الإنتاج العالمى ، وتداعيات هذا التدويل ونتائجه التى تشكل مرحلة جديدة من النمو الرأسمالى تجاوزت المرحلة الاحتكارية القديمة بكل خصائصها المعروفة . ومن هنا فإن الأزمة المصرية لا تخص مصر فحسب ، إلا أنها التجلى المحلى لأزمة عالمية تضرب وبعمق فى أسلوب الإنتاج الرأسمالى . ولا مخرج من هذه الأزمة إلا بإحداث تغيير شامل يتضمن أسس تنظيم الإنتاج والقاعدة الاجتماعية للسلطة والحكم والقيم السائدة ، إلا أن هذا لا يمكن أن يحدث فى مصر وحدها بمعزل عن العالم بأسره .
فإقامة الاشتراكية الحقيقية من حيث هى سيطرة المنتجين الأحرار على قوى الإنتاج على بنية تخلف هو حلم طوباوى يتنافى والتفسير المادى للتاريخ ، وبالتالى فهو مستحيل التحقق وإن كان التطور اللامتكافى ء سيظل أساسا فعالا لتمردات وانتفاضات عمالية أو شعبية قد تصل بالطبقات الشعبية إلى السلطة . إلا أنها سرعان ما سيصيبها التدهور البيروقراطى فى المجتمعات المتخلفة نتيجة تخلفها أولا وحصار البلدان الأكثر تقدما والتى تحوز على قوى الإنتاج الأكثر تقدما ثانيا . ولا يمنع هذا بالطبع أن يحدث التدهور البيروقراطى فى الدول المتقدمة إن حدثت بها ثورات اشتراكية نتيجة عوامل مختلفة أهمها الحصار من الدول المعادية . وهذا ما أثبتته تجربة الثمانين عاما الماضية ، وما أثبته التحليل العلمى . فالبيروقراطية والفساد والاستبداد هى أبرز سمات كل التجارب الاشتراكية والعلمية فى الشمال والجنوب من روسيا إلى تنزانيا ، ومن كوريا الشمالية إلى كوبا . وقد سبق لى تناول هذه الظاهرة العالمية على نحو أكثر تفصيلا أسبابها ونتائجها فى مقالين سابقين أحدهما بعنوان "نقد الحركات الاشتراكية العلمية "وعنوان "اشتراكية أم دولنه للإنتاج" .
وإذا كنا قد تعلمنا أنه لا يهم ماذا يقول الناس عن أنفسهم ، وإنما المهم ما يمكن أن تحتويه سلوكياتهم من مضامين حقيقية ، وما تخفيه أفكارهم الظاهرية من مضامين متناقضة فإننا لابد وأن نبحث عما وراء خطاب اليسار الوطنى الذى يمثله كل من الأستاذ عبد الغفار شكر والأستاذ حلمى شعراوى سنجد أنه يسعى إلى قيام دولة وطنية قوية متحررة من التبعية فى مصر أو عبر العالم العربى . تعيد تأسيس رأسمالية دولة جديدة أو نظم بيروقراطية جماعية حسب الأحوال ، تحت لافتات الوطنية أو الاشتراكية . أنهم بالجملة يصرون على بعث النماذج الناصرية و البعثية و الستالينية و الماوية ، سواء فى صورهم الأصلية أم فى صورهم المعدلة بالرتوش الديمقراطية ، وخلف رطانتهم الطبقية تقبع أيديولوجياتهم الأصلية الوطنية أو القومية الطابع ، أيديولوجيات الهويات الثقافية أو الحضارية أو القومية ، والتى من خلالها يقمعون الصراع الطبقى ، أو يحولونه لصالح أهدافهم الأيديولوجية ، وهو ما يختلف عن تصور آخر لثورة عالمية تتحرر فيها كل قوة العمل المأجورة من القهر والاستغلال والاغتراب وعبودية العمل المأجور ، وهو تصور لا يعنى الحريق الثورى الفجائى ذات ليلة ما عبر الكرة الأرضية بأسرها ، و إنما المقصود عملية اجتماعية عبر العالم تكون تيار من التحولات التى تأخذ أشكال مختلفة ، وفى فترات زمنية مختلفة ، وعبر عقود من الزمن ، وفى أماكن متنوعة من عالمنا بسيناريوهات متباينة ، ليس بالضرورة متطابق مع ما أشارت إليه النصوص الماركسية أو اللاسلطوية أو الاشتراكية المختلفة على وجه العموم تعتمد على أن الصراع الحقيقى ، وهو الصراع الطبقى الذى هو طريق التحول الاجتماعى ، والذى بحسمه عمليا ستزول كافة أشكال القهر بما فيها القهر القومى ، فالتغيرات الاجتماعية من هذا النوع لا تتم بين يوم وليلة أو فى إطار واحد . فقد أخذت الرأسمالية ومن قبلها الإقطاع عقود من الزمن حتى سادت المجتمعات ، لم يتوقف خلالها أو بعدها التطور .
الحقيقة أن إفلاس اليسار الوطنى العربي أمام القوى الليبرالية ، وقوى الإسلام السياسى ، يرجع إلى أن الأولى تتواءم مع متطلبات العصر الإنتاجية ، وأن الثانية تتجاوز حدود كل من القومية العربية أو الوطنية المصرية الضيقتين إلى نطاق جغرافى أوسع يحوى مليار نسمة يشكلون سدس سكان العالم ، فضلا عن رؤيتهم الأممية فى نشر الإسلام عبر العالم . فوق أنهم الأكثر قدرة على تحقيق الدولة القوية القادرة على إحداث التراكم من أجل النمو ، بما لدى أيديولوجياتهم الدينية من قدرة طاغية على حشد طاقات الجماهير الإنتاجية من أجل تحقيق التراكم الرأسمالى ومن ثم النمو . وذلك على عكس أصحاب الرطانة اليسارية الذين ثبت فشلهم التاريخى فى خلق الدولة القوية ، فضلا على أن أيديولوجياتهم الوطنية أصبحت أضعف تأثيرا فى حشد الجماهير . وهم برغم ما يدعونه من امتلاكهم المنهجية العلمية ، إلا أنهم يتغافلون عما يحدث فى الواقع من تغيرات أجبرت البيروقراطية السوفيتية التى ظلت تتحكم طوال 70 عاما فى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم على التخلى عن سلطتها وامتيازاتها ، رغم أن هذا الاقتصاد كان الأعظم من كل اقتصاديات العالم فى التمتع بالاستقلال عن السوق الرأسمالى العالمى ، فقد خنق هذا الاقتصاد المستقل بحصار القوى المعادية له خارجيا ، رغم تمتعه بالاستقلال عنها وبسبب هذا الاستقلال نفسه ، وانهار على اتساع سوقه القومى ، حيث فازت عليه فى المنافسة الرأسمالية الكوكبية المتقدمة التى جددت نفسها عبر استفادتها من كل إمكانيات السوق العالمى..تلك الرأسمالية التى أصبحت منذ السبعينات هى الأكثر كفاءة اقتصادية وديمقراطية وعقلانية من كل الأنظمة البيروقراطية والوطنية التى عرفها العالم فى القرن العشرين ، مما يعنى وبنفس المقاييس التى حددها الأستاذ عبد الغفار شكر فى نفس المقال للتقدم أنها الأكثر تقدمية من النماذج التى يدعونا اليسار الوطنى للنضال من أجل استعادتها مع بعض التعديلات الديمقراطية المناسبة . فهل يمكن لدولة متخلفة أن تحقق مقاييس التقدم من كفاءة اقتصادية وعقلانية وديمقراطية وعدالة اجتماعية دون استبداد بوليسى يحميها من العالم المعادى ، ويسمح لها بتحقيق التراكم من أجل النمو ، وهل يتلاءم التشديد فى عملية التراكم مع ديمقراطية حقيقية تمارسها الجماهير المحرومة ، بسبب انتزاع الفائض الاجتماعى منها من أجل التراكم ؟.
إن هذا لا يعنى أن الرأسمالية كأسلوب للإنتاج هى نهاية التاريخ ، أو أنها مازالت النظام الملائم للتقدم ، فالمرء لا يسعه إلا أن يتفق مع الأستاذ عبد الغفار شكر بالإقرار أنها نظام رجعى ، يهدد استمراره مستقبل البشرية بأسره ، ولذلك فأنه يجب النضال عالميا من أجل تدميره ، ومن أجل بناء نظام أكثر كفاءة اقتصادية وعدالة اجتماعية وعقلانية وديمقراطية ، إلا أن هذا مشروط علميا بقوى إنتاج أكثر تطورا من تلك التى تقوم عليها الرأسمالية أخذت بشائرها طريقها فعلا إلى الإنتاج . هذا إذا ما التزمنا بالتمسك بقوانين المادية التاريخية وعلى رأسها قانون ضرورة تطابق قوى الإنتاج مع علاقات الإنتاج .
إن النظام الذى يبشر به اليسار الوطنى ليس هو البديل المناسب الآن للرأسمالية . فمازال رغم كل التعديلات هو برنامج رأسمالية الدولة الوطنية التى تجاوزها التاريخ ، والقائمة على أساس من تدخل الدولة من أجل تطوير قوى الإنتاج ، وحل أزمات النمو . ولذلك فأن هذا اليسار يعتبر أن البورجوازية المنتجة هى جزء من حلفه الطبقى ، وبالتالى أحد مكونات مجتمعه المستقبلى ، وبصرف النظر عن صحة المفهوم من عدمه ، والذى لا يسع المقال مناقشته الآن ، فأن المشروع الثورى والتقدمى حقا ، هو النفى الكامل للرأسمالية كنظام اجتماعى اقتصادى ، مما يعنى نفى البورجوازية تماما سواء أكانت منتجة أم غير منتجة . و لا يقلل من عقلانيته أو إمكانيته أنه ليس مطروحا على المدى القريب.
والحقيقة أن البورجوازية المنتجة أى ملاك المصانع والمزارع الرأسمالية يستفيدون أكثر من أوضاع الترابط مع الرأسمالية العالمية ، وإن حرمانهم من إمكانيات السوق العالمى تعنى حرمانهم من وسائل الإنتاج الأكثر تطورا ومن ثم من الربحية الأعلى الناتجة عن الإنتاجية الأعلى ، التى يحققونها كشركاء للرأسمال العالمى ، وهو الأمر الواقع فعلا فى مصانع المدن الجديدة فى 6اكتوبر والعاشر من رمضان ،والمزارع الجديدة فى الأرض المستصلحة .
ولا يمل اليسار الوطنى ولا يكل من الحديث عن التجربة الناصرية ، باعتبارها تجربة تنمية مستقلة . وما أشبه هذا بأكذوبة ، صارت كالحقيقة من كثرة ترديدها .. فلو تأملنا قائمة شركات القطاع العام الوطنى والمستقل المزعومة التى تكونت فى مصر فى الستينات . سنجد أن العديد من هذه الشركات ما هى إلا مصانع تعبئة منتجات لشركات عالمية متعددة الجنسية كشركتى البيبسى كولا والكوكاكولا والكثير من شركات الأدوية مثل فرايزر ونستلة ، وشركة فيات التى تجمع سيارتها شركة النصر للسيارات تحت اسم سيارة نصر ، و شركة فيليبس التى تجمع منتجاتها مصانع الإلكترونيات ، وشركة الجرافيت وأقلام الرصاص التى تستورد الخشب والجرافيت والمطاط لتصنع قلم رصاص أغلى وأسوأ من نظيره المستورد ، وحتى شركات النسيج سنجدها تعمل على آلات مستوردة من شركات عالمية لإنتاج الآلات ..وهكذا..والحقيقة أنه لا يمكن لأى سلعة الآن أن تنتج ويتم تبادلها إلا على مستوى العالم حتى تحقق أكبر كفاءة ممكنة مستفيدة من المزايا النسبية ..حتى السلع التى تنتجها البورجوازية الصغيرة كالمحاصيل الزراعية والمنتجات الحرفية ، فأن تحقيق كفاءة أعلى وإنتاجية أفضل لتلك المنتجات يستوجب العالمية لإنتاجها . وليس المحلية .
ولأن مصطلحات الجبهة والتحالف وما إليهما هى التمائم السحرية لليسار الوطنى ، والتى كلما اتسع نطاقها زادت قوتها السحرية ، فأنه لا يمانع من إضافة قوى هلامية موزعة على كافة طبقات المجتمع ، واتجاهاته السياسية كالشباب والنساء إلى الحلف الثورى أيضا ، تنقسم بالضرورة ، وتتحدد مواقفها السياسية وفقا لموقعها الطبقى ، وليس وفقا لعمرها أو جنسها ،كما يمكن للمثقفين أن يتوزعوا على كافة طبقات المجتمع وفقا لميول كل منهم الفكرية ، والطريف أنهم يتشابهون مع الاتجاهات التروتسكية التى تضع المضطهدين بسبب ميولهم الجنسية فى الحلف الثورى جنبا إلى جنب مع الطبقة العاملة .
إن خطاب اليسار الوطنى وعلى سبيل المثال مقال الأستاذ عبد الغفار شكر يبوح بحالة من الفصام الحقيقى التى يعانيها فكر هذا اليسار فكتاب " الرأسمالية تجدد نفسها " للدكتور فؤاد مرسى أحد أقطاب هذا اليسار ، لابد أن يستنتج من يقرأه بضرورة الثورة الاشتراكية على نطاق عالمى ..حيث يؤكد الكتاب على عدم إمكانية بناء الاشتراكية فى بلد واحد أو التنمية المستقلة بعيدا عن السوق العالمى الموحد بالفعل ، فالأستاذ عبد الغفار شكر يؤكد على التغيرات التى حدثت بالعالم ، والتى لا تتفق حقائقها مع خطابه السياسى ، إلا أنه بالرغم من هذا الاعتراف الأمين بهذه التغيرات الواقعية ، مازال يتشبث برؤية تنتمى للواقع كما كان فى الماضى حيث أفرز هذا الماضى ..فالازدهار العظيم لحركات اليسار المرتبطة بمفهوم الدولة القومية القوية خلال المائة سنة السابقة على الثمانينات ، يمكن تفسيره بالاحتياج الموضوعى لدور الدولة المباشر فى عملية الإنتاج ، كما يمكن تفسير أزمة هذا اليسار الآن منذ الثمانينات وعبر العالم بأسره بالاحتياج الموضوعى أيضا لتدمير دور الدولة المباشر فى عملية الإنتاج على النحو الذى كان يطرحه اليسار عبر قرن من الزمان بألوانه المختلفة . مما يطرح على اليسار ضرورة التحرر من أسر فكرة الدولة القومية القوية والحرة والمستقلة إزاء شعبها والعالم ..إلا أنه وعلى ما يبدو فأن ما يحرك اليسار ليس التحليل العلمى للواقع ، وإنما أشياء أشبه بالحس الأخلاقى أو الرومانسى نحو الهوية القومية . وما يستتبعه من عبادة للدولة التى تجسد هذه الهوية .
إننا إذا وضعنا فى الاعتبار إن الاندماج فى الاقتصاد العالمى ، يعنى اقتصاد أكثر كفاءة ويعنى إنتاجية أفضل وتطوير أسرع لقوى الإنتاج ، والذى من خلاله يمكنا فقط أن نطرح الاشتراكية على جدول الأعمال الفعلى . وأن فك الارتباط بهذا الاقتصاد يعنى قوى إنتاج أقل تطورا ، وإنتاجية أسوء ، واقتصاد أقل كفاءة . وبالتالى الابتعاد عن النقطة التى تصبح فيها الاشتراكية ممكنة .يجعلنا نقول أن حركات التحرر الوطنى إذا حققت فعلا تحررها من التبعية ، بمعنى فك ارتباطها الكامل بالسوق العالمى ، تصبح حركات رجعية وليست تقدمية بأى حال .
فنظرية الإمبريالية القديمة التى وصفت حالة الرأسمالية الاحتكارية التى كانت تدفع حكوماتها القومية من أجل نهب المستعمرات وتحويلها لسوق لمنتجاتها ومصادر للمواد الخام التى تحتاجها من أجل تلك الصناعات قد تجاوزها التاريخ بتحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية كوكبية عابرة للقوميات ، تجاوزت الدولة القومية لتشكل بالفعل سلطة عالمية فوق الحكومات تعبر عن مصالح الشركات متعدية الجنسية ممثلة فى العديد من المؤسسات الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين وقمة السبعة الصناعية الكبار ومنظمة التجارة العالمية ، والتى أصبح اتجاهها الحاكم بالفعل تفكيك وإعادة تركيب العالم متجاوزة القومية والإقليمية فى تقسيم العمل الدولى ، لينقسم العالم عبر كل مجتمع قومى وعبر العالم كله لقطاعات متقدمة منتجة ومرفهة ، وقطاعات متخلفة وعاطلة و مهمشة ومحرومة ، وذلك من خلال نقل الصناعات كثيفة العمالة من دول المركز المتقدمة إلى حيث دول المحيط المتخلفة كما حدث ويحدث فى الكثير من دول بلدان شرق آسيا وأمريكا اللاتينية .
فما هو الخيار الصحيح أذن إزاء هذه الحالة ، فنحن بالطبع لا نرضى الرضوخ للنظام الرأسمالى الكوكبى ، ومحاولتنا للتحرر من التبعية ، تعنى حرماننا من الكفاءة الاقتصادية ؟ فماذا يبقى لنا فعليا إلا أن نناضل من أجل إسقاطه عالميا ؟ وإذا كانت هذه الفقرة مستفزة للمشاعر الوطنية الجياشة لدى اليسار الوطنى ، فكل ما أستطيع قوله أن عليه التحرر من أوهام الهويات الثابتة ( القومية، الوطن ، الأمة ، الحضارة ، الثقافة ) ليرى ما يعتمل داخل هذه الهويات من تناقضات ، وما يحدث فيها من صراعات .ليعلم كم هى غير مصمتة ،وإنها ليست بثابتة أو خالدة أو مطلقة .
ينطلق الأستاذ حلمى شعراوى فى مقاله كما أنطلق الأستاذ عبد الغفار شكر من تلك الرؤية الوطنية والقومية وأن كان المقال الأول لم يطرح جديدا بالفعل ، وإنما طرح نفس الخط الفكرى لحزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى الذى هو ثمرة الزواج الكاثوليكى بين الناصرية والشيوعية المصرية الممثلة فى تراث " حدتو " والحزب الشيوعى المصرى الأخير فى السلسلة و كامتداد لها ، فأن المقال الثانى يطرح رؤية نقدية لروح المقال الأول وإن كان يتفق معه فى الخط القومى الكامن فى كل سطور مقاله.
ينطلق خطاب اليسار الوطنى كما يمثله شكر وشعراوى من تلك الرؤية الوطنية والقومية ، الطامسة فى حقيقتها الصراع الطبقى محليا وعالميا ، والرافعة من شأن الصراعات بين الهويات الثابتة للقوميات المختلفة ، تلك الأيديولوجية القومية التى حولت الاشتراكية من حركة للتحرر الطبقى والإنسانى عموما إلى أداة للتحرر القومى.
وهذا المزج ناتج عن التمسك بمنهجين متناقضين فى التحليل الاجتماعى ، المنهج الأول وهو المنهج المادى التاريخى المرتبط بالاشتراكية ، وهو يقسم البشر حسب موقعهم من علاقات الإنتاج ، وما يرتبط بهذه المواقع من مصالح اجتماعية ، وما تدفع إليه هذه المصالح من مواقف سياسية واجتماعية ، ووفقا لهذا المنهج فأن أى جماعة قومية تنقسم إلى طبقات وفقا لما يسودها من علاقات إنتاج . والمنهج الثانى المستند على الخصوصية الجماعية المرتبط بالفكر القومى الناتج عن الاحتياج الرأسمالى لتوحيد السوق القومى فى المراحل الأولى للنمو الرأسمالى ، والذى تجده عند هيجل نيتشة وشبنجلر وتوينبى ، وهو يقسم البشر حسب ثقافتهم وقومياتهم وأعراقهم وأديانهم ، وهو الأساس الفكرى لكل الحركات السياسية الفاشية وشبه الفاشية ، والتى باسم الخصوصية الجماعية تقمع شرائح المجتمع وطبقاته باسم ذات المجتمع الكلية لصالح إحدى طبقات هذا المجتمع ، وهذا المنهج يعنى بالصراع بين الهويات الحضارية والقومية والثقافية وآخر من عبر عن هذا الاتجاه الفكرى هتنجتون فى كتابه صراع الحضارات .
ووفقا للمنهج الأول فأن هذه الهويات تختفى من التحليل لتبرز الصراعات الطبقية التى تتجاوز الهويات الجماعية ، بتوحيدها الطبقات ذات المصالح المشتركة ..ووفقا للمنهج الثانى يتم طمس الصراعات الطبقية لتبرز فحسب صراعات الهويات الجماعية ..والمزج بين المنهجين يؤدى إلى تناقضات ، وإلى عدم فهم طبيعة الصراع الذى من الممكن أن يؤدى حسمه إلى تغيير العالم ، هل هو الصراع الذى يؤدى لتغيير علاقات الإنتاج ؟ أم الصراع الذى يؤدى لحماية ثقافة قومية من خطر التأثر بثقافة أخرى ، وحماية الهوية القومية أو الحضارية من الاندثار ؟ وكأن هذه الهويات كائنات سرمدية خالدة لا تتغير ولا تتأثر ولا تؤثر ونتيجة هذا المزج غير المشروع يكتب الأستاذ حلمى شعراوى : أن المسألة الوطنية وتنمية ثقافة التحرر الوطنى تظلان محور استقطاب للقوى الاشتراكية " .و أنه وفقا لهذا الخلط يصبح على القوى التى من المفترض أن تناضل من أجل تغيير علاقات الإنتاج بالانحياز إلى الطبقات المستغلة فى التكوين الاجتماعى للهوية الثقافية ضد الطبقات المستغلة داخل نفس الهوية ..أن تنجرف بعيدا من أجل الانخراط فى النضال الوطنى وتنمية الثقافة الوطنية ، التى توحد قطبى الصراع الطبقى داخل نفس الهوية .
وفى الحقيقة أن مقال الأستاذ حلمى شعراوى أكثر اتساقا مع فكر التحرر الوطنى من مقال الأستاذ عبد الغفار شكر من زاوية أن التحرر الفعلى من التبعية لا يمكن أن يتم إلا بفك ارتباط السوق المحلى بالسوق العالمى هذا يتضمن التخلى عن مفهوم اللحاق بالشمال المتقدم . أنه يعنى الاكتفاء بمستوى متدن من قوى الإنتاج وبالتالى من الإنتاجية ،حيث يجب الاستغناء عن التكنولوجيا التى يحتكرها الشمال ، وهذا لا يعنى إلا شىء واحد هو الانخفاض الحاد فى مستويات المعيشة ، الناتج عن انخفاض الإنتاجية المرتبطة بالتكنولوجيا الأقل تطورا . وإذا كان هناك فرق بين الإنتاجية وقوى الإنتاج بما تشمله من تكنولوجيا إلا أن العلاقة بينهما علاقة تناسب طردى فليس الجرار كالفأس ، ولا سائق الجرار كالفلاح الذى يحرث الأرض بالفأس .
ولكن هل يمكن للجماهير أن تقبل الحرمان من السلع المتطورة ، وأن تتخلص من انبهارها بسلع الشمال الأكثر جودة ، والأكثر إشباعا لاحتياجاتها ، إن هذا ممكن فى حالتين .الأولى أن تصبح هذه الجماهير محكومة بدولة بوليسية مستبدة ..تتنافى مع أى شكل من أشكال الديمقراطية كما كان يحدث فى ألبانيا فى ظل أنور خوجة ، وتعمل على عزل الجماهير عن أى مؤثرات خارجية ، وخصوصا تلك التى تأتيهم من الشمال المتقدم .و فى نفس الوقت تعتمد على قوة مسلحة قوية فى حين يتضور الشعب الذى يحكمون باسمه جوعا كما فى كوريا الشمالية .
ومن هنا فأننا لا نصدق إمكانية قيام دولة قومية متحررة من التبعية على أن تكون فى نفس الوقت ديمقراطية ..وأما عن مصير هذه الدولة البوليسية التى يكون من أهم مهامها أن تعين من نفسها وصية لحماية الجماهير من التأثر بالثقافة الإمبريالية . فهو التبقرط والفساد التى لا تستفيد منه إلا النخب الحاكمة ثم أخيرا الانهيار والاستسلام على يد نفس تلك النخب الفاسدة والمستبدة للإمبريالية أمام ضغط الجماهير التى ما أصبحت تطيق حرمانها من التقدم وثماره وبالتالى فأنها تتمرد على إرغامها على التقشف ، وبناء أيضا على مصلحة بعض النخب الحاكمة التى أصبحت تتوق لاستثمار ما حققته من تراكم نتيجة فسادها وفق آليات السوق الرأسمالى .
والحالة الثانية أن تخضع الجماهير لتأثير أيديولوجية ما ، قومية أو دينية..ولكن ما هو المدى الذى من الممكن أن تدفع تلك الجماهير إليه للتغلب على حرمانها من احتياجاتها المادية ، وأن ترضى صابرة على هذا الحرمان ؟ إننا إذا فكرنا على نحو مثالى ، فأننا سنعتقد أنه من الممكن لهذه الأيديولوجية أن تؤثر إلى الأبد ، شرط أن تعد هذه الأيديولوجية الجماهير المحرومة بجنة ما على الأرض أو فى السماء ، ولكننا نعرف أنه بمجرد شك الجماهير بإمكانية تحقق هذه الجنة ، فأنها سرعان ما تتخلى عن إيمانها الأيديولوجى .
وأما عن الأيديولوجية الأكثر قدرة على التأثير على الجماهير لمدى أعمق وأقوى فهى الإيديولوجية الدينية ، التى تربط الجماهير بالمطلق والغيبى الذى لا يرتبط بالمعرفة و إنما بالإيمان، ومن ثم يصعب هزيمته بالمعرفة بقدر ما يهزم بإيمان جديد ، وهو ما قدمته كنموذج الثورة الإيرانية الإسلامية ، وهو الدرس الذى استوعبته المجموعة الماركسية سابقا ، والإسلامية حاليا بقيادة المرحوم عادل حسين التى تحالفت مع الأخوان المسلمين للسيطرة على حزب العمل الاشتراكى سليل حزب مصر الفتاة الفاشى الذى أسسه أحمد حسين شقيق عادل حسين ، فيا للمصادفة ؟!. وقد تم ذلك التحول فى أعقاب الثورة الإيرانية فورا ، وهو ما يثبت فى كل الأحوال أن هدف هؤلاء ما هو سوى الدولة القوية والحرة المستقلة بصرف النظر عن المرجعية الفكرية التى ينتسبون إليها ماركسية كانت أو إسلامية أو قومية ، والتى لا تشكل سوى وسائل جذب للجماهير لامتطائها نحو كرسى الحكم ، والدولة الحرة هى دولة مستبدة تجاه مواطنيها فهى حرة إزاءهم تماما ، و باسمهم غالبا ! ومن يمارس السلطة فى تلك الدولة يصبح هو الوحيد المتمتع بالحرية الفعلية . أما الأيديولوجية القومية فأنها بلا شك أقل قدرة على التأثير على الجماهير ، فضلا عن أن جماهيريتها مرتبطة بوجود احتلال أجنبى لأرض الوطن القومى أو فى حالات الحروب القومية أو عدم تحقق الوحدة القومية ، أما ما دون ذلك من حالات فأن ما يشغل الجماهير فعليا هو إشباع احتياجاتها المادية والمعنوية ، أما قضايا الثقافة القومية والوعى القومى ، فأنها لا تشغل سوى أذهان المثقفين .
هل يوجد بديل حقيقى لليسار الوطنى؟
فى الحقيقة أن الحديث عن ضرورة التحول العالمى ضد الرأسمالية باعتبارها ظاهرة عالمية منذ البداية ، ليس حديثا خياليا و لا جديدا ، وأن كان كمشروع مازال حبيس عقول قلة نادرة من البشر ، إلا أن أساسه المادى ينمو بعمق داخل أحشاء الرأسمالية العالمية ، وهو الأساس الذى يعطيه إمكانية التحقق الفعلية برغم تعارضه مع الكثير من المصالح المادية المرتبطة بالدولة القومية ، وبرغم الوعى الاجتماعى السائد عبر العالم كله القائم على تقديس الهويات القومية والدينية والعنصرية والعرقية والثقافية ، ذلك أن الرأسمالية تنجرف بميلها الغريزى نحو الربح والمحافظة على معدل الربح من الهبوط إلى التوسع بلا كلل وهى تذيب كل ما يحول دون هذا التوسع من حدود بين الشعوب ، وقد تحولت لمرحلة جديدة من النمو يتم فيها توحيد عمليات الإنتاج عبر الكوكب بأسره ..إلا أن هذا الانجراف سيصطدم بالأفق المحدود للكوكب مما يعنى إيقاف التوسع ، ومن ثم الجمود والاصطدام بحائط الربح المتدهور . مما سيضع الرأسمالية كلها أمام نقطة النهاية . والتى تلوح بشائرها فى الركود التضخمى والبطالة الهيكلية التى ستبلغ نحو80% من سكان الأرض فى أوائل القرن الحادى والعشرين . وقد فشلت كل الحلول التقليدية لأزمات الرأسمالية التى عرفتها البشرية عبر تاريخها والتى تواجه السقوط والفشل مما أرغم الرأسمالية على العودة مرة أخرى لليبرالية المتوحشة ، التى لا تعبر عن انتصار الرأسمالية النهائى بقدر ما تعبر عن إفلاسها التاريخى ، حيث لم تستطع تلك العودة حل الأزمة فقد سقطت التاتشرية والريجانية كما سقطت الكينزية من قبل .
وماذا يبقى سوى أممية معادية للرأسمالية والقومية والديكتاتورية فى نفس الوقت تبدأ النضال من أجل إسقاط الرأسمالية وكل أشكال السلطوية و التراتبية والقهر . بالطبع فإن هذا الحلم مازال حبيس العقول وقد آن له أن يخرج لحيز الممارسة ..إلا أنه الحل الوحيد الذى يستحق أن نبذل جهودنا من أجل تطويره واستشراف إمكانياته . برغم كل الصعوبات التى لا يغفل عنها عاقل ، ولكن متى كانت الصعوبات مهما كانت جسامتها بعائقة عن المحاولة ، فلو كان البشر يفكرون على هذا النحو ما كان يمكن لهم تحقيق أى تقدم .

الخميس، 27 مارس 2008

جذور الاستبداد فى اللينينية

جذور الاستبداد فى اللينينية
سامح سعيد عبود
تستند العلاقات الاستبدادية فيما بين البشر على أسس مادية ، فللسلطة القمعية جذور مادية ، منفصلة عن كل من إرادة و وعى الممارسين للسلطة أو الخاضعين لتلك السلطة ، فالسلطة القمعية ليست قيمة سلوكية أخلاقية ترجع لسوء أو حسن سلوك من يمارسها ، ربما تتدخل الأخلاق فحسب فى مدى سوء أو حسن استخدام السلطة القمعية ، وإنما ترجع السلطة القمعية بصرف النظر عن حسن ممارستها أو سوءها ، للسيطرة على مصادر السلطة المادية واحتكارها من الطرف الممارس للسلطة ، وحرمان الخاضع لها من تلك المصادر .والمسألة ليست معقدة و إنما يفهمها ويلاحظها كل إنسان ، فمن يملك الطعام قادر على إجبار الجائع على تنفيذ ما يريده هو لا ما يريد الجائع ، و الذى لابد وأن يقبل شروط مالك الطعام حتى يعطيه ما يملأ معدته ، ويستطيع الجائع أن يخدع نفسه بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، و هذا صحيح ، ولكن بشرط توافر الخبز أولا ، فحتى يستطيع الإنسان ممارسة أى نشاط آخر غير الأكل ، عليه أولا أن يملأ معدته بالطعام ، و إلا لن يكون باستطاعته الحياة ليمارس أى نشاط .ومن يملك وسائل العنف سواء كانت قوة عضلية أو سلاح قادر على إجبار الأضعف عضليا أو الأضعف تسليحا أو الأعزل على تنفيذ ما يريد ، وليس على الضعيف أو الأعزل إلا أن يستجيب لإرادة الأقوى لو أراد لنفسه الحياة والسلامة ، ومن يملك المعرفة والوعى على نحو أكبر أو يحتكرها لنفسه ، قادر على السيطرة على من لا يملك منها إلا القليل أو لا يملكها على الإطلاق ، فشخص يعرف الطريق لابد و أن يقود من لا يعرفه للسير فيه ، وما دمت لا تعرف إلى أين تتجه فما عليك سوى الاستجابة لنصيحة من يعرف . وهكذا . هذه هى الجذور المادية للاستبداد .و لا يمكن أن تقام علاقات اجتماعية تخلو من الاستبداد إلا إذا تساوى الداخلين فى تلك العلاقة فى سيطرتهم على مصادر السلطة الثلاثة على نحو متساو ، فطالما سيطر أحد أطراف العلاقة على أى من هذه المصادر فأنه لا مناص من استبداده بالآخرين وهى عملية منفصلة عن نية وأخلاق من يمارسها ، ورغم أن هذه بديهيات لا تحتاج للبرهنة ، إلا أننا مضطرين لتوضيحها دائما ، لأن القوى السياسية التسلطية المختلفة ،تصدر خطابها الدعائى دائما ، بامكانية تحقيق الحرية والأخاء والمساواة دون القضاء على انقسام المجتمع بين من يسيطرون على مصادر السلطة المادية وبين من لا يسيطرون عليها .
هذا المدخل العام ضرورى لمناقشة الجذور الاستبدادية فى الفكر اللينينى ، ذلك أن التروتسكيين يحاولون وضع خط فاصل سميك بينهم وبين الستالينيين ،لينفوا عن أنفسهم وعن لينين بالطبع التسلطية الستالينية ، و لكى يصوروا مافعله ستالين والستالينية كما لو كان فساد شخص وخيانته لقيم الثورة ومبادئها ، وسوء تصرف وسلوك تتبرأ منه اللينينية وبالطبع التروتسكية ، و يتحدثون عن وصية لينين الأخيرة التى تناولت نقد لينين لسلوك ستالين الفظ ، والحقيقة أن المواقف اللينينية كانت تتذبذب بين التحررية والتسلطية ، ومن ثم فالفروع الستالينية والتروتسكية على السواء تنبع من الجذر اللينينى تحديدا ، وليس فحسب من تراث الشرق الاستبدادى ، و تخلف الواقع الروسى ، و حالة الحصار والانهيار الكامل الذى وجد الاتحاد السوفيتى نفسه فيها . ولو فسرنا التاريخ تفسيرا أخلاقيا يتبنى نظريات الخيانة والانحراف والمؤامرة لخرجنا تماما من التفسير المادى للتاريخ ، ومن ثم عن جوهر الماركسية نفسها ، وهو ما يحاول باستماتة التروتسكيون باعتبارهم الطرف المهزوم تاريخيا فى الصراع بين النخب البلشفية أن يفعلوه رغم تمسكهم بالماركسية ، والتروتسكيون بعثوا للحياة بعد انهيار الطرف الستالينى المنتصر تاريخيا ، وذلك بانكشاف الجرائم الستالينية و بسقوط الاتحاد السوفيتى واتباعه . فهم يبررون ما حدث بأنه الخيانة و الانحراف من قبل ستالين وطغمته ، أو يفسرون ما حدث على نحو مادى مبتذل بأنه حدث كنتيجة للظروف الاقتصادية فى روسيا بعد الثورة فحسب دون التفات للجـذور الاستبدادية فى اللينينية نفسها التى لم تكن أقل تأثيرا فى الأحداث عن الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهم فى هذا الصدد يركزون على المواقف التحررية للينين .
تؤسس الفكرة اللينينية على أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تصل للاشتراكية بنفسها ، وانها لو تركت لنشاطها العفوى فأن أقصى ما يمكن أن تصل إليه هو الإصلاحية ، وهذه الفرضية مغلوطة تماما ، فقد تحركت الطبقة العاملة على نحو ثورى وتلقائى فى كوميونة باريس 1871 التى تعلم منها ماركس كيف يكون شكل السلطة العمالية ، وفى روسيا 1905و1917و قد انتجت بمبادرة عفوية منها نموذج السوفيتات دون تدخل من البلاشفة ، و فى كرونشتاد 1921تحرك العمال عفويا فى مواجهة الثورة المضادة التى قادتها البيروقراطية البلشفية فى روسيا والتى سلبتهم عمليا الحق فى إدارة مصانعهم ذاتيا وتشكيل سوفيتاتهم بعيدا عن اشراف الحزب ، وهو ما قامت على أساسه ثورة نوفمبر 1917، وفى شمال إيطاليا عندما احتل العمال المصانع عام 1920 ، و فى أسبانيا 1936، وكان ذلك عندما كانت ظروف الواقع تسمح بذلك وتفرضه ،كما انها سارت فى طريق الإصلاحية عندما كانت ظروف الواقع لا تسمح سوى بالإصلاحية .
وبناء على تلك الفرضية الخاطئة تماما ، أفترض لينين ضرورة قيام حزب طليعى يكون دوره هو التبشير بالاشتراكية وحملها للطبقة العاملة ،حزب هو بمثابة الكنيسة للمسيحين ، يقوم على محترفين للعمل السياسى ،كما يحترف الكهنة العمل الدينى ، و يقوم بالتكريز بملكوت الطبقة العاملة كما تكرز الكنيسة بملكوت الرب ، و ينصب نفسه متحدثا باسم الطبقة العاملة كما تنصب الكنيسة نفسها متحدثة باسم الرب ،وتتشابه كل من الكنيسة والحزب اللينينى فى الخصائص الجوهرية للتنظيم والممارسة ، فإذا كانت الكنيسة هى الأكليروس المكون من هرم الكهنة على رأسهم البابا الذى يمارس على الكهنة وعلى شعب الكنيسة سلطته الروحية المستبدة بحكم احتكاره للحقيقة الدينية وتفسيرها ، فأن الحزب مكون من الأعضاء المؤمنين بالحقيقة العلمية التى يجسدها الحزب ، و الذين يرأسهم سكرتير عام الحزب والذى يمارس أيضا نفس سلطة البابا فى الحزب كما يمارسها البابا فى الكنيسة ، وكما أن الكهنة يحتكرون معرفة الحقيقة الدينية وتفسيرها فكذلك كوادر الحزب وقياداته يحتكرون الحقيقة الماركسية باعتبارها العلم ، وكما أن البابا وحده يحتكر المعرفة الروحية الأصح ، يحتكر السكرتير العام التفسير الأكثر صحة للماركسية إن لم يكن التفسير الوحيد الصحيح ، ومن ثم يستبد الكهنة بالمسيحين ، ويستبد الحزب اللينينى بالطبقة العاملة ، و ويل لمن يتمرد على سياسة الحزب أو يخالفها كما هو الويل لمن يخالف مشيئة الكنيسة وتعاليمها.
تحولت الماركسية على يد لينين من نظرية علمية قابلة للنقد والتطوير والدحض ، إلى دين يحتكر معرفته و تفسيره الكهنة من أعضاء الحزب كل وفق موقعه فى الهرم الحزبى ، وهم يدعون احتكارهم للحقيقة الوحيدة المطلقة دون سواهم ، ويمارسون باسم هذه المعرفة الإدعاء بالحق المطلق فى تمثيل الطبقة العاملة ، وقيادة البشرية فى طريق تحررها ، ومن ثم فقد وضع لينين وليس ستالين كما يشيع التروتسكين القواعد التنظيمية للحزب الثورى المعروفة بالمركزية الديمقراطية ، التى تعنى خضوع المستوى الأدنى للمستوى الأعلى ، وخضوع الأقلية للأغلبية ، وخضوع كافة أعضاء الحزب للجنته المركزية ، وليس ذلك فحسب فالالتزام الحزبى يعنى الانضباط الحديدى والطاعة المطلقة لمشيئة القيادة العليا للحزب التى هى مشيئة زعيمه .
كانت هذه هى النظرية اللينينية ، والتى تلاحمت مع الواقع ، لتشكل ما عرف بالستالينية التى لم يكن لها أن تصل لما نعرف عنها سوى بتلك الجذور النظرية ، وقد تفاعلت مع واقع اجتماعى متخلف اتاح لها التحقق على هذا النحو ، فى حين لم تتحقق نظريات أخرى لأنها افتقدت للظروف الاجتماعية التى تساعدها على التحقق.
كانت الثورة الروسية قد قامت لتحقق برنامج تحررى مكون من ثلاث أهداف هى 1ـ كل السلطة للسوفيتات وهى مجالس أنشأها العمال والفلاحين والجنود من خلال انتخاب مندوبين لهم يتم تكليفهم وعزلهم من قبل ناخبيهم أثناء ثورتى 1905 و 1917 2ـ والرقابة العمالية على المصانع 3ـ والأرض للفلاحيين .ولكن البلاشفة حولوا عملية تشكيل السوفيتات ولجان المصانع وتجمعات الفلاحين ، لعملية شكلية يسيطر عليها أعضاء الحزب الخاضعين لقواعد المركزية الديمقراطية تنظيميا مما يعنى خضوعهم للقيادة المركزية ، وتحولت السلطة السوفيتية والإدارة العمالية والتعاونيات لمجرد غطاء للسلطة الحزبية المتمركزة فى يد سكرتير عام الحزب ، و هكذا ظهر النموذج الستالينى من أحشاء الحزب اللينينى ، فكان من الطبيعى على من يدعون التمثيل الوحيد للطبقة العاملة ومحتكرى التحدث باسمها ، أن يحاربوا بشراسة كل ممارسة خارج إرادة الحزب ، وكل مبادرة خارج مخطط الحزب ، وأن لا يسمحوا بأى فكر مخالف لما تراه قيادة الحزب ، وهو ما انتهى بالتنكيل بالمعارضة اليسارية والتروتسكين فى الحزب البلشفى كما تم التنكيل بكل أشكال المعارضة الأخرى خارج الحزب . و قد تم إخضاع إدارة المصانع للإدارة البيروقراطية المركزية التى كان يمثلها المجلس الاقتصادى المركزى ،وكان ذلك ليس من قبل ستالين كما هو شائع ، ولكن من قبل لينين نفسه ،كما تم قمع التحرك العفوى والثورى الخارج عن سيطرة الحزب والمتمرد على سلطته على نحو دموى فى كل من كرونشتاد و جنوب أوكرانيا بواسطة الجيش الأحمر بقيادة تروتسكى ومباركة لينين ، وليس بفعل ستالين الذى لم يكن بعد زعيما للحزب .
قد تتساءل ما هى العلاقة بين المقدمة السابقة وما تحدثت عنه ، والعلاقة واضحة ، فالاستبداد اللينينى ينبع و لاشك من محافظته على الانقسام الاجتماعى بين من يحتكرون الحقيقة ويمثلونها من أعضاء الحزب الخاضعين لقيادته فيستبدون بمن لا يملكونها و لا يدعون احتكارها من اللاحزبيين ، ومحافظته على استمرار الانقسام الاجتماعى بين من يسيطرون فعليا على إدارة الإنتاج من البيروقراطيين ،و من ثم سيطرتهم على الثروة فعليا ، وبين العمال المحرومين من السيطرة الفعلية على الإنتاج وظروف عملهم ، ومن ثم المضطرين للخضوع لإرادة البيروقراطيين بحكم احتياجهم لتوفير ضرورات الحياة ، ، كما أن النموذج اللينينى يبقى على احتكار وسائل العنف لقلة فى المجتمع دون الآخرين ،ومن الطبيعى أن يخضع من لا يسيطرون على وسائل العنف لمن يسيطرون عليها ، و من ثم كان لابد و أن يستمر الاستبداد والقهر طالما استمر هذا الانقسام الاجتماعى بين من يسيطرون فعليا على مصادر السلطة المادية وبين من لا يسيطرون عليها، و هذا ما حدث بالفعل . فالموضوع لا يحتاج للمزيد من البرهنة .

الأربعاء، 26 مارس 2008

هرم السلطة وذرات المقهورين

هرم السلطة وذرات المقهورين
سامح سعيد عبود
عرفت البشرية نوعان من المجتمعات ،مجتمعات بدائية بسيطة التركيب ،يتساوى جميع أفرادها فى سيطرتهم على مصادر السلطة المادية، ومن ثم لاينقسمون فيما بينهم لطبقات و لا يعرفون لذلك السبب السلطة القمعية فيما بينهم ، وهى مجتمعات مشاعية لا تعرف الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والعنف والمعرفة ، وتقوم على أساس التعاون بين أفرادها لسد احتياجاتهم المشتركة ، وقد تمتع أفرادها بدرجة عالية من الحرية والمساواة والأخاء فيما بينهم ،وقد انقرضت هذه المجتمعات تقريبا الآن . أما النوع الذى ظهر لاحقا فى التاريخ البشرى ، فهى مجتمعات على درجات متفاوتة من التقدم والتعقد فى تركيبها ، تنقسم بين من يسيطرون على مصادر السلطة المادية فى المجتمع وهى الثروة ووسائل كل من العنف والمعرفة ، والمحرومين من تلك الوسائل ،و يمارس الطرف الأول السلطة القمعية على الطرف الثانى ويستغله بما يسيطر عليه من مصادر السلطة المادية ، وهى مجتمعات تعرف السيطرة الشخصية أو المؤسساتية على مصادر الثروة سواء فى شكل ملكية كاملة أو ملكية منقوصة بمعنى حقى الحيازة و الانتفاع دون حق الرقبة ، وحتى نصل لمجرد مستوى السيطرة الإدارية ومن ثم الانتفاع والسيطرة من موقع الإدارة لا من موقع الملكية أو الحيازة . وتقوم هذه المجتمعات على أساس الصراع فيما بين أفراد المجتمع وجماعاته المختلفة ، و لا يتمتع أفراد هذه المجتمعات إلا بمستويات متدنية وأحيانا منعدمة من الحرية والمساواة و الأخاء فيما بينهم ، وقد تطورت هذه المجتمعات عبر التاريخ المكتوب لأشكال متنوعة فى نفس الإطار القائم على الاستغلال والقهر ، وقد انتهى بها التطور إلى النمط الرأسمالى فى الإنتاج أكثر هذه الأنماط تقدما وتعقدا .
والتركيب المعقد للمجتمعات التسلطية يأخذ الشكل الهرمى .أسفل القاعدة السفلى من الهرم يوجد المحرومين من أى من مصادر للسلطة المادية ، ومن قاعدة هرم السلطة إلى قمته أفراد و شرائح وطبقات تملك أو تحوز أو تسيطر على أجزاء متفاوتة من مصادر السلطة المادية الثروة أو العنف أو المعرفة ، ويترتبون و يتداخلون فيما بينهم فى علاقات معقدة ، متعددة الاتجاهات والتنوعات ، يتبادلون الاستغلال والقهر على نحو نسبى فيما بينهم، فالأعلى فى هرم السلطة يقهر ويستغل من هو أسفل وهذا فحسب لمجرد التبسيط لا للوصف التفصيلى ، كما يشتركون فى استغلال وقهر المحرومين من مصادر السلطة المادية، والمسحوقين أسفل الهرم .
وطوال التاريخ البشرى المكتوب كان القاهرين ينتظمون فيما بينهم فى أشكال اجتماعية منظمة أو يستخدمونها ويستندون عليها ، من أجل أن تتيح لهم قهر واستغلال المقهورين الذين كانوا مجرد كم من الأفراد يسهل شراءه و حشده وتضليله لا لمصلحته ولكن وفقا لمصلحة أطراف الصراع داخل هرم السلطة ، ومن ثم كان التاريخ البشرى المكتوب هو تاريخ للتغير داخل هرم السلطة نفسه ، بمعنى إحلال نخب وشرائح وطبقات و أفراد محل نخب و شرائح وطبقات وأفراد محل أخرى ، من أعلى إلى أسفل أو بالعكس ، بالابادة أو السيطرة أو الاستيعاب ، فقد حل النبلاء الاقطاعيين محل ملاك العبيد ،وحل الرأسماليون محل هؤلاء النبلاء ،وحل البيروقراطيين محل هؤلاء الرأسماليين فى المجتمعات التى عرفت بالاشتراكية ،ولم يستطع المقهورين تحرير أنفسهم من ثقل السلطة الراسخ على كاهلهم عبر كل هذا التاريخ ،لأنهم كانوا يفتقدون القدرة على التنظيم ، ومن ثم العمل المنظم ، وبالتالى القدرة على التأثير على هرم السلطة ، وبرغم كل قوتهم الكامنة باعتبارهم الأغلبية وباعتبارهم منتجى الثروة البشرية الفعليين ، إلا أنهم مجرد ذرات من الرمال ، لا جامع بينها ولا رابط سوى وضعهم أسفل الهرم وخضوعهم للقهر والاستغلال وفقدانهم الحرية والمساواة الفعلية مع من ينتظمون فى هرم السلطة من ملاك الثروة والبيروقراطيين والعسكريين والساسة . وعبر آلاف السنين الذى شهدها التاريخ المكتوب كانت تلك الأغلبية المسحوقة وقود للحروب والثورات لمصلحة الأطراف المختلفة و المتصارعة داخل هرم السلطة ، فبدمائهم وعرقهم وسواعدهم تغير التاريخ بمعنى أنه تغير بتعاقب أنواع مختلفة من المتسلطين عليهم انتصروا وصعدوا عبر هرم السلطة على جثثهم وأكتافهم ، فكل ما حدث هو تعاقب أنظمة متباينة فى طرق استغلالهم وقهرهم . وكان و بناء على هذا التغير تتغير صفاتهم ومسمايتهم وفق هذه الأنظمة من عبيد إلى أقنان وأخيرا العمال . هذا هو التطور العام للتاريخ ..
ومع منتصف القرن التاسع عشر ظهرت الماركسية وقررت فيما قررت أن العمال تلك الطبقة الجديدة الرئيسية فى طبقات المقهورين ، و فى وضعهم الجديد التى خلقتهم عليه الرأسمالية ، هم الطبقة المقهورة الوحيدة عبر التاريخ ، القادرة على تحرير نفسها وقيادة البشرية بأسرها نحو التحرر ، وقد برهنت الماركسية على ذلك بأن هؤلاء المقهورين هم الصنف الوحيد من المقهورين هم القادرين وحدهم على تنظيم أنفسهم دون سائر المقهورين عبر التاريخ ، ذلك لأن العمال يتركزون بالمئات واللآلاف فى مكان واحد هو المصنع الحديث ،ويخضعون لظروف واحدة من القهر والاستغلال ، كما أن تعاملهم مع أحدث وسائل الإنتاج يتيح لهم اتساع الأفق و القدرة على خلق وعيهم الثورى الخاص بهم ، والمنفصل عن وعى الطبقة البورجوازية السائدة .وكانت المؤشرات فى ذلك الوقت تشير إلى صحة كل هذه الاستنتاجات ، فقد ظهرت حركة عمالية قوية هددت بقوة لا بمجرد قلب هرم السلطة ، و إنما بتحطيمه ، إلا أن التنظيمات العمالية المختلفة ، وعندما ظهرت فيها السلطة البيروقراطيةسواء للقادة العماليين فى النقابات أ والقادة السياسيين فى الأحزاب ، تحولت فى فرعها الإصلاحى إلى الاندماج تدريجيا فى هرم السلطة الرأسمالية ، وفقدت طابعها التحررى والثورى ، و فى فرعها الثورى أدت لأنظمة تكونت هى أيضا من الانقسام بين هرم السلطة الذى شغله البيروقراطيين والعسكريين والساسة الحزبيين ، وذرات من المقهورين من أشباه العمال الذين فقدوا حتى قدرتهم على الكفاح النقابى والسياسى ضد هرم السلطة الرأسمالية التى ظل يتمتع بها العمال فى البلاد الرأسمالية .
أما ونحن فى أوائل القرن الحادى والعشرين ، فقد تعقدت بنية المجتمع الرأسمالى ولم تصبح بنفس تلك البساطة التى تمتعت بها فى منتصف القرن التاسع عشر ، فقد اتسع جيش البروليتاريا حتى اتسع ليشمل فئات جديدة من المهنيين والباحثين والعلماء باعتبارهم من العاملين الذين لا يملكون إلا قوة عملهم الذهنية و اليدوية ويبيعونها كسلعة فى سوق العمل ، ويخلقون بابداعهم الذهنى واليدوى القيمة المضافة على نحو متزايد ، ومعرضون فى إطار ظروف عملهم للقهر والاستغلال والتبعية لسلطة رأسالمال و آلة العنف ، فليس بيدهم أى سلطة لاتخاذ القرار وخاضعين تماما فى ظروف عملهم لإرادة الرأسماليين .وفى نفس الوقت الذى اتسع فيه جيش البروليتاريا ، فأنه ينقسم لكتلة تتسع باضطراد من العاطلين عن العمل و المهمشين ، وقلة تضيق باضطراد من العاملين بالفعل ، ومن ناحية أخرى ينقسم جيش البروليتاريا بين قلة تنخفض باستمرار من المنظمين نقابيا تتمتع بظروف عمل أفضل وغالبية تزداد باستمرار وغير منظمة نقابيا محرومة من الامتيازات والامكانيات التى تتمتع بها الفئة الأولى ، ومن ناحية ثالثة ينقسم جيش العمل بين من يعملون بوسائل إنتاج أكثر تطورا وبين من يعملون بأخرى أقل تطورا ،ومن ناحية أخرى تتفاوت عائدات العمل وظروف العمل ومستوى المعيشة على نحو صارخ بين العمال عبر العالم ، ما بين العمال فى الشمال الغنى والعمال فى الجنوب الفقير ، بل وتتفاوت الظروف بين الفئات المتنوعة من العامليين بأجر فى البلد الواحد بين المواطنيين و وبين الأجانب والمهاجرين ، وبين النقابيين وغير النقابيين ، وبين اليدويين والذهنيين ، وهذا بلاشك يخلق حالة من عدم التجانس بل والتناقضات والصراعات بين صفوف المقهورين ، مما قد يصعب تصور تجاوزه فى ظل هذه الظروف .إلا أن ما يجب أن نعلمه هو أن القوى الاجتماعية القادرة على إحداث التغيير الاجتماعى وقيادة المجتمع االبشرى نحوه لابد وأن تتصف بمجموعة من الخصائص ليس من بينها البؤس بلا شك ، هذه الخصائص هى:
أولا :- قدرتها على العمل الجماعى المنظم ومن ثم الخروج من الحالة الرملية الهشة إلى الحالة الصخرية الصلبة التى تؤثر عند نضالها فى هرم السلطة و من ثم تملك امكانية تحطيمه .
ثانيا:_ أن تكون مرتبطة بالعمل على وسائل الإنتاج الأكثر تقدما ومن ثم الأكثر إنتاجية ، وأن تكون صاحبة مصلحة مؤكدة فى تطوير هذه الوسائل فى نفس الوقت الذى تعوق فيه القوى المتسلطة هذا التطوير .
ثالثا :_أن تكون محرومة من تملك وحيازة و إدارة مصادر السلطة المادية من ثروة وعنف ومعرفة وهذا الشرط ليس لازما عبر التطور التاريخى عموما طالما يحدث التغيير داخل هرم السلطة نفسه ، وهو ما يمكن أن يحدث لاحقا إن لم تتوافر الشروط الضرورية لتحرر المقهورين ، لكنه لزومى لتحقيق التحرر النهائى لكل البشرية .
رابعا:_ أن تملك وعيا تحرريا يهدف لخلق علاقات إنتاج تتواءم مع قوى الإنتاج الأكثر تقدما .
وهذه الشروط لا تنطبق بالضرورة على كل المقهورين ، و إنما على قطاعات محددة منهم تتوافر فيها الشروط سالفة الذكر ، وهى ليست بالضرورة البروليتاريا التقليدية كما عرفت فى القرن التاسع عشر ، هذه القطاعات ستكون بتنظيماتها اللاسلطوية الأنوية التى تتشكل حولها خلايا المجتمع اللاسلطوى من سائر المقهورين والمحرومين ليفتتوا هرم السلطة

الثلاثاء، 25 مارس 2008

الأممية الآن وليس غدا

الأممية الآن وليس غدا
سامح سعيد عبود
أتخيل الكثيرين مما قد يقرأون هذا المقال سيتهمون كاتبه بشتى الاتهامات من المثالية والخيالية إلى الانعزال عن الواقع وعدم العلم به ، متناسين أن ما صدمهم من أفكار بالتحديد إنما استند إلى ما هو جوهرى وأساسى فى هذا الواقع الذى يزعمون معرفته و الاستناد إليه ، فالكاتب ليس بغافل بالطبع عن ذلك الجانب من الواقع الذى يستند إليه هؤلاء فى رفض ما يدعيه ، وهو أنه بالرغم من كوكبية الاقتصاد المتزايدة إلا أن الغالبية الساحقة من البشر مازلت تسيطر عليهم شتى الأفكار و الأيديولوجيات القائمة على عبادة الدولة وتقديسها ، ومرجعية القومية والدين والطائفة والثقافة والعادات والتقاليد والأعراف المحلية والعرق واللون واللغة بل وحتى القبيلة ، وهم على استعداد للدفاع حتى الموت عن تلك المرجعيات ، وعن تلك الأيديولوجيات ، وأنه و بالرغم من الكوكبية المتزايدة فأن شتى مظاهر التفكك فى العالم تتزايد بنفس المعدل فلم يتفكك الاتحاد السوفيتى ويوغوسلافيا فحسب بل سمعنا عن نزاعات عرقية فى فيجى وجزر سليمان وحركة انفصال فى جزر القمر والذى لا يزيد عدد سكانهم جميعا عن سكان الحى الذى اسكنه، ومن ثم تصبح تلك الدعوة للوحدة الإنسانية هى أحلام قلة نادرة من المهمشين والحالمين والمنعزلين عن جموع البشر ، ومن ثم فاقدى التأثير و الأهمية ، و كأنما من المفترض أن يرضخ المرء لما تراه الأغلبية حتى لو ثبت ليس مجرد خطأه بل مدى ضرره على مستقبل تلك الأغلبية نفسها ، وكأنما من المستحيل أن تغير تلك الأغلبية رأيها عندما تكتشف مدى إضراره بمصالحها ، وخصوصا أن تلك الأغلبية صناعة اجتماعية شكلتها وسائل التعليم والإعلام والثقافة ليست بالضرورة تعى حقيقة مصالحها، وليس يعنى هذا الدعوة للوصاية عليها على أى نحو ، و إنما مقاومة المؤثرات التى تعميها عن تلك المصلحة بتعليم وإعلام وثقافة أخرى ، الأهم من كل هذا وهو ما يعطى مثل هذه الدعوة قوتها أنها لا تفترض أنها دعوة تقبل أو ترفض ، و إنما هى تعبير عن ضرورة حاكمة يفرضها الواقع نفسه ، وتعبير عن مصالح الكتلة الأعظم من البشر حتى و لو كانت تلك الكتلة لم تدرك مصالحها بعد .وهى بلا شك تمس مصالح آخرين بالضرر مما يجعلها موضوعا للصراع بين من فى مصلحتهم الإبقاء على الوضع الراهن وبين من يناضلون من أجل تغييره ، وسوف ينجح فيه من يلتمس بكفاءة أكثر سبل النجاح ، ويكون أكثر فهما للواقع ، و اكثر قدرة على التعامل مع ضروراته وحقائقه ، و أكثرهم بذلا للجهد للوصول لهدفه .فالضرورات التى تحكم الواقع لا تعنى انعدام القدرة على التأثير على الواقع وتغييره .
و فى الحقيقة فأنى لا أملك إزاء كل هذه الاتهامات المسبقة إلا أن أضع أمام قرائن الاتهام تلك الدفوع :ـ
* أن العالمية ظاهرة تاريخية بدأت منذ فجر التاريخ إلا أن نموها مرتبط بزيادة قدرة البشر على إقامة الاتصالات فيما بينهم ، والتى ازدادت مع الثورة الصناعية ، وما عرفته من تكنولوجيا المواصلات البخارية والكهربية ووسائل الاتصال الحديثة حتى وصلت إلى ما نعرفه الآن عبر الإنترنت والأقمار الصناعية ، حتى أن شابا من تايوان ، وآخر من الفلبين استطاعا صنع فيروسين للكومبيوتر أثرا ببثهما عبر الإنترنت فى اقتصاديات العالم كله ، واستطاع ملياردير بالمضاربة فى البورصة عبر الإنترنت أن يلحق التدمير باقتصاديات النمور الآسيوية ، واستطاع آخرون الدخول على شبكات أجهزة المخابرات ، ووزارات الدفاع ، و القواعد العسكرية والبنوك وفك الشفرات والإطلاع على الملفات . فأصبح لا أمن ولا سرية و لا رقابة و لا حدود قومية فى عالم اليوم ، وكل ذلك بضغطة على أزار الكومبيوتر التى تستطيع أن تبث من خلالها كل ما تريد إلى كل بقاع الأرض فى لحظات و أن تنقل أى كميات من النقود من مكان لمكان ، كما يمكنك أن تستقبل منها كل ما تتخيله من مواد مسموعة ومرئية ومقروءة دون أى إمكانية للرقابة الفعالة من قبل الدولة التى تقيم فيها .والغريب أنه منذ أربعة عشر قرنا من الزمان أمر النبى محمد اتباعه ، وكانوا مجرد قلة قليلة مضطهدة ، أن يهاجروا إلى الحبشة لأن بها ملك لا يظلم عنده أحد على بعد آلاف الكيلومترات من مكان إقامته فى مكة تلك المدينة الصحراوية ، والتى كانت تشكل معبر للتجارة بين شمال وجنوب الجزيرة العربية بالإضافة لكونها مركز دينى للقبائل العربية البدوية فى الجزيرة العربية ، وما إن استتب له الأمر فى الجزيرة العربية حتى أرسل رسله إلى حكام الدول المجاورة ، ونسب إليه حديثا يقول خذوا العلم ولو فى الصين .وبعد سنوات قليلة أرسى أتباعه إمبراطورية ضخمة امتدت من حدود الصين الغربية وحتى أسبانيا ،وقبله بألف عام حاول الإسكندر الأكبر توحيد العالم الذى كان معروفا لديه تحت حكمه برغم عدم توافر أى من وسائل الاتصال والتواصل المستعملة الآن ، والتى اكتشفتها البشرية خلال النصف قرن الماضية.
* الحقيقة التى يتم تغافلها من الكثيرين أن الرأسمالية كنمط إنتاج تختلف عن ما قبلها من أنماط إنتاج فى كونها ظاهرة عالمية منذ اللحظات الأولى لميلادها بعكس الأنماط الأخرى والتى سبقتها ، والقائمة غالبا على الاكتفاء الذاتى ، والسبب فى ذلك كامن فى ميل الرأسمالية المستمر للتوسع فى الأسواق بحثا عن المستهلكين وقوة العمل والمواد الخام ..الخ ، وذلك هربا من ميل معدل الربح للانخفاض ، وقد أخذ هذا الميل للتوسع عبر العالم فى دفع الرأسمالية عبر مراحل تطورها المختلفة ، يأخذ أشكالا مختلفة تتناسب مع كل مرحلة ومع نوع ومدى احتياجات الرأسمالية من التوسع ، فكانت الرأسمالية التجارية ثم الاستعمار و أخيرا الكوكبية المسماة بالعولمة كمرحلة أخيرة فى ظاهرة عالمية الرأسمالية . وكما كانت الرأسمالية ظاهرة عالمية ، فالقومية والدولة القومية ظاهرتين رأسماليتين حديثتين فى التاريخ البشرى ، فقد كانت الدول فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية لا تؤسس على أساس الهوية الجماعية أيا ما كانت قومية أ غير قومية ، بل على أساس التبعية الشخصية للحاكم من رعاياه أيا ما كان لقبه ، و المعتمد على ما يملكه من قوة عسكرية فى إخضاع رعاياه ، و بصرف النظر عن ما كان ينتمى إليه هؤلاء الرعايا والتابعين من ثقافات و شعوب وما يستخدموه من لغات ولهجات وما يعتنقوه من أديان ، وما يمارسوه من عادات وتقاليد ، وكانت العلاقة بين الحاكمين والرعايا ، تتلخص فى جوهرها فى دفع الرعايا أنواع من الالتزامات النقدية والعينية للحاكم بما يعينه على حمايتهم من نهب الحكام الآخرين ، وحماية سلطته عليهم من المتنافسين على نهب الرعايا ، وكان جوهر مطالب المحكومين هو عدم المبالغة فى الضرائب والجزية والمكوس والالتزامات العينية الأخرى ، وعدم التعنت فى تحصيلها حيث كان يتحدد موقف الرعايا من الحكام وفق سلوكهم فى فرض الالتزام وتحصيله ، بصرف النظر عن جنسية الحاكمين التى كانت لا تهم الرعايا . وكان تأسيس الدولة القومية الحديثة هو هدف نضالى بورجوازى ضد الامتيازات الإقطاعية فى غرب أوربا من أجل توحيد السوق القومى ، و إزالة معوقات النمو الرأسمالى الذى كانت تحده تلك الامتيازات ، ومن ثم كانت الهوية الجماعية ، و من ثم دولتها صناعة رأسمالية انتقلت للبلدان المستعمرة فى غمرة مطالبتها بالاستقلال عن الدول الاستعمارية ، ومن هنا نشأ مفهوم المواطن المنتمى للهوية للجماعية للدولة التى تجسدها . وانتهى مفهوم التابع للحاكم والدولة التى تتجسد فى الحاكم . ومن ثم كان تأسيس الدولة على مفهوم الهوية الجماعية المتميزة عن غيرها من الهويات الجماعية ، هدف استدعته و خلقته البنية الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية ،و قد استدعى معه خلق بنية متكاملة من الوعى الاجتماعى القائم على فكرة الهوية الجماعية مازال عميقا بلا شك ، واستدعى تأصيل ذلك فلسفيا عبر العديد من الفلاسفة والمفكرين الكبار فى القسم المتقدم من العالم من هيجل وحتى هتنجتون ، وقلدهم العديد فى بلاد القسم المتخلف ، فى بلادنا العربية أمثال ساطع الحصرى للقومية العربية ، وسيد قطب للأصولية الإسلامية وغيرهم ، وقامت حركات سياسية واجتماعية وثقافية ، وتكونت أيديولوجيات على هذا الأساس ،والتى ما زالت هى الأقوى برغم ما تخلخل تحتها من أساس مادى ، وما أصابها من شروخ ، مما تسبب فى هشاشتها ، ومن ثم أصبحت آيلة للسقوط رغم كل الصخب الغوغائى الذى تحدثه من حولها ، مما يوحى باستمرار صلابتها وقوتها . وربما كان هذا الصخب الشديد ناتج عن إحساسها بالحصار الذى كلما استحكمت حلقاته كلما كانت أكثر شراسة فى محاولة إنقاذ نفسها من الاحتضار بسببه بالمزيد من المهاترات البيزنطية.
* شهد التطور الجديد فى ظاهرة الكوكبية الرأسمالية فى الربع الأخير من القرن العشرين ظاهرتين لم تكونا معروفتين بهذه الحدة من قبل الأولى سيادة كوكبية الإنتاج المادى على الإنتاج المحلى ، وفى نفس الوقت استمرار الدولة القومية ، وازدهار الحركات السياسية القائمة على أساس الخصوصية الجماعية .. ذلك لأن الكثير من قطاعات الرأسمالية الصغيرة التى تعمل فى الزراعة والصناعات الصغيرة أو القطاعات التى كانت تتمتع بأوضاع احتكارية أو شبه احتكارية داخل الحدود القومية ، أو تلك التى خسرت ما كانت تتمتع به منتجاتها بالحماية الجمركية أصبحت تتضرر من جراء حرية التجارة ، و عجزها عن المنافسة عبر العالم . كما أن قطاعات من الطبقة العاملة فى القسم الغنى من العالم أصبحت تتضرر من منافسة ذلك القسم من العمالة الرخيصة المهاجرة لها فى الوقت الذى تتعرض فيه لازدياد معدلات البطالة ، وهو ما أدى إلى الظاهرة الثانية فبر غم من القبول الواسع بحرية تداول السلع وانتقال رأسالمال عبر العالم إلا أن الحظر يزداد على انتقال قوة العمل كسلعة عبر العالم حتى أصبح انتقال العمالة من بلاد العالم النامى والمتخلف لبلاد العالم المتقدم والغنى محاصرا بشتى أنواع القيود الذى تصل لحد المنع ، و من ثم ازداد تفاوت عائد العمل من مكان لمكان على الإنتاجية الواحدة .
* كان السبب فى انهيار وذبول دور الدولة القومية ، والشروخ التى أصابت فكرة السيادة الوطنية كما كانت تطرحها أيديولوجيات الهوية الجماعية فى أصولها هى أن السلعة أصبحت منتج عالمى برغم ما قد تحمله فى السوق من جنسية قومية محددة ، و أن سقوط الدول التى حاولت الاستقلال عن السوق العالمى هو بسبب عدم كفاءة إنتاجها السلعى إزاء السلع المنتجة عالميا ، وعدم قدرتها بالتالى على إشباع احتياجات مواطنيها من السلع والخدمات المختلفة . وكان هذا هو السر فى سقوط نظريات الاكتفاء الذاتى والتنمية المستقلة التى لا تعنى سوى عدم الاستفادة من حقيقة المزايا النسبية للمناطق المختلفة من العالم فى إنتاج السلع المختلفة ، والذى يعنى إنتاج سلع بتكلفة أعلى و أسوء فى خصائصها و أقل قدرة على الإشباع ، فى حين استفادت من حقيقة المزايا النسبية الدول التى اندمجت فى السوق العالمى فانخفضت التكلفة الفعلية للسلع وازدادت جودتها وقدرتها على الإشباع .
* أصبحت قضية المحافظة على البيئة قضية عالمية لا يمكن تناولها بالحل إلا عبر العالم ، وخصوصا فى ضوء ما تحاوله الرأسمالية العالمية من تصدير الصناعات ، والمنتجات الملوثة للبيئة إلى العالم النامى والمتخلف ، ومحاولة دفن النفايات النووية وغير النووية ، فتلويث نهر فى دول المنبع يعنى انتقال التلوث لدول المصب ، وانفجار مفاعل نووى فى بلد ما يعنى انتقال الإشعاع للبلاد المجاورة فالرياح لا تعرف الحدود ، ومن هنا لا سيادة للدولة مطلقة على حدودها القومية ، وأن للآخرين أن يتدخلوا إذا ما مست تلك السيادة سلامة البيئة لديهم بل أصبحت المحافظة على بيئتهم المشتركة دافع للتعاون المشترك فيما بينهم ، مما يعنى اتخاذ قرارات جماعية ، والالتزام بقواعد محددة فى التعامل مع البيئة مما يحفظ سلامتها للجميع .
* بلغ التطور العلمى والتكنولوجى حدا يسمح بتوفير الرفاهية الفعلية لأضعاف سكان الأرض ، والقضاء على الندرة فى ضروريات الحياة ، سواء على مستوى الإنجاز الفعلى الذى لا تستمتع به ولا تستفيد منه إلا قلة من المترفين فى العالم بسبب سوء التوزيع ، أو إمكانيات الإنجاز المكبوتة بسبب السيطرة علي البحث العلمى والإبداع التكنولوجى من قبل الشركات المتعدية الجنسية خاصة ، و الرأسمالية عامة ، وذلك لأسباب متعددة منها
أولا:ـ الخوف من أن تؤدى هذه الإمكانيات المنجزة أو المكبوتة إلى زيادة معدل ميل معدل الربح للانخفاض بسبب ما قد تؤدى إليه من تعاظم التكوين العضوى لرأسالمال ( زيادة قيمة الرأسمال الميت وهو وسائل الإنتاج على الرأسمال الحى وهو قوة العمل) ، وخصوصا تلك التى توفر الجهد البشرى
ثانيا:ـ الخوف من تهديد فرص تسويق منتجاتها بالمنتجات الجديدة التى توفرها التكنولوجيا الحديثة ، ويظهر هذا بوضوح فى مجالات الطاقة ووسائط النقل من قبل شركات السيارات البترول .
ثالثا:_ عدم القدرة على توفير استثمارات لتحويل تلك الإنجازات لسلع فى مجال الإنتاج بسبب البنية الاقتصادية الرأسمالية فى العالم التى تعتمد على المنافسة والمبادرة الفرديتين ، ويظهر هذا فى مجالات الأتمتة والذكاء الصناعى خوفا من الارتفاع غير المحتمل فى معدلات البطالة الهيكلية مما يعنى انخفاض الإنفاق الاستهلاكى وزيادة المخزون السلعى ، انخفاض معدلات الربح بالتالى وذلك فى الوقت الذى يزداد فيه التضخم بسبب الأوضاع الاحتكارية للرأسمالية العالمية.
رابعا :_ الطريقة الانتقائية التى يتم بها تمويل ومن ثم توجيه كل من البحث العلمى والابتكار التكنولوجى فيما يفيد زيادة أرباح الرأسمالية العالمية دون النظر لتوفير الاحتياجات الضرورية لغالبية البشر ، ونجد ذلك فى إنتاج السلع الترفيه والسلاح . * أن الحكومات ومن وراءها المؤسسات العسكرية تحتكر البحوث العلمية من أجل زيادة هيبة الدولة القومية بزيادة إنفاقها العسكرى وتطويرها لقدراتها العسكرية ، وكذلك الأمر مع شركات السلاح التى تسيطر على البحث العلمى من أجل الفوز بأكبر نصيب ممكن من سوق السلاح العالمى ، وخصوصا فى مناطق النزاع المسلح فى العالم فى حين لا يوجه هذا الإنفاق و لا تلك البحوث فى سبيل إشباع الاحتياجات الإنسانية الضرورية فى ظل بيروقراطيات ونخب حاكمة تفضل المدفع على الزبد للدفاع عن سلطاتها ، ومبرر وجودها ، ومشروعية حكمها ، كما قال الزعيم النازى جورنج " المدفع قبل الزبد " وهو المعروف فى نفس الوقت بعشقه للترف ، حيث تتكلف صناعة الأسلحة المختلفة زبدة الإنتاج العالمى عبر العالم إنتاجا واستهلاكا ، و التى تترك غالبا للصدأ ولكى يتم استبدالها دائما بالأحدث والذى يأكله الصدأ هو الآخر فى فترات السلام وهكذا ، ويتكلف التدريب على استخدامها أكثر مما يتكلف التدريب على وسائل الإنتاج المدنية ، وأخيرا تهدر قوة العمل المتدربة على استخدامها سواء فى السلم بعدم الإنتاج أو فى الحرب بالإهلاك ، رغم ما تتميز به من الكفاءة الأعلى من قوة العمل المدنية غالبا ، و التى يستنفد أفضل ما فيها من كفاءات هى الأخرى فى صناعة السلاح باعتبارها صناعة استراتيجية للأمن القومى تستقطب أفضل المهارات ، وحين تستخدم الأسلحة ومن يعملون عليها لحماية الحدود القومية أو الهجوم على الحدود القومية للآخرين ، فأنها لا تسبب سوى الضرر والدمار للبشر والموارد الطبيعية وتلويث البيئة ، فضلا عن إهلاك قوتى العمل العسكرية والمدنية لطرفى الصراع المنتصر والمهزوم ، ..ولا مجال هنا لكى أورد مقارنات بين ما تتكلفه تلك الصناعة وما تهدره من إمكانيات وموارد طبيعية وبشرية وفرص للنمو والرفاهية ، وبين ما يمكن أن يوفره هذا الإنفاق المروع فى توفير التعليم والثقافة والعلاج والسكن والطعام ..الخ لبلايين البشر المحرومين من ضروريات الحياة بسبب المصالح الضيقة للبيروقراطيات الحاكمة ، والمؤسسات العسكرية ، وشركات السلاح . وبين ما يمكن أن يحدث من تقدم هائل لو أتجه البحث العلمى والإنتاج والتعليم والتدريب العسكرى للأغراض السلمية بدلا من العسكرية من أجل رفاهية البشر ، وتلبية احتياجاتهم الإنسانية المشروعة . تلك النتيجة التى ستوفر الأساس لسلام فعلى بين البشر الذين لا تجد غالبيتهم الساحقة ـ لو كان لها أن تقرر ـ أى مبرر للانخراط فى الصراعات المسلحة وممارسة العنف فيما بينهم ، إلا حينما تتعرض مصالحهم المادية للخطر ، وحين يحرمون من تلك الاحتياجات الضرورية للحياة ، وحين تنتهك حقوقهم المشروعة . وكأنما هى حلقة خبيثة يتورط فيها البشر الآن ، فالإنفاق على التسلح والعسكرة يعنى حرمان غالبية البشر من ضروريات الحياة مما يدفع المحرومين للتسلح من أجل التخلص من هذا الحرمان ، وهو يدفع المترفين لحماية رفاهيتهم من تهديد المحرومين ، فى حين أن توفير هذا الإنفاق العبثى نفسه وتوجيهه لرفاهية المحرومين كفيل بالتخلص من سفه هذا الإنفاق من كلا الطرفين ، وهو ما يمكن إنجازه بزوال الحدود بين الشعوب مما تتحول معه الجيوش لزائدة لا معنى لها ، وهى التى ما وجدت إلا لكى تحميها .
* لاشك أن استمرار الدولة القومية وراء الكثير من الظواهر التى تعيق التطور البشرى فى تلك المرحلة ومنها الإهدار الهائل للموارد الطبيعية والبشرية من أجل استمرار البيروقراطيات والنخب الحاكمة فى السلطة ، والدفاع عن مصالحها ليس فحسب فى ترسيخ الانقسام الرأسمالى ما بين رأسماليات قومية تجد الدولة فى وجودها مبرر لاستمرارها وأخرى عالمية تمارس ديكتاتورية السوق على نفس الدول ، بل والانقسام فى قوة العمل ما بين عالية الدخل فى العالم القسم المتقدم ، ومنخفضة الدخل فى القسم المتخلف ، و الذى من خلاله يتم نزح الفرق بين الدخلين إلى العالم المتقدم .
* أصبحت الديمقراطية فى العالم بكل أبعادها وبكل تلويناتها لا تنطلى إلا على السذج ، فالمشاركة فى الانتخابات العامة تتدهور بمعدلات عالية فى كل بقاع العالم ،فالأحزاب فضلا عن تدهور عضويتها فأنها فعليا تصل إلى السلطة فى أكثر البلدان ديمقراطية بنسب متدنية من أصوات من يحق لهم الانتخاب ، كما تتقلص عضوية النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية بمعدلات مذهلة ، مما يجزم بضعف المشاركة والثقة الشعبيتين فى تلك اللعبة التى تمارسها النخب الحاكمة والسياسية والبيروقراطيات الحكومية والحزبية والنقابية مما يفقدها حتى فى أكثر البلدان ديمقراطية مشروعيتها ، وفى نفس الوقت تتشكل المنظمات الدولية و الإقليمية من ممثلين بيروقراطيين لتلك الحكومات المتفاوتة فى طريقة تمثيلها لشعوبها ما بين الديمقراطية والديكتاتورية ، وتتخذ القرارات التى تمس مصالح سكان الأرض دون إرادتهم ، ووفق آليات غير ديمقراطية تعتمد على موازين القوى الدولية .وحيث أن القرارات ذات الطابع التنفيذى أو التشريعى أو القضائى لتلك المنظمات تتعلق بمصالح سكان الأرض فلابد ووفقا لدواعى الديمقراطية أن يسأل فيها هؤلاء السكان ، وأن تتشكل تلك المنظمات طالما تمتلك السلطة وفق آليات ديمقراطية يمثل فيها السكان لا الحكومات . بمعنى ضرورة وجود تنظيم سياسى ديمقراطى عام للمجتمع البشرى .
ومن المؤشرات التى تؤكد على لا ديمقراطية النظام السياسى العالمى استبداد الشركات المتعدية الجنسية بأحوال البشر بعيدا عن الرقابة الشعبية والرأى العام ، فتستطيع شركة ميكروسوفت مثلا أن تقرر عدم السماح بإنزال برامجها على أجهزة الكومبيوتر من إنتاج شركة آى بى إم ، ولك أن تتخيل ما يمكن أن يحدث فى العالم الذى أصبح معتمدا فى إدارة شتى أمور حياته على استخدام برامج الويندوز و الأوفس التى تنتجها ميكروسوفت ، والتى تباع مع أجهزة آى بى إم الأصلية والغير أصلية ، وبالرغم من خطورة القرار الذى يشبه فى أثره قرار تدمير العالم بالأسلحة النووية فأن من فى إمكانه أن يقرره هو مجرد رجل أعمال لا علاقة له بالسياسة المباشرة ، أو أجهزة الدولة القومية أو المنظمات العالمية ولم يختاره سوى المساهمين بالشركة ، و أن من يمكن أن يحاسبه على قراره هذا هم هؤلاء المساهمين بالشركة ، بعيدا عن إرادة المستهلكين ، فضلا عن أن الشركة تحمل جنسية الولايات المتحدة وتخضع لسلطتها القضائية إذا ما خالفت القوانين الأمريكية فى حين أن سلوكها يمتد تأثيره إلى ما وراء الحدود الأمريكية . وتستطيع منظمة الدول المصدرة للنفط رفع أو خفض إنتاج البترول وسعره فى السوق فيتأثر الاقتصاد العالمى انكماشا أو توسعا وفى مثل هذا النظام العالمى لا يمكن الحديث عن الديمقراطية أو الحرية طالما أن غالبية سكان الأرض تتخذ بشأنهم قرارات تؤثر فى حياتهم دون أن يحق لهم الاعتراض أو التأثير فى متخذى القرار ومنفذيه. وتستطيع الشركات المتعدية الجنسية نقل استثماراتها والرأسماليون الماليون فى نقل الأموال عبر العالم بلا قيود ، مما يؤثر على الاقتصاديات فى الدول القومية المختلفة انكماشا وتوسعا ،وبطالة وتوظفا، بعيدا عن إرادة المواطنين .مما يرغم الحكومات على التسابق على إرضائها بالإعفاءات الضريبية والجمركية ، وتخفيض الإنفاق الاجتماعى.بعكس رغبة الناخبين .و أخيرا قالت لى ذات يوم إحدى قيادات الحركة الماركسية القومية تعليقا على العالمية التى أمثلها ،أنكم عاجزون أن تفعلوا شيئا هنا فتعلقتوا بالعالم هربا من تغيير الواقع المحلى ، والحقيقة أن أى معارضة فى العالم لن تفعل خير مما تفعله أى حكومة قومية فى العالم الآن مهما تحسنت نواياها تجاه شعوبها وأيما كانت برامجها ، فستفاجأ حين تصل إلى دست الحكم أنها مقيدة بأوامر ديكتاتورية أسواق المال العالمية والتى يجسدها الرأسماليون العالميون التى تنتقل أموالهم وسلعهم عبر العالم بلا قيود ، ومن ثم فالتأميم وفرض الضرائب على الأرباح ورأسالمال ،و الإنفاق الاجتماعى وضمان حقوق الإنسان الاجتماعية والثقافية بما فيها حقوق الإضراب ، و تكوين النقابات هى أمور غير مسموح بها فى ظل هذه السلطة الأممية التى تجاوزت منذ زمن الحدود الدولية و الولاءات العاطفية ،وهى تمارس ديكتاتوريتها الشمولية عبر وسائل غير دموية ، فقهرها ينبع من احتياج دول العالم لما فى يدها ، و من ثم يجب استرضاءها حتى تأتى ، ومن هنا لا إمكانية لمقاومتها إلا عبر العالم .

وبناء على كل هذه الدفوع وغيرها يصبح الحديث عن ضرورة إعادة بناء المجتمع البشرى على أساس الهوية البشرية فحسب ضرورة يفرضها الواقع برغم كل ما قد يكتنف تلك العملية من صعوبات ، فعوائق اللغة لم تحطم الوحدة السويسرية المستمرة لثمانى قرون فى ظل نظام هو الأكثر ديمقراطية نسبيا فى العالم ، واختلاف العادات والتقاليد والعقائد والثقافات لم تكن عائق على استقرار الدولة الهندية على مدى نصف قرن ، ولم تكن تعددية القوميات واللغات والثقافات سببا فى انهيار الاتحاد السوفيتى بل القهر الستالينى القومى و أوهام النهضة على الأسس القومية بعض من أسبابه . فمادامت البنية الاجتماعية قائمة على احترام الاختلافات بين البشر والمساواة بينهم رغم الاختلافات ، ومادامت البنية السياسية والإدارية للمجتمع منفصلة تماما عن تلك الاختلافات التى تتحول من فرصة لإثراء الحياة البشرية بالتفاعل الحى بين البشر المختلفين ، إلى سببا فى تدمير المجتمع فحسب حين تتخذ مبررا للتفرقة وعدم العدالة والتحيز والتعصب ونفى الآخر ، مما يولد الصراع والعنف ويؤدى إلى تفكك المجتمع الذى يتماسك فقط عندما يتمتع جميع أعضاءه بالعدالة والمساواة وكافة حقوق الإنسان .

الاثنين، 24 مارس 2008

اللاسلطوية عكس الفكر الماركسى اللينينى فى تنظيم المجتمع

اللاسلطوية عكس الفكر الماركسى اللينينى فى تنظيم المجتمع
ليورانزو كمبوا إرفن
ترجمة : سامح سعيد عبود
تاريخيا ،هناك ثلاث أشكال رئيسية من الاشتراكية،الاشتراكية التحررية (اللاسلطوية)،الاشتراكية السلطوية(الشيوعية الماركسية)،الاشتراكية الديمقراطية (الديمقراطية الاجتماعية الانتخابية) .اليسار السلطوى يردد صدى التصوير البورجوازى ل اللاسلطوية كأيديولوجية للفوضى والعبث والجنون .لكن اللاسلطوية وخاصة اللاسلطوية الشيوعية ليس لديها و ما يجمعها وهذه الصورة . الزائفة و المصنوعة من قبل أعدائها أيديولوجيا الماركسيين اللينينين. إنه من الصعب جدا على الماركسيين اللينينين تقديم نقد موضوعى ضد اللاسلطوية الشيوعية بسبب طبيعتها التى تدك كل المزاعم الأساسية للماركسية اللينينية ، طالما ظلت الماركسية اللينينية تتمسك بكونها فلسفة الطبقة العاملة وأن البروليتاريا لا تستطيع أن تدين بتحريرها لأى أحد سوى للحزب الشيوعى ،فأنه يكون من الصعب الاستناد إليها والقول أن الطبقة العاملة حتى الآن ليست مستعدة لإعفائها من التسلط عليها، لينين أتى بفكرة الدولة الانتقالية، والتى ستذوى بعيدا بمرور الزمن ، أو لتمضى بعد فترة "ديكتاتورية البروليتاريا" لماركس ، الللاسلطويون كشفوا هذا الخط الأيديولوجى كثورة مضادة ، وكانحراف لانتزاع السلطة من يد الناس ، وبعد 75 عاما من الممارسة الماركسية اللينينية التى برهنت على صحة وجهة النظر تلك ، حيث رأينا جميعا ما تسمى بالدول الاشتراكية المؤسسة على مفاهيم الماركسية اللينينية و قد أنتجت فقط الدولة الستالينية البوليسية ،حيث العمال لا يملكون أى حقوق ، بينما تملكها الطبقة الحاكمة الجديدة من التكنوقراطيين وساسة الحزب الصاعدين ، ورأينا كيف استمرت التفاوتات الطبقية بين هؤلاء الذين ميزتهم الدولة النطاق و بين الجماهير المحرومة بخلقها الحرمان واسع النطاق بينهم ، و من ثم فقد دشنت صراع طبقى آخر بدلا من أن تلغى كل صراع طبقى كما سبق ووعدت . لكن الماركسيين اللينينيين بدلا من توجيه انتقادات رئيسية للفكرة اللاسلطوية ، فقد ركزوا هجماتهم ليس على مفهوم اللاسلطوية بل على الرموز التاريخية للاسلطوية و بشكل خاص على باكونين (المعارض الأساسى لماركس فى الأممية الأولى). اللاسلطويين هم الثوريين الاجتماعيين الذين يهدفون إلى اللا دولتية ،اللا طبقية ، الاتحادات التعاونية الطوعية لمجتمعات لا مركزية مؤسسة على الملكية الاجتماعية ، الحرية الفردية ، والإدارة الذاتية المستقلة للحياة الاقتصادية والاجتماعية. اللاسلطويون يختلفون عن الماركسيين اللينينيين فى كثير من القضايا ، و بشكل خاص فى البناء التنظيمى ، و هم يتميزون عن الاشتراكيين السلطويين فى ثلاث مفاهيم أولية ، هم يرفضون المفاهيم الماركسية اللينينية ، حول الحزب الطليعى ، المركزية الديمقراطية ، ديكتاتورية البروليتاريا ، و اللاسلطويون لديهم بدائل لكل هذه المفاهيم ، ولكن المشكلة هى أن معظم المنتمين لليسار (بما فيهم بعض اللاسلطويون) جاهلين بشكل كامل بالبدائل البنيوية الملموسة لتلك المفاهيم الماركسية وهى الجماعة الدعائية ، والديمقراطية المباشرة ، و المشتركات (الكوميونات )الجماهيرية. البديل اللاسلطوى للحزب الطليعى هو الجماعة الدعائية . الجماعة الدعائية بشكل مجرد تتكون كاتحاد شيوعى لاسلطوى بين أفراد و جماعات متقاربة فى عملها ورؤاها ،و هى تقام على قواعد تنظيمية أو ضرورية فحسب ، وهى تعتمد على توافق إرادات و رغبات الأعضاء فى التعاون فيما بينهم وإلحاح الظروف الاجتماعية التى تفرض عليهم النضال سويا ، و الاتحاد اللاسلطوى الثورى يقام بواسطة ممثلين عن جماعات دعائية متجانسه ، (أو الجماعة المتجانسة نفسها عند نموها لحد يسمح لها بالانقسام لجماعات دعائية فرعية ) .وفى كل الأحوال يتم الإلتزام بمبدأ ضمان الحقوق و الامتيازات والمسئوليات التصويتية الكاملة لكل عضو . الجماعة الدعائية واتحاداتها تضع كل من السياسات و خطط الأعمال المستقبلية و تؤدى وظائفها وفق هذا المبدأ ، أنها تربط بين كل من النظرية الشيوعية اللاسلطوية والممارسة الاجتماعية . عقيدتها هى الانخراط فى الصراعات الطبقية و الاجتماعية من أجل نفى النظام الرأسمالى والسلطوى ، أنها تنتظم سواء فى التجمعات البشرية المختلفة أو فى أماكن العمل ، و هى فى النهاية جماعة ديمقراطية تخلو من أى رموز للسلطة مثل زعماء الحزب و اللجنة المركزية وخلافه. و لأن الثورة لابد وأن تحدث على نطاق واسع يتجاوز نطاق عمل الجماعات واتحاداتها المحلية فأن العمليات التنسيقية بين هذه الجماعات واتحاداتها المحلية تصبح ضرورة ملحة ، و تشكيلها لا يمكن أن يكون فى طريق معاكس لمبادىء اللاسلطوية ، فما يعارضه اللاسلطويون تحديدا هو التراتبية فى التنظيم ، سلطة القيادة المعرقلة للعمل ، و التى تكبح الدافع الخلاق للكتل المنخرطة فى العمل وتطبق بقرارتها البيروقراطية على رقابهم ، حيث يكون الأعضاء فى مثل هذه الجماعات التراتبية مجرد خدم وعبيد لقيادة الحزب ، لكن برغم أن اللاسلطويون يرفضون مثل هذه القيادة المركزية المتحكمة فى تابعيها ، فهم يقرون أن هناك بعض الناس يكونون أكثر خبرة أو أفصح أو أكثر مهارة من آخرين ، وهؤلاء الأشخاص لابد وأنهم سيلعبون أدوار القيادة فى العمل ، هؤلاء الأشخاص ليسوا رموز مقدسة للسلطة ، ويمكن ببساطة أن ينحوا عن مسئولياتهم حسب إرادة عضوية التنظيم ، كما يوجد هناك أيضا وعى بأهمية تداول المسئوليات بين الأعضاء بشكل متواتر لإكساب الآخرين المهارات المختلفة عبر ممارسة المسئوليات ، و بشكل خاص النساء والمنتمين للأقليات العرقية والثقافية فى المجتمع الذى تنشط فيه الجماعة الدعائية ، والذين لا يحصلون عادة على هذه الفرص بحكم انتماءاتهم والعادات والتقاليد والأعراف السائدة المحيطة بهم . خبرة هؤلاء الأشخاص الذين يكونون عادة نشطاء محنكين أو مؤهلين على نحو أفضل من الغالبية فى لحظة ما تجعلهم يستطيعون المساعدة على تشكيل وقيادة و تطور الحركة ، و المساعدة على بلورة الإمكانية من أجل التغيير الثورى فى الحركة الشعبية . ما لا يستطيعوا أن يفعلوه هو تولى السلطة فوق مبادرة هذه الحركات الشعبية نفسها. الأعضاء فى هذه المجموعات الدعائية ينكرون الأوضاع التراتبية (تمتع أى شخص بسلطة رسمية أكثر من الآخرين ) وهى الأوضاع المشابه للأحزاب الماركسية اللينينية الطليعية ،كما أن المجموعات الدعائية اللاسلطوية لن تسمح بإدامة قيادتها من خلال الديكتاتورية بعد الثورة .فبدلا من ذلك فأن الجماعات الدعائية واتحاداتها سوف تحل نفسها فور انتصار الثورة ، وعضويتها السابقة عندئذ ستكون مهيئة للذوبان فى عمليات اتخاذ القرارات فى تجمعات المجتمع الجديد .ومن ثم سيكون هؤلاء اللاسلطويون بعد الثورة بلا قيادات بل مجرد أفراد أكثر وعيا يعملون كمرشدين و كمنظمين لحركة الجماهير فى عملية بناء المجتمع الجديد . ما لا نريده ولا نحتاجه بالفعل هو مجموعة من السلطويين تقود الطبقة العاملة ، و تقيم من نفسها قيادة مركزية لصنع القرارات و بدلا من "ذبول" دول الماركسية الللينينية الموعود فأننا رأيناها جميعا وقد أدامت الأوضاع التسلطية (البوليس السرى، سادة العمال ، الحزب الشيوعى) للحفاظ على سلطتهم التى انتزعوها . الفعالية الظاهرة لمثل هذه المنظمات التى تخدع البعض بضرورتها ، تحجب الطريقة التى يحتذى بها الثوريين أنفسهم المؤسسات الرأسمالية ( الدولة والشركة) التى يكافحونها ، فمنظماتهم المحاكية للنمط البورجوازى القائم على الانقسام بين البشر ، بين من يأمرون ومن يطيعون الأوامر ، تصبح ممتصة بالقيم البورجوازية والسلطوية برغم خطابها الشيوعى التحررى، ومعزولة تماما عن الاحتياجات الواقعية ورغبات الناس العادية. مقاومة الماركسيين اللينينين لقبول التغيير الاجتماعى الثورى الذى يحطم الانقسام بن البشر بين آمرين ومأمورين ، أيما كان يكمن فى فوق كل ما رأيناه فى مفهوم لينين للحزب . فرضية ضرورة انتزاع السلطة السياسية ووضعها فى يد الحزب الشيوعى كشرط للتحرر الاجتماعى .الحزب الذى يخلقه اللينينين اليوم ،مثلما يعتقدون سوف يصبح الحزب الوحيد للبروليتاريا و الذى يمكن للطبقة العاملة من خلاله أن تنتظم وتحوز السلطة وأن تحرر نفسها. فى الممارسة أيما كانت ،هذا يعنى الديكتاتورية الشخصية والحزبية، والتى تعطي الحزب الفائز والقائد الحق والواجب لمحو كل الأحزاب و الأيديولوجيات الأخرى المهزومة و المقودة . كل من لينين وتروتسكى و ستالين ، قد قتلوا الملايين من العمال والفلاحين، كما نكلوا بمعارضيهم الأيديولوجيين فى الجناح اليسارى للثورة ، وحتى بالألاف من أعضاء حزبهم البلشفى. دموية هذا التاريخ الخيانى تفسر كل هذه العدائية والمنافسة البالغة الحدة بين الأحزاب الماركسية اللينينية و التروتسكية حتى اليوم ، وتفسر لماذا نرى فى كل دول العمال سواء فى كوبا أو فى الصين أو فى فيتنام أو فى كوريا تجسم بيروقراطية طغيانية فوق شعوبها. ويفسر أيضا لماذا رأينا أنه فى معظم البلاد الستالينية بشرق أوربا قد تم إسقاط حكوماتها بواسطة البورجوازية الصغيرة والناس العاديين فى عقد الثمانينات ، و ربما نشهد خسوف شيوعية الدولة بشكل كامل ، فهؤلاء لم يصبح لديهم شىء جديد ليقولوه وأنهم لن يمكنهم استعادة حكوماتهم مرة ثانية.البديل عن المركزية الديمقراطية هى الديمقراطية المباشرة بينما تصل المجموعات اللاسلطوية لقراراتها عبر مناقشة لاسلطوية بين أعضاءها ،نجد أن الماركسيين اللينينين ينتظمون خلال ما يسمى بالمركزية الديمقراطية .المركزية الديمقراطية تقدم كشكل من ديمقراطية الحزب الداخلية ، لكنها فى الحقيقة محض تراتبية استبدادية ، حيث كل عضو فى الحزب وأخيرا فى المجتمع بعد نجاح الحزب قى الوصول للسلطة يكون خاضعا للعضو الأعلى حتى نصل للجنة المركزية للحزب كلية القدرة والجبروت ثم رئيسها صاحب الحق الوحيد فى التفكير وإصدار الأوامر . و هذا إجراء غير ديمقراطى بشكل كامل وهو يضع القيادة فوق مستوى النقد حتى لو لم تكن فوق مستوى اللوم .أنها طريقة تفسد و تفلس العمليات الداخلية للمنظمة السياسية ، أنك لا تملك صوتا فى الحزب ويجب أن تخاف من قول أى تعليقات ناقدة للقيادة أو حول القادة حتى لا تتناولك الشكوك والاتهامات. القرارات فى المجموعات اللاسلطوية تتخذ من قبل كل الأعضاء (والذين لا يملك أحد منهم سلطات فوق ما يملكه عضو أخر) الأقلية المخالفة تحترم ، و مساهمة كل فرد تكون طوعية . كل عضو له الحق فى الموافقة أو عدم الموافقة على أى سياسة أو فعل ، وأفكار كل عضو تعطى نفس الوزن والاعتبار ،لا قرار يمكن أن يتخذ حتى يكون لكل عضو فرد أو مجموعة منضمة يمكن أن تتأثر بهذا القرار ،الفرصة ليعبر عن رأيه فى الموضوع محل القرار .الأعضاء الأفراد والجماعات المنضمة للاتحاد تحتفظ بحقها فى رفض دعم أنشطة جماعية أو اتحادية معينة .هذه هى الديمقراطية الحقيقية ،القرارات التى تخص الاتحاد ككل يجب أن تتخذ بواسطة أغلبية أعضاءه . فى معظم القضايا لا يكون هناك احتياج حقيقى لاجتماعات رسمية من أجل اتخاذ القرارت ، ما نحتاج إليه هو تنسيق أعمال المجموعة أو الاتحاد .بالطبع ،هناك أوقات يجب أن يتخذ فيها قرار عاجل ، وأحيانا بسرعة جدا.وهذا يكون أمر نادر لكن أحيانا لا يمكن تفاديه ،القرار فى هذه الحالة يمكن أن يتخذ بواسطة حلقة أصغر من العضوية العامة المكونة من مئات أو آلاف . ولكن فى الأحوال العادية كل هذا يحتاج لتبادل المعلومات والحقائق بين الأعضاء و الجماعات من أجل اتخاذ قرار يعيد تناول القرار الأصلى الذى تم اتخاذه فى ظرف الطوارىء. بالطبع خلال هذا النقاش سوف يبذل جهد لتوضيح أي اختلافات أساسية بين الأعضاء حول القرار المتخذ ، و اكتشاف الطرق البديلة للفعل الذى تم اتخاذ القرار بشأنه. وهناك دائما محاولات للوصول عبر النقاش لتوافق متبادل على القرارات بين وجهات النظر المتعارضة ،بينما لو كان هناك مأزق أو عدم وجود إمكانية للوصول للتوافق المتبادل مع القرار ، فيأخذ القرار طريقه للعرض على التصويت ، وحينئذ يقبل أو يرفض أو يلغى بأغلبية الثلثين . و هذا على العكس كليا من ممارسة الأحزاب الماركسية اللينينية حيث اللجنة المركزية من جانب واحد تعد السياسات والقرارات لكل المنظمة على نحو تحكمى وتسلطى اللاسلطويون يرفضون مركزة السلطة ومفهوم المركزية الديمقراطية .كل المجموعات الدعائية هى اتحادات حرة مشكلة وفق احتياج عام و ليسوا ثوريين مروضين بالخوف من السلطة ،بينما يتسع نطاق مجموعات العمل (والذى ممكن أن تتشكل بين العمال أو حركة مكافحة العنصرية ،أو حقوق المرأة ،أو التمويل أو التغذية والإسكان ..الخ) و تصبح منظمات ضخمة يصعب معها ممارسة الديمقراطية المباشرة ، فأنه يمكنها حينئذ أن تنقسم لمجموعتين أو أكثر تتمتع بالاستقلال الذاتي بلا مركزية مع استمرارها متحدة فى اتحاد واحد واسع .و هذا يجعلها قادرة على الاتساع بلا حدود بينما تحتفظ بشكلها اللاسلطوى المتميز بكل من الإدارة الذاتية و اللامركزية. أنها نوعا ما تشبه النظرية العلمية للخلية الحية فى الانقسام وإعادة الانقسام لكن بالمعنى السياسى. المجموعات اللاسلطوية لا تنتظم بشكل ضرورى على نحو محكم ، نظرية التنظيم اللاسلطوية مرنة والبنية التنظيمية يمكن أن لا توجد عمليا أو توجد على نحو محكم جدا وهذا يعتمد على نمط المنظمة المطلوب فى ظل الظروف الاجتماعية التى تواجهها الحركة اللاسلطوية ،على سبيل المثال المنظمة يمكن أن تكون محكمة خلال العمليات العسكرية أو خلال القمع السياسى المشدد.المشتركات الجماهيرية (الكوميونات) بديل عن ديكتاتورية البروليتاريا اللاسلطويون الشيوعيون يرفضون المفهوم الماركسى اللينينى عن ديكتاتورية البروليتاريا ،وما يسمى ب"الدولة العمالية" مفضلين المشتركات الجماهيرية (الكوميونات). بما لا يشبه أعضاء الأحزاب اللينينية والذين يعيشون يوميا على نحو مشابه بوجه عام لنمط الحياة البورجوازى الحاضر، فأننا اللالطويون يحاولون العيش وفق أنماط الحياة والبنية التنظيمية التى تحاول أن تعكس المجتمع التحررى للمستقبل و ذلك من خلال الترتيبات الحياتية التشاركية، الجماعات المتقاربة... اللاسلطويون بنوا كل أنواع المشتركات الجماهيرية والتجمعات خلال الحرب الأهلية الأسبانية فى عقد الثلاثينات من القرن الماضى ، لكن تم تحطيمها من الفاشيين والشيوعيين. ولأن الماركسيين اللينينين لا يبنوا تنظيمات تعاونية ( أنوية المجتمع الجديد) مفضلين الانغماس فى عالم البورجوازية ، فأنهم لا يستطيعوا رؤية العالم إلا فى المصطلحات السياسية البورجوازية فقط. هم يريدون الاستحواز على سلطة الدولة ويحلوا ديكتاتورياتهم فوق الشعب والعمال بدلا من إزالة سلطة الدولة واستبدالها بالمجتمع التعاونى الحر. أنهم يؤكدون أن الحزب يمثل البروليتاريا و التى لا احتياج لها لتنظيم نفسها خارج الحزب ،وحتى فى الاتحاد السوفيتى السابق ،فأن عضوية الحزب الشيوعى لم تشكل إلا خمسة فى المئة من السكان. هذه أسوء أنواع النخبوية و التى جعل الأحزاب الرأسمالية أكثر ديمقراطية بالمقارنة بها. ما كان يقصده الحزب الشيوعى بتمثيل سلطة العمال لم يكن واضحا ،إلا أن النتائج كانت 75 عاما من القهر السياسى وعبودية الدولة بدلا من عهد من الحكم الشيوعى المجيد ، أنهم يجب أن يخضعوا للحساب سياسيا من جراء جرائمهم ضد الناس،ويجب أن نرفض نظريتهم و ممارستهم السياسية الثورية ،أنهم جللوا الاشتراكية والشيوعية بالعار، و أجلوا إمكانية تحققهما الفعلى لمدى زمنى طويل. أننا نرفض ديكتاتورية البروليتاريا ، كونها قهر غير مقيد ، والماركسيين اللينينين و الستالينين مصممين على تحقيقه ، الملايين قتلهم ستالين باسم مكافحة الصراع الطبقى الداخلى ، وملايين أكثر قتلتهم الحركات الشيوعية فى الصين و بولندا و أفغانستان وكمبوديا وبلاد أخرى حيث اتبعت فرضية كل من تروتسكى و ستالين بضرورة الإرهاب الثورى . نحن نرفض شيوعية الدولة كأسوأ انحراف وطغيان حدث باسم التحرر مما اضر بقضية التحرر .و نجزم أننا نستطيع أن نصنع ما هو أفضل منها مع المشترك الجماهيرى (الكوميون) . كوميون الجماهير اللاسلطوى (أحيانا يطلق عليه مجلس العمال بالرغم من بعض الاختلافات بين المفهومين) يمكن أن يكون قومى أو قارى أو اتحاد متعدد القوميات لتعاونيات سياسية واقتصادية و تشكيلات تشاركية محلية . اللاسلطويون يتطلعون لعالم ومجتمع يكون فيه صنع القرار عمل كل شخص والذى ينخرط فيه مع باقى أعضاء التشاركية أو الكوميون المنضم إليه ، و من ثم فهو ليس عمل قلة تروض الآخرين وفق نزواتها وتحركهم كالتروس فيما يسمى ديكتاتورية البروليتاريا. إن أى ديكتاتورية وكل ديكتاتورية هى أمر سيئ حتى ولو تمت باسم البروليتاريا ، و أنها لا يمكن أن تعيد لنا الأشكال الاجتماعية الحرة بعد أن سلبتها ، بالرغم مما يخبرنا به اللينينون بأنها تحمينا من الثورة المضادة .فطالما الماركسيين اللينينين يدعون أن هذه الديكتاتورية ضرورية لكى تضرب أى ثورات مضادة بورجوازية تقودها الطبقة الرأسمالية أو رجعيو الجناح اليمينى فأنهم أبعد ما يكونوا عن المشروع التحررى . اللاسلطويون يشعرون أن هذا الإدعاء نفسه جزء من مدرسة التخريف الماركسى. فجهاز ممركز مثل الدولة يكون هدف أسهل للمعارضين فى معسكر الثورة المضادة من تنظيم اتحادى مكون من التشاركيات اللامركزية. هذه التشاركيات سوف تبقى مسلحة ومدربة للدفاع عن الثورة ضد أى جيش يهاجمها عسكريا . مفتاح حركة الناس نحو الدفاع والحراسة والكفاح ووحدات الاستعدادات العسكرية الأخرى للحفاظ على ما اكتسبوه بأنفسهم من تشاركيات حرة ، وليس قهرهم بأجهزة الأمن وغسيل العقول . موقف اللينينين من ضرورة الديكتاتورية لحماية الثورة لم يكن مبرهنا عليه فى الحرب الأهلية ، و التى تلت الثورة الروسية ؛ فى الحقيقة بدون الدعم من اللاسلطويين وقوى الجناح اليسارى الأخرى و عبر الشعب الروسى حكومة البلشفيك كانت ستهزم لا محالة . والحقيقة أن الديكتاتورية انقلبت على داعميها ، وطاردت الحركات اللاسلطوية الأوكرانية والروسية وحتى المعارضين أيديولوجيا فى الحزب البلشفى حيث واجهوا السجن و القتل و النفى . ملايين من المواطنيين الروس قد قتلهم لينين و تروتسكى حقا بعد الحرب الأهلية بينما كانوا يشددون من سلطة الدولة وهو ما سبق حكم ستالين الدموى. الدرس هو أننا لن نخدع لكى نسلم سلطة الشعب المتجذرة لديكتاتورين يقودونا كأصدقائنا وقادتنا. نحن لا نحتاج الحلول الماركسية اللينينية فهى خطيرة ومضللة .هناك طريق آخر ، لكن عند كثير من اليساريين و الناس العادييين الاختيار الوحيد يظهر ليكون بين الفوضى اللاسلطوية أو الأحزاب الشيوعية الماركسية مهما كانت دوجمائية و ديكتاتورية . هذه هى النتيجة الأولية لعدم الفهم والدعاية. اللاسلطوية كأيديولوجية تقدم بنيات تنظيمية ملائمة ،بمقدار ما هى بديل صالح للنظرية الثورية ، و التى لو استخدمت يمكن أن تكون أساس لتنظيم بصلابة التنظيم الماركسى اللينينى (أو حتى أكثر منها )، هذه المنظمات ستكون مساواتية و واقعية لمنفعة الناس فقط أكثر من القادة الشيوعيين. اللاسلطوية غير مقيدة بأفكار نظرى فرد، ومن ثم فهى تسمح بالإبداع فرديا ليتطور فى شى التجمعات بدلا من الدوجمائية المميزة للماركسيين اللينينيين ،ولكونها ليست عقيدة دينية فهى تشجع التعامل الواسع مع الإبداع والتجريب والارتقاء بمؤيديها ليجيبوا واقعيا على متطلبات الظروف المعاصرة. هى مفهوم لصنع أيديولوجيا صالحة لمتطلبات الحياة بدلا من محاولة صنع حياة صالحة لمتطلبات الأيديولوجيا، ومن ثم فاللاسلطويون يبنون منظمات لتبنى عالم جديد لا لتديم سلطتها فوق الجماهير . يجب أن نبنى حركة أممية تنسيقية منظمة تهدف إلى تحويل الكوكب إلى تشاركية ستكون وثبة كبرى فى التطور الإنسانى وخطوة ثورية عملاقة .أنها تغير العالم الذى نعرفه وتنهى المشاكل الاجتماعية التى طالما اجتاحت الجنس البشرى ،أنها بدأ عصرا جديدا من الحرية والإنجاز. دعنا نتفق معه لنحصل على عالم نكسبه!