الأربعاء، 30 أبريل 2008

الخاتمة والمصادر

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
الخاتمة والمصادر
أحب أن أشير فى البدء أن هذا الكتاب لم يكن عملا بحثيا يهدف إلى إثبات خرافية منهج القوى السياسية فى مصر خاصة والعالم العربى عموما فى سبيل تأسيس حركة سياسية أخرى تستند للمنهج العلمى،وإن كان هذا من نتائج البحث الضمنية التى لاحظها القارئ، ولذلك لم أتعمد جمع مادة كافية لحصر الخطابات السياسية لتلك القوى، وهو ما يحتاج لجهد بحثى ضخم لا يتسع له حجم الكتاب وهدفه الأساسى المشار إليه فى المقدمة.ولذلك فما تم جمعه من مادة كان بغرض تحليل الخطاب وعلى نحو سجالى من أجل توضيح خرافية المنهج الفكرى السائد عمليا.فكل مثل من الأمثلة المذكورة سنجد له ما لا حصر له من الأمثلة المشابهة ،وعند كافة القوى السياسية والاجتماعية يستوى فى ذلك مفكريها وكتابها ودعائيها ومحرضيها ، كبارا كانوا أم صغارا.وسيكون سرد المزيد من الأمثلة هو مجرد تكرار سيكون مفيد لو كان الغرض من البحث تحرى مدى الخرافية لدى كل حركة سياسية أو اجتماعية .
فالهدف الأساسى هو المقارنة بين المنهجين العلمى والخرافى تطبيقا على الخطابات السياسية للقوى السياسية والاجتماعية المختلفة ،وهو ما تم توضيحه عبر الكتاب إلا أن ما يلفت النظر حقا هو ذلك التشابه الفكرى بين تلك القوى على اختلاف مواقفها السياسية والاجتماعية والثقافية ،وبرغم ما تعلنه من مناهج فكرية مختلفة.وهو ما يشير للجذر الاجتماعى/ الثقافى المشترك الذى تفرعت منه الحركات السياسية والاجتماعية فى مصر والعالم العربى وهو ما تم الإشارة إليه فى متن الكتاب .. الجذر الاجتماعى لكل تلك الحركات هو الفئات المتعلمة تعليما حديثا، والتى تعمل بالعمل الذهنى عموما ،والمنفصلة عن الطبقات الأساسية فى المجتمع ،والمسماة بالانتلجينسيا ،وحيث أن مجتمعاتنا لم تتبلور فيها الطبقات الاجتماعية بعد مما سمح لتلك الفئات بفرصة إدعاء تمثيل إحدى هذه الطبقات أو بعضها أو كلها والتحدث باسمها،و ومن ثم ترفع أيديولوجية الهوية أيا كان نوعها قومية أو دينية أو ثقافية أو عنصرية أو طبقية،ذلك لأن المصلحة المؤكدة لتلك الفئات تتطابق مع ما تزعمه لنفسها من دور تاريخى فى قيادة من تتحدث باسمهم لحل مشاكلهم، وعلى رأسها الخروج من دائرة التخلف والتهميش، و الذى لن يكون إلا بدولة قوية على النسق الحديث ،يكونون هم عمادها الأساسى باعتبارهم الفئات الأكثر اتصالا بحكم تعليمهم الحديث بالحضارة الرأسمالية الحديثة، ومن ثم القادرين على إدارة أجهزة الدولة الحديثة.
وهم فى إطار هذا الدور وبحكم ما اكتسبوه من تعليم حديث، يبحثون عن أيديولوجيا تبرره، قد تستند للتراث الدينى رافضة تماما الحضارة الحديثة كما فى حالة التكفير والهجرة أو منتقية منها ما تراه مناسبا مع هذا التراث، ومتأثرة به فى نفس الوقت كالإخوان المسلمين،وقد تستند على الحضارة الرأسمالية الحديثة منتقية منها ما يناسب تحقيق أهدافها كالحركات القومية المتأثرة بالحركات القومية الحديثة التى ظهرت فى أوربا فى إطار عملية توحيد السوق القومى كالحركة البعثية، وقد تربط تلك الحركات نفسها بالتراث الدينى و الثقافى المحلى مثل حركة مصر الفتاة أو تتبنى العلمانية كالوفد. وقد ينتقى بعضها الماركسية اللينينية التى هى نتاج عملية طويلة أدت لتحويل الماركسية إلى ما يشبه الديانة ،والتى كانت وليدة ظروف اجتماعية مشابه للظروف الاجتماعية فى بلادنا من حيث التخلف وانقسام المجتمع لقطاعات متقدمة وقطاعات متخلفة . فقد قاد البلاشفة فى روسيا المتخلفة العمال(القطاع المتقدم)إلى السلطة بفضل التأييد الفلاحى (القطاع المتخلف) فى مجتمع لم تنضج فيه الظروف الموضوعية للاشتراكية بعد. ولذلك فقد سقطت الثمرة فى يد البيروقراطية التى تشكلت فى النهاية من كتل الانتلجنسيا لتؤدى مهمة قيادة عملية التقدم والتطوير فى المجتمع السوفيتى بنجاح لاشك فيه حتى الستينيات من هذا القرن ،وهو ما أدى لتبنى قطاعات من الانتلجينسيا فى البلدان المتخلفة ومنها مصر لهذه الأيديولوجيا لما حققته من نجاح ساحق فى ثلث المعمورة، وليس تعبيرا عن انحياز حقيقى للطبقة العاملة كما تفترض الماركسية ، وإن كان هذا لا يعنى عدم تأثرهم القوى بالتراث الماركسى فى إنحيازاته الطبقية بشكل عام.
كان استيراد أو إنتاج أيديولوجيا ما على نحو نقلى يعنى النفى المطلق و النسبى لفئات الانتلجينسيا الأخرى التى وقع اختيارها على أو إنتاجها لأيديولوجيات مختلفة، ومن ثم كان الجمود هو طابع تلك الحركات السياسية النخبوية.
ولأن هذه الحركات انطلقت لتعبر عن ذات جماعية رافضة الذوات الجماعية الأخرى، فأنها وفى إطار خطابها الفكرى والسياسى استندت لرؤى رومانسية لنفسها باعتبارها تجسيد للذات الجماعية التى تمثلها، ولهذه الذات نفسها التى تتحدث باسمها ،وقد بلغ الاندماج فى التمثيل حتى ذاب الممثل والممثل عنه فى كل واحد، فأختفي الواقع الاجتماعى من خشبه المسرح السياسى لتظهر لنا فحسب نخب الممثلين بصراعاتهم حول السلطة،ولأنهم أخفوا الواقع المتغير فقد ظهرت لهم الأشياء بلا تاريخ .
كانت تلك الانتلجينسيا ومازالت هى منتج ومستهلك النظريات ،ومن ثم ظل وعيها بالعالم وعيا نظريا ومثاليا وإن كان فى النهاية تعبير عن ضرورات واقعية حتى ولو كان تعبيرا مشوها أو مقلوبا،وهو انعكاس للواقع الاجتماعى بصور مختلفة بعضها يقترب من الفهم الصحيح وبعضها يبتعد عن الفهم الصحيح، ولأن هذا العقل المثالى يقدس النظرية، ويعتبرها الأسبق فى الوجود عن الواقع، كونها خالقة الواقع، وكونها تشكل قواه المؤثرة ،وكونها تسبق المعرفة بالواقع وفهمه ،فأنه يعتمد الإيمان بالمطلق والتحدث باسمه ،ومن ثم فلم تكن تلك الحركات تقدمية بما يكفى لتغييره جذريا.
ليس الهدف من هذا الكتاب التقييم "القيمى" للحركات السياسية، وتحديد موقعها من الخطأ والصواب،وما عليها من سلبيات وما لها من إيجابيات،وبهدف مدحها وذمها، لتعارض هذا الهدف مع منهج البحث الذى يفسر الظواهر الاجتماعية بما هو كامن فى الواقع الاجتماعى من ضرورات مادية مستقلة عن أى وعى أو إرادة، ومن ثم فلا مجال إلا لتقييم موضوعى من أجل فهم الظاهرة يجد جذورها فى الواقع الاجتماعى وتغيراته.
ربما ما دفع المرء لإنجاز مثل هذا العمل هو أننا أى سكان الأرض نعبر لحظة تاريخية فارقة قد تمتد لعشرات السنين،وهى لحظة لم تتكرر خلال التاريخ البشرى إلا مرتين. فالبشر يبدو أنهم على شفى تحول فى نفس درجة التحولات التى شهدوها بعد اكتشاف الزراعة التقليدية وتدجين الحيوانات،ثم بعد الثورة الصناعية،فما نحن بصدده الآن ثورة ثالثة فى قوى الإنتاج لابد وأن تتبعها ثورة فى علاقات الإنتاج،وما يستتبع ذلك من تغير فى شكل التنظيم السياسى للمجتمع البشرى،والوعى الاجتماعى،و الذى سيكون مختلفا عن ما تحمله نخب الانتلجينسيا الآن من أيديولوجيات، تنتمى للبنية والحضارة الرأسمالية، والتى يبدوا أنها تذبل مفسحة الطريق لبنية و لحضارة أخرى تقوم على أساس نظام اجتماعى اقتصادى مختلف،وهو ما يفسر أزمة كل تلك الحركات السياسية المرتبطة بالبنية الرأسمالية من موقع القبول أو الرفض ،حيث تستدعى تلك التغيرات السالف ذكرها نشوء حركات سياسية جديدة تعبر عن واقع اجتماعى مختلف.لا يمكن لنا تلمس ملامحها إلا على سبيل التخمين،ولذلك فلا محل للسؤال عن البديل أو ما العمل.وخصوصا أنني لست فى موقع يسمح لى بالإجابة ذاتيا أو موضوعيا.
لكن ما يمكن أن أتحدث عنه سيكون على سبيل التوقع والتمنى،و هو يتلخص فى أن التغيرات السالف ذكرها لابد وأن تؤدى إلى صراعات اجتماعية بين الطبقات والفئات الرجعية والطبقات والفئات التقدمية ،وإذا كان على أن أحدد موقفى فسيكون الانحياز للتقدم وقواه ، ومن ثم أرى ضرورة نشوء حركة سياسية أممية تناضل من أجل تحقيق أقصى درجة ممكنة من الحقوق الإنسانية بما يتجاوز ما نصت عليه إعلانات حقوق الإنسان العالمية المرتبطة بالبنية الرأسمالية ،يكون هدفها التحسين المستمر لظروف الحياة الإنسانية لكل البشر على الأرض وبصفتهم بشر لا غير.ولا شك أن نضالا لابد وأن يشتعل من أجل تسخير العلم والتكنولوجيا من أجل تحسين شروط الحياة لكل البشر ،وهو ما يتطلب تحريرهما من سيطرة كل من رأس المال والبيروقراطية اللتان تعوقان هذه الإمكانية.
ويمكن لنا أن نقول أن التوحد الاقتصادى المطرد على مستوى العالم لابد وأن يفرض تنظيما سياسيا للمجتمع البشرى لابد وأن توجد قوى اجتماعية تناضل من أجل أقصى درجات مقرطته وعلمنته .ولما كانت المعرفة والمعلومات ستصبح مصدر السلطة فى العصر القادم فأن صراعا لابد وأن ينشب بين محتكريها ،ومن يسعون لإتاحتها للجميع .
وإذا كان التطور العالمى يفرض حرية انتقال رؤوس الأموال والسلع عبر العالم لما فى ذلك من تلبية لمصالح الرأسمال العالمى فأن نضالا من قبل قوى العمل لابد وأن ينشب ليفرض حرية انتقال العمالة عبر العالم، ومن أجل أن يتساوى عائد العمل مع الإنتاجية عبر العالم.
وفى النهاية فأن معيار الانحياز لدى فى الصراع الطبقى والاجتماعى والسياسى هو إلى أى مدى يمكن أن نحقق المزيد من الحرية والعدالة الاجتماعية والعقلانية والكفاءة الاقتصادية والسعادة لكل البشر.

ثبت المصادر والمراجع
1-أحمد صادق سعد-تاريخ العرب الاجتماعى-تحول التكوين المصرى من النمط الأسيوى إلى النمط الرأسمالى-دار الحداثة –بيروت-لبنان-الطبعة الأولى-1981.
2-أحمد العلمى: "مقدمات لتأسيس علم اجتماع إسلامى" مجلة الحوار الفصلية العدد الثانى 1987. -3-أحمد طاهر اليسار العربى وقضايا المستقبل –مركز البحوث العربية –مكتبة مدبولى –1998-ط1.
4-أحمد شرف-اليسار العربى وقضايا المستقبل-ورقة عمل حول القاعدة الاجتماعية للحركة الاشتراكية فى مصر.
5-الكسى جيلوخوفتسيف-الثورة الثقافية عن قرب –مذكرات شاهد عيان-دار التقدم-موسكو-1985.
6_د.إمام عبد الفتاح إمام-الطاغية-سلسلة عالم المعرفة-الكويت-مارس1994-العدد183-.
7-أمين أسكندر-اليسار العربى وقضايا المستقبل-الحركة التقدمية العربية.
8-بدر نشأت- مدخل إلى اللغة العامية المصرية لغة الفكر والحياه-مجلة القاهرة –عدد يونيه.
9-بوناماريوف وآخرين-موجز تاريخ الحزب الشيوعى السوفيتى –دار التقدم –موسكو –1970.
10-جمال عبد الناصر-شروق مبدأ الناصرية-دار البيان للطباعة والنشر.
11-جورج المصرى : "الحرب العراقية الإيرانية – رؤية قومية" – سلسلة اليقظة العربية – السنة الرابعة – العدد الرابع، مايو1988.
12- جون مولينو-ما هو التراث الماركسى الحقيقى.( غير مبين جهة النشر و لا تاريخه و لا المترجم)
13-د. جيهان رشتى-الأسس العلمية لنظريات الإعلام –ط2-القاهرة-دار الفكر العربى1987.
14-راشد الغنوشى "طريقنا إلى الحضارة".التراث والتجديد، المركز العربى للبحث والنشر بالقاهرة - 1981.
15-د. رفعت السعيد-منظمات اليسار المصرى-1950-1957-ط1-الثقافة الجديدة.
16-ساطع الحصرى-الإقليمية جذورها وبذورها-دار العلم للملايين-بيروت- ط1-1963.
17-سناء المصرى – حكايات الفتح-دار سينا – القاهرة-1997-الطبعة الأولى-.
18-سيد زهران-الناصرية-الأيديولوجية والمجتمع-مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر-ط1-أكتوبر1989. 19_سيد قطب، معالم على الطريق.
20-سيد قطب: "فلنؤمن بأنفسنا" مقال بمجلة الفكر الجديد، 15 يناير 1948.
21-سيد قطب، المستقبل لهذا الدين.
22-شريف يونس، سيد قطب، دار طيبة، 1995.
23-شهدى عطية الشافعى-تاريخ الحركة الوطنية المصرية1882-1956-دار شهدى-الطبعة الأولى
24-صلاح أبو إسماعيل- الشهادة- شهادة الشيخ صلاح أبو إسماعيل قضية تنظيم الجهاد-دار الاعتصام.
25-د.عادل بسيونى-تاريخ القانون المصرى-مكتبة نهضة الشرق-جامعة القاهرة .
26-عادل حسين: "الإسلام دين حضارة - مشروع للمستقبل" دار بلدى، القاهرة.
27-عادل حسين: "المرأة العربية - نظرة مستقبلية" - مجلة الحوار الفصلية .
28-د. عبد الحميد الغزالى: "مقدمة فى الاقتصاديات الكلية – النقود والبنوك"، دار النهضة العربية، القاهرة، 1985.
29-د.عبد العزيز الدورى-التكوين التاريخى للأمة العربية-دراسة فى الهوية والوعى-دار المستقبل العربى-مركز دراسات الوحدة العربية-القاهرة-1985-ط ثانية.
30-د.عبد العظيم رمضان-الصراع الاجتماعى والسياسى فى مصر-مكتبة مدبولى-ط2.
31-د.عبد العظيم رمضان-الصراع بين العرب و أوربا من ظهور لإسلام إلى انتهاء الحروب الصليبية-دار المعارف-القاهرة.
32-د. عبد الهادى النجار: "الإسلام والاقتصاد" سلسلة عالم المعرفة، العدد 63، مارس 1983.
33-د.عمار بكداش- اليسار العربى وقضايا المستقبل-حول المفهومين الاشتراكى والبورجوازى للديموقراطية والتعددية.
34-فهمى هويدى: "القرآن والسلطان.
35-د.فؤاد مرسى-تطور الرأسمالية وكفاح الطبقات فى مصر-كتابات المصرى الجديد-المكتبة الاشتراكية(1).
36-ماريوس كامل ديب-السياسة الحزبية فى مصر-الوفد وخصومه1919-1939-الطبعة العربية الأولى1987-مؤسسة الأبحاث العربية-بيروت لبنان-دار البيان للنشر والتوزيع-القاهرة –مصر.
37-د.محى الدين عبد الحليم- الرأى العام فى الإسلام-مكتبة الخانجى-القاهرة-ط1982 .
38-مكسيم رودنسون : "جاذبية الإسلام" ترجمة إلياس مرقص، دار التنوير، طـ 1، بيروت 1982.
39-محمد السعيد إدريس ،حزب الوفد والطبقة العاملة المصرية 1924-1952-دار الثقافة الجديدة-ط1-1989.
40-محمد أبو زهرة، ابن تيميه، حياته وعصره، آرأوه وفقهه.
41-د.محمد جابر الأنصارى-تحولات الفكر والسياسة فى الشرق العربى-1930-1970-سلسة عالم المعرفة-الكويت-العدد35-نوفمبر1980-.
42-د. محمد مورو: "طارق البشرى شاهد على سقوط العلمانية" دار الفتى المسلم،.
43-د.محمد محمود الأمام –اليسار العربى وقضايا المستقبل-التطورات فى النظام الاقتصادى العالمى ومغزاه بالنسبة لفكر اليسار العربى. 44-د. محمد عبد السلام - ترجمة د. ممدوح الموصلى، المسلمون والعلم، كتاب الغد، عدد 3، دار الغد 1986.
45-د. محمد عمارة: "تجديد الفكر الإسلامى" كتاب دار الهلال، ديسمبر 1981، العدد 360.
46-ميشيل عفلق-من أجل البعث-دار الطليعة –بيروت-الطبعة الرابعة عشر-مايو1975.
47-د.ميلاد حنا-من ثقافة التلقين والنص إلى ثقافة الحوار والإبداع "مؤتمر مستقبل الثقافة العربية "11-14 مايو 1997.
48-نصر حامد أبو زيد-نقد الخطاب الدينى –دار سيناء –ط1-القاهرة.
49-يرفند إبراهيمان وآخرون : " إيران 1900 - 1980" مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى، إبريل 1980، بيروت.
وثائق
-مقالات ووثائق لجنة الدفاع عن الثقافة القومية- -1979-1994.
-أوراق مؤتمر مستقبل الثقافة العربية"11-14مايو1997".
المراجع
-الموسوعة الثقافية-دار الشعب-1970.
-موجز تاريخ الفلسفة-دار التقدم –موسكو.
دوريات
-مجلة صوت الأزهر(لسان حال الجماعة الإسلامية وغير مؤرخة)
-مجلة الحوار الفصلية-العدد الثانى.
-كتاب دورى اليقظة العربية-العدد الرابع.
-كتاب دورى-قضايا فكرية-أعداد الأصولية الإسلامية.
-مجلة القاهرة العدد163.

التقدمية والمحافظة

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
التقدمية والمحافظة
تستند العقلية المحافظة - وهى أساس الحركة الإسلامية - على ما يعرف بالعقلية النقلية التى تضفى صفات القداسة، ومن ثم الثبات، على مجموعات محددة من العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية الموروثة، وكذلك - وهو الأهم - فإن ما تراه لإصلاح المجتمع (أى مجتمع) هو الانطلاق من سلطويتها، من خلال العودة لمدونة قوانين محددة تم تجاوزها، أو فرض مجموعة أخرى من القوانين تحافظ على ما تراه صحيحا من العادات والتقاليد والأعراف والقيم.. ولذلك فإنه ليس من الصحيح وصف بعض أو كل تيارات الحركة الإسلامية بالثورية.. فالثورية مفهوم إيجابي يعنى السعى لتغيير جذرى للمجتمع، نحو درجة أعلى من التقدم الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى والعلمى والفكرى، وهى تعنى ضمنيا تحدى الشرعية التى تستند عليها القوانين وبنية المجتمع كلها، وهى تعنى محاولة تغيير القوانين المعيقة للتقدم، وترسيخ قوانين أخرى أكثر تقدما.. بمعنى كفالتها لدرجة أعلى من الحرية والديمقراطية والكفاءة الاقتصادية والعقلانية والعدالة الاجتماعية والمساواة.. وهو الأمر الذى لا يتوافر فى أى من جماعات الإسلام السياسى.
فالمحافظة هى امتداد للنظرة المثالية السابق مناقشتها، والتى ترى تغيرات المجتمع، كانعكاس لتغيرات القوانين وأشكال الوعى الاجتماعى عموما، وليس العكس كما ترى النظرة المادية، والتى ترى أن التغيرات التى تحدث فى الواقع الاجتماعى تفرض انعكاسا لها فى صورة قوانين وأخلاق وغيرها تعبر عن مصالح معينة ومحددة وعن علاقات اجتماعية بين البشر الذين يكونون بتفاعلهم المجتمع المعنى.
فالعقلية المحافظة تضفى قوة سحرية على القوانين، حيث تزعم أن هذه القوانين فى حد ذاتها قادرة على القضاء على ما يعانيه المجتمع من متاعب، بل ووضعه على طريق الازدهار ؛ ولذا أتعجب من الذين يطالبون الإسلاميين بوضع برنامج سياسى، مع أن برنامجهم الوحيد واضح ومحدد، "فالإسلام هو الحل" يعنى التطبيق الحرفى لمبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية وفق الفقه السنى السائد، ومد هذه المبادئ لتشمل كل مجالات الحياة فى المجتمع الإسلامى بكل ما يترتب على ذلك من آثار.. ولا شان لهم بالمسائل الأخرى، حيث لن يختلفوا عما هو سائد ويتوافق مع متطلبات الحياة المعاصرة.
طابع التغيير الإسلامى :
إن الطابع اللا ثورى يتضح فى كل حركات الإسلام السياسى - حتى أكثرها جذرية وتطرفا - من معرفة ما تبغى هذه الحركات تغييره فى المجتمع، فهى لن تمس علاقات الإنتاج السائدة من قريب أو بعيد، فستظل علاقة الإنتاج الأساسية التى تميز المجتمع الرأسمالى هى انتزاع فائض القيمة من العمال المأجورين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم لصالح الرأسماليين ملاك وسائل الإنتاج.. فلا توجد حركة إسلامية تهدف لتغيير هذه العلاقة من جذورها، حتى ولو كانت تسعى بكل الوسائل - بما فيها العنف - لقلب السلطة والنظام، وإرساء سلطتها الاستبدادية الطابع.والغريب أن البعض يقرن بين العنف والثورية مقارنة تلازم، وهى رؤية قاصرة لدور العنف فى التاريخ ،وإلا اعتبرنا أى عنف هو عمل ثورى، حتى ولو كان من أجل المحافظة على الأوضاع القائمة أو العودة لأوضاع متخلفة.هذا بصرف النظر عن الجوانب السلبية لممارسة العنف على العملية الثورية نفسها،وهو ما لا يتسع المجال لمناقشته الآن.
يكتب صلاح أبو إسماعيل"بالنسبة للحدود لا مجال لها فى تشريعنا .وبالنسبة للتعزيز،فقانون العقوبات يصلح أن يكون قانونا للتعزيز إذا أضيفت إليه الحدود ،وبالنسبة للمعاملات المالية إذا ما حذفنا الربويات وإذا عدلنا بعض أحكام التأمين فأننا قد نقترب من الشريعة الإسلامية..وبالنسبة للمرافعات .إذا اشترطنا الأهلية الشرعية فى القاضى ،وكذلك فى الشهود.وإذا استحدثنا نيابة أمن الدين أو نظام الحسبة فوكلناها إلى جهاز خاص.فأن مرافعتنا تكون إسلامية’"(1). وهكذا يتضح جوهر البرنامج الإسلامى الذى لا يعنى تغييرا جذريا فى البنية الاجتماعية كما يتصور البعض الذين يضفون الثورية على الجماعات الإسلامية لموقفها المعارض للدولة ،وإنما هو برنامج تشريعى محدود لن يمس جوهر البنية الاجتماعية.
ما يهم الجماعات الإسلامية من تغييرات فى المجتمع يتم على مستوى سلوكيات الأفراد الأخلاقية، فهكذا يبشر الإسلاميون الإيرانيون بطبيعة المجتمع الذى يسعون إليه، بعد انتصار ثورتهم "فعلى جميع الإيرانيين اليوم أن يخضعوا للقوانين التى تحرم الخمر والمخدرات، وبيع منتجات منع الحمل، والشذوذ الجنسى، وأن يأخذوا بعين الاعتبار النداءات الرسمية التى تطلب من النساء الموظفات أن يرتدين الثياب طبقا للتقاليد الاجتماعية" (2). فهم لا يسعون للمساس بالطبقات السائدة ولا تحرير الطبقات المسودة، وإنما يقتصرون فحسب على إزاحة النخب الحاكمة، وما تحوز عليه من امتيازات، ليحلوا هم محلهم "فالنظام الاقتصادى الذى يصبون إليه لا يرتكز على قوانين السوق والمزاحمة، ولا إلى التخطيط ورقابة الأنشطة الاقتصادية من قبل الدولة - وإنما إلى الأخلاق : أخلاقية فى الدوافع وأخلاقية فى المبادلات" (3). ولما كانوا هم فقط سدنة الأخلاق، وذلك من وجهة نظرهم، فإنهم يطرحون أنفسهم كبديل لكل الأنظمة والنخب الحاكمة، ليس فى البلاد الإسلامية فحسب، بل وفى العالم أجمع.. وكأن العالم لا يعانى فحسب إلا من تلك المظاهر السلوكية التى تؤذى مشاعرهم الدينية، والتى لا تتأذى من المجاعات والحروب وتلوث البيئة وازدياد معدلات الاستغلال والبطالة وإهدار الموارد وتقييد الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان.. كل تلك المظاهر التى تجد جذورها فى الطبيعة الاستغلالية لعلاقات الإنتاج فى طبيعة المجتمع الرأسمالى نفسه.
ولا ينبغى أن يخدعنا هذا الحديث عن أخلاقية الدولة - التى تسعى لإقامتها الجماعات الإسلامية المختلفة - فما هذا سوى تأسيس شرعى للدولة - يخفى حقيقة المصالح التى تعبر هذه الجماعات عنها، فالفرق التى أنقسم إليها المسلمون بدأت أصلا على شكل أحزاب سياسية تتصارع على السلطة والحكم، فالمذاهب الأساسية الثلاثة لم تنقسم حول العقيدة وأنما انقسمت حول من الجدير بحكم المسلمين فنشأت الشيعة والسنة والخوارج، وفى العصر الحديث أصبح الدين هو الأداة الأكثر يسرا التى استغلتها القوى السياسية المختلفة لتبرير شرعيتها ولابتزاز الجماهير.
إن جوهر التغيير الذى تسعى إليه الجماعات الإسلامية هو إرساء سلطة وصاية دائمة على البشر باسم الحاكمية، والتى تعنى - ببساطة - حرمان البشر من تحديد الطرق التى يعيشون بها.. ومؤدى ذلك - ببساطة - بالنسبة للفرد "تجريده من كل قيمه الذاتية عدا ما يكسبه من انتمائه لمجتمع مسلم قائم،أو ينتظر قيامه، بجهد فعال يبذله، أى : تخصيص ذاته بالكامل لعقيدة الحاكمية، وبمعنى آخر : فإن الإنسان بوصفه كذلك - ومن حيث هو صاحب إرادة مستقلة - هو عند سيد قطب" حيوان يجب ترويضه" (4). ومن هنا يتضح لنا الطابع السلطوى الاستبدادى لكل حركات الإسلام السياسى، حتى ولو ادعت الديمقراطية والشورى، فحقوق الفرد فى المجتمع المسلم مرهونة بقبوله الحاكمية، فمصدر السلطة فى المجتمع الإسلامى ليس الجماهير أو الشعب، وإنما هو النص المقدس، والقائمون على تفسيره وتطبيقه.
ويكتب د. محى الدين عبد الحليم"بينما فى الإسلام لا يكون رأى الأغلبية ملزما إلا إذا كان مستندا إلى كتاب الله وسنة رسوله،ويرى الحاكم أو أولى الأمر أنه يتفق مع المصلحة العامة أما إذا كان رأى الأغلبية يتعارض مع الكتاب والسنة أو يتعارض مع المصلحة العامة فأن هذا الرأى ليس ملزما لرئيس الدولة ولا لغيره"(5) وهم بالرغم من ذلك يتحدثون عن الحريات وحقوق الإنسان فى النظام الإسلامى المنسوب للإسلام ،ورأى الأغلبية لا قيمة له إذا تعارض مع القرآن والسنة،فمن هو الذى يحدد إذن إن كان يختلف أم لا،الحكام والفقهاء بالطبع ،فإن اختلفوا فى التفسير لاختلاف الرؤى والمصالح فيما بينهم والأمر كما نرى أمر دين لا دنيا ، فأنهم سيشرعون أسلحة التكفير والعنف فى مواجهة بعضهم ،ويتصارعون مستخدمين حرب النصوص والنصوص المضادة،والتفسيرات المتضاربة،ألم تكن الفرق السياسية عبر التاريخ الإسلامى تضع من الأحاديث النبوية ما يؤكد وجه نظرها وذلك فى حرب دعايتها لاكتساب الجماهير المخدوعة والمغلوبة على أمرها إلى صفها.
ومن هنا فإن د. محمد مورو يكتب "لقد حرص الاستعمار ومدرسته على تغيير الأنماط التشريعية المتعامل بها فى البلاد المستعمرة.. وهكذا فقد حدد الاستعمار هدفه فى ضرورة إقصاء الشريعة الإسلامية واستبدال قوانينه بها" (6). وكأن الأمة أو الشعب هنا مخيرة بين سلطتين، : أما سلطة الاستعمار وتابعية. أو سلطة النص والقائمين عليه. أما الشعب - نفسه بكل طبقاته - ففاقد الأهلية، ولا تحق له السلطة، ولا يحق له تشريع القوانين التى تنظم شئونه وتحمى مصالحه.. حيث يسلم تلك الحقوق للنخبة التى تتولى تفسير وتطبيق النص.
الحركة الإسلامية والاقتصاد:
تنطلق الحركة الإسلامية وأى أصولية دينية فى علاقاتها بالمجتمع من وجهة نظر أخلاقية لا ترى فى المجتمع (أى مجتمع) إلا مجموعة من الأفراد - بعضهم خير وبعضهم شرير، والبعض بين بين - وهى بالتالى تتعامى عما ينقسم إليه أى مجتمع قائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج إلى طبقات متصارعة بحكم اختلاف مصالحها، وبحكم موقفها من الملكية، وهى تفترض وحدة هذه الطبقات ووحدة مصالحها، التى يفهمها الإسلاميون وحدهم.. وهذا الافتراض لا يعنى جهلا بحقيقة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع الطبقى، وإنما يعنى انحيازا سافرا أو خفيا لصالح الطبقات السائدة والقاهرة بسبب تملكها أو سيطرتها على وسائل الإنتاج.
ففى المجتمع الرأسمالى ينقسم المجتمع - حسب الملكية - إلى رأسماليين من مصلحتهم تخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل ورفع أسعار السلع المنتجة ؛ لزيادة أرباحهم الناتجة عن استغلال العمال، الذين من مصلحتهم رفع الأجور وتخفيض ساعات العمل وتخفيض أسعار السلع المبيعة لهم ؛ وذلك لزيادة نصيبهم فى القيمة المنتجة. ومن هنا يتم صراع بين الاثنين على أساس اختلاف المصالح، ويسعى العمال إما لتحسين شروط الاستغلال داخل نفس المجتمع الرأسمالى بزيادة نصيبهم فى الثروة المنتجة، أو من أجل قلب علاقة الإنتاج الرأسمالية، لإقامة علاقة أخرى تعنى تحررهم من عبودية العمل المأجور.
والجماعات الإسلامية لا تستهدف استبدال علاقات الإنتاجية الرأسمالية بأية علاقات أخرى، وإنما تعمل فى أفضل الأحوال على تحسين نسبى لشروط الاستغلال الرأسمالى، مع استمرار هذا الاستغلال.. وهكذا يقول أحدهم : "وجدير بالذكر أن نشير إلى أن علاج الفقر فى الإسلام لا ينصرف فقط إلى الزكاة، بل يرجع أساسا إلى العمل، ونفقات الموسرين من الأقارب والصدقات المستحبة وغيرها" (7) ، فهذه الدعوى المعسولة بوحدة المصالح. والتعامى عن التناقضات الواقعية، لا تهدف سوى إلى الإبقاء على النظام الاجتماعي القائم، لصالح أصحاب المصلحة فى تخليده، على حساب من فى مصلحتهم قلبه رأسا على عقب.
واستمرارا للتعامى عما يعتمل فى قلب المجتمع من صراعات، يستمر المؤلف قائلا "... فإن الشريعة الإسلامية تأمر بممارسة النشاطات النافعة وتصفها بأنها "حلال" وتنهى عن تلك التى توصف بأنها "حرام" فإن الفكر الاقتصادى الإسلامى ينظم النشاطات الإنسانية فى مجالات الإنتاج والتنمية والتوزيع مسترشدا بقاعدة الحلال والحرام" (8). ومادامت القاعدة الفقهية لا تحرم العمل المأجور فإن تمرد العمال على عبوديتهم المأجورة يكون مخالفا لقواعد الشريعة، يستوجب التكفير والقمع ومادام فائض القيمة حلالا شرعا، فإن رفضه هو تحريم لما أحل الله.
وبهذه الطريقة القانونية المحافظة تتجمد التناقضات الداخلية فى المجتمع الإسلامى، ومن ثم يتوقف عن التطور الذى لا يمكن أن يتم إلا بحسم هذه التناقضات من جذورها.
وإذا كان يتم التعامى عن الصراعات الطبقية داخل الأمة الإسلامية.. فإنه يتم وصف الصراع بين الشعوب الضعيفة والمتخلفة ومنها شعوبنا - وبين القوى الإمبريالية على إنه صراع بين الخير الإسلامى والشر الكافر، وبذلك "شاع استخدام عبارات مثل "الاستكبار" فكما تفهم الصهيونية على أنها مؤامرة يهودية عالمية ضد الإسلام وليست حركة استعمارية استيطانية تلبى مصالح قطاعات من الرأسمالية العالمية، ويفهم الاستعمار الحديث على أنه مؤامرة صليبية موجهة ضد المسلمين، وليس على أنه نابع من نزوع الرأسمال الدائم للتوسع خارج حدوده القومية، من أجل الأسواق للمنتجات، ومصادر المواد الخاموالأيدي العاملة الرخيصة، وفرص الاستثمار الأفضل، من أجل الغاية الوحيدة لأي رأسمال أيا كان دينه وأيا كانت قوميته، ألا وهو: الربح، ولا شئ غير الربح.
وبدلا من هذا الفهم العلمى فإنهم يفهمون الاستعمار على أنه نزوع قوى الشر والكفر الخارجين فى حملتهم الصليبية للسيطرة علينا باعتبارنا نمثل قوى الخير والإيمان.. ويعجز هذا الفهم الصبيانى عن تفسير الحروب بين الدول الاستعمارية العالمية، وعن تفسير محاولة ألمانيا المسيحية السيطرة على أوروبا المسيحية، ولا محاولة اليابان البوذية السيطرة على شرق آسيا البوذى، و هى المحاولات التى أدت للحرب العالمية الثانية.
الحركة الإسلامية وقوانين الإصلاح وقوانين الإفساد :
تنطلق الحركة الإسلامية فى حملتها الدعائية من أن ما أصابنا من تدهور عام هو نتيجة التخلى عن الشريعة الإسلامية، وأن حل أزمة التدهور هو الرجوع لأحكام الشريعة الغراء.. وهى تتلخص فيما يتعلق بالقانون العام فى إقامة سلطة الخلافة الإسلامية التى تتركز فى يدها كل السلطات، والمشروطة بالشورى غير الملزمة من أهل الحل والعقد، ثم تطبيق الحدود العقابية الواردة فى القرآن والسنة وهى "حدود الزنا والسرقة والحرابة والقذف والردة والقصاص وشرب الخمر" وأما مادون ذلك من جرائم فللحاكم التعزير، الذى هو إعطاء الحرية للحاكم فى توقيع ما يرى من عقوبات.. وفيما يتعلق بالقانون الخاص فإنه لن تحدث تغيرات ضخمة، إذ سوف تلغى الفوائد على القروض والديون.. وسوف توجه سياسة الحكم بما يتفق والقواعد السلوكية الإسلامية المرتبطة أساسا بالاحتشام ومنع الخمور والمخدرات والاختلاط بين الجنسين.
إن منهج الجماعات الإسلامية يفترض أن تمسك الناس بالأخلاق القويمة سيخلق مجتمعا سعيدا، بدون تغيير جذرى لظروفهم الواقعية، وهذا هو المحال نفسه، ولو حتى افترضنا حدوثه على سبيل الجدل، فأى أخلاق هى التى نريد للناس أن يتمسكوا بها.. هل هى الأخلاق التى تسمح لبعض الناس أن يتمتعوا بالحياة على حساب غيرهم، والذين لا يكدحون سوى لكى يستمتع هؤلاء ؟! هل نستطيع أن ندعى أن كلا الطرفين يتمسكان بنفس الأخلاق والقيم ؟! وهل نستطيع الادعاء بأن مثل هذا المجتمع قائم على أخلاق راقية ؟! فأى أخلاق نريد : أخلاق الطمع والجشع والبخل والسرقة وخيانة الأمانة التى تفرزها الملكية الخاصة، أم أخلاق الجبن والنفاق والخنوع والسلبية والكذب التى يفرزها القهر ؟!
لابد أن نتساءل : هل أزمة مجتمعنا هى أزمة أخلاق كى نواجهها بالقوانين والوعظ الأخلاقى والتربية الدينية، أم أن ما نلاحظه جميعا من مظاهر عفنة هى أخلاق مجتمع مأزوم، هى مظاهر طبيعية لبنية اجتماعية مختلة، وهى لا تظهر فحسب عند النخبة الحاكمة، بل إنها مستفحلة إلى حد مخيف بين شتى النخب، وشتى التيارات، وشتى شرائح المجتمع، رغم الضجيج الذى لا ينقطع للوعظ والإرشاد، ورغم السيل الجارف للدعوة الإسلامية وغير الإسلامية، والتى لا تؤثر فى العمليات الواقعية التى تجرى داخل المجتمع المريض، بل إنها تطول من يتولون هذا الوعظ وتلك الدعوة، ليس لشر فيهم أو نفاق، وإنما لأنهم أعجز من أن يتحرروا من الواقع الذى هم فيه يعيشون ؟!
ومن هنا يتضح لنا منهجان أساسيان :
الأول : يفترض أن الناس أطفال فطروا على الشر، يجب أن نعظهم، فإن لم يستجيبوا للوعظ، فيبقى علينا أن نردعهم بالقوانين الإلهية وغير الإلهية الصارمة، والجاهزة سلفا. وهو منهج يفترض أيضا أن البشر مجرد أفراد مستقلين تماما عن وجودهم الاجتماعى، عن علاقاتهم الاجتماعية الواقعية، وبالتالى فهم أحرار فى قبول الوعظ أو رفضه، وفى طاعة القوانين أو عصيانها، وهو يفترض - أخيرا - أن القوانين أيضا لها استقلالها عن الوجود الاجتماعى والعمليات التى تشكل جوهره، وأنها أيضا تسبق هذا الوجود وتخلقه، وتنظم علاقاته، فى حين أن القانون هو تحويل وتقنين العلاقات الواقعية إلى نصوص تشريعية منظمة.. هذا هو منطق الحركة الإسلامية.
والثانى : يفترض أن البشر ليسوا بأطفال فطروا على خير أو شر، وإنما هم أبناء ظروفهم الاجتماعية، فهى التى تربيهم وتردعهم وتعظهم، وتخلقهم صالحين للتكيف معها، ومن لا يستطيع التكيف فإن مصيره هو الانقراض والانسحاق والكبت، تحت عجلة الواقع الذى لا يرحم.. حتى مضمون الوعظ ونصوص القانون تخلقها الظروف الاجتماعية، فهما ثمرتان لها، وليستا بأى حال جذورا لها.
فالقانون لا يعنى شيئا إذا كان للبعض القدرة على النفاذ من ثغراته، والاستفادة من إمكانياته، بما لهم من نفوذ ينبع من قدراتهم الاقتصادية والاجتماعية.. فالقانون يمنح كل المواطنين الحق فى التقاضى، إلا أن من يملك المال هو وحده القادر على شراء أكفأ المحامين ليمثلوه أمام القضاء، والقانون يمنح الجميع حق الترشيح للمناصب العامة، إلا أن هذا الحق لا يمارسه إلا من يستطيع تمويل حملته الانتخابية... وهكذا.
والقانون لا يعنى شيئا مادام لا يستند إلى لقواعد العدالة، فحينئذ لن يستحق الاحترام الواجب، مثل قانون يمنح البعض الحق فى الدعوة لآرائهم ومعتقداتهم، ويجرم بل ويعاقب أصحاب الآراء والمعتقدات المخالفة، ومثل أى قوانين تميز بين البشر بسبب معتقداتهم وآرائهم، فمثل هذه القوانين لا تستحق الاحترام، لفقدانها شرط العدالة الحقيقية.
ومهما قست القوانين وتميزت الجهات التى تراقب احترامها بالصرامة والدقة مع وجود أبالسة الواقع الحقيقيين (الملكية الخاصة والقهر) فلن يرتدع البشر، وستظل دائما لديهم القدرة على التمرد والتحايل والتملص : فقد كانت كل الشرائع القديمة ما قبل العصر الحديث تتميز بعقوبات غاية فى القسوة - مثل : الصلب، السحل، الخوذقة، التوسيط، قطع الطراف، الجلد، الحرق- وبالرغم من ذلك لم تختف الجريمة، طالما ظلت البنية الاجتماعية تهيئ الظروف للجريمة.
ومن يظنون أن تطبيق الشريعة الإسلامية كفيل بوجود مجتمع بلا جريمة، وبلا شرور، لا شك حالمون، فقد استمر تطبيق الشريعة الإسلامية فى الشقين الجنائى والمدنى حتى أواسط القرن الماضى فى مصر، ولكن كتب التاريخ تكشف أنه ما اختفت يوما ما الجريمة والشر والخطايا فى المجتمع المصرى فى أى عصر من العصور.
وبالرغم من تطبيق الشريعة الإسلامية، لم تخفت ثورات العبيد والفلاحين وفقراء المدن المطالبة بالعدل الاجتماعى، بالرغم من جباية الزكاة وتوزيعها على الفقراء، وبرغم فك الرقبة الذى تحض عليهم الشريعة، إلا أن أسواق النخاسة لم تغلق إلا فى النصف الثانى من القرن الماضى بفضل التحديث الرأسمالى الآتى من الغرب.
وفى السعودية نفسها - النموذج المحتذى من قبل الحركة الإسلامية - تطبق الشريعة الإسلامية، وبالرغم من الحجاب الشديد، إلا أنه تحدث بها أشد درجات الانحلال والشذوذ، مما لا يوجد فى العواصم الغربية الكبرى نفسها.
إلا أنها تتم فى السعودية سرا وبعيدا عن العيون، ولم يردع رجم الزناة ولا جلدهم أحدا فبرغم الشريعة يذكر المصريون بكل الأسى قصة الطبيب المصرى الذى عوقب بالجلد كحد لجريمة القذف عندما تصدى بالشكوى من ناظر المدرسة السعودى، الذى اعتدى جنسيا على ابنه الذى لم يتجاوز السابعة من عمره، وهكذا لم يأت تطبيق الشريعة بالعدل للطبيب وابنه، وإن كان أضاف إلى الظلم الذى وقع عليهما ظلما آخر ؛ ذلك لأن من طبق الشريعة هو إنسان نسبى له أهواؤه وفهمه المحدود، وهو أمر ممكن أن يحدث من أى قاض أيا كان القانون الذى يطبقه، ومن ثم لا أهمية للقانون فى حد ذاته، وإنما البنية الاجتماعية نفسها التى يجد فيها الإنسان نفسه.
يرى البعض أنهم بقانون ما يستطيعون خلق مجتمع أخلاقى، وهذا وهم كبير إذ أنهم يضعون العربة أمام الحصان ؛ فالمجتمع أو بالأدق"البنية الاجتماعية الاقتصادية" هى التى تحدد القانون الذى يحكم المجتمع، ومن ثم فالقانون متغير طالما أن هذه البنية متغيرة هى أيضا والقانون شئ مختلف عن الأخلاق، والتى هى أيضا تتميز بالتغير وقد يقنن القانون أوضاعا تتنافى مع الأخلاق والضمير الإنسانى الراقى.
والقانون فى النهاية - مهما كان عادلا وحازما ودقيقا - محكوم بالنظام الاجتماعى الاقتصادى الذى يفرزه، ليعبر عن مصلحة الطبقة السائدة، تلك الطبقة المالكة والحاكمة تستطيع وهى تطبقه أن تطوعه لمصالحها، إذا تعارض مع هذه المصالح، وقصص الخليفة هارون الرشيد وقاضى القضاة فى عصره أبى يوسف مما تتندر بها كتب التاريخ مثال صارخ على ذلك، من هذه القصص - على سبيل المثال - أن هارون رغب فى معاشرة جارية كانت لأبيه الذى سبق أن دخل بها، وهو الأمر المحرم دينيا حتى لو آلت إليه بالميراث، إلا أن القاضى أبا يوسف تلميذ الإمام أبى حنيفة أفتى له بجواز الدخول عليها مستخرجا هذا من نصوص من القرآن والسنة(9)، فالطبقات الأقوى اجتماعيا تستطيع ان تستخدم أى قانون وسيلة لتحقيق مآربها وبالتالى سيصبح قانونا فضفاضا ضعيفا ظالما.
والقانون لا يمكن أن يكون عادلا إلا من وجهة نظر الطبقة التى يحمى مصالحها، فقانون يقر بالعبودية هو عادل من وجهة نظر ملاك العبيد، وظالم من وجهة نظر العبيد، ولن يوجد هذا القانون الذى يرضى كلا من السادة والعبيد، إلا إذا انتزعنا من العبيد حاجاتهم الإنسانية للحرية والكرامة.
ومن هنا فإننا لا يمكن أن نتحدث عن قوانين مجردة ومطلقة، فوق الطبقات، وفوق ما تمارسه من علاقات اجتماعية، كما لا يمكننا الحديث عن أخلاق مجردة ومطلقة، مستقلة عن الوجود الاجتماعى الذى يفرزها.
مفارقة :
تقوم المجتمعات الإقطاعية بشكل عام سواء فى شكلها الأوروبي أو الأسيوي - على انقسام المجتمع إلى طبقة حاكمة وسائدة من النبلاء، الذين لا تعرف لهم من مهنة سوى الحرب، فهى سبب وجودهم ومبرره، والمتحالفين مع رجال الدين، الذين يبررون خضوع المحكومين لهم، وتصبح أحد أهم مهامهم ضمان هذا الخضوع، وكلتا الطبقتين تعلوان طبقات المنتجين من فلاحين وحرفيين ورعاة، هم صانعو الثروة المادية لهذا المجتمع، إلا أنهم خاضعين بالرغم من ذلك لأوضاع العبودية الكاملة أو شبه العبودية أو التبعية التامة للطبقة الحاكمة، والمنفصلة تماما عمن تحكمهم.
وتتلخص علاقة الإنتاج فى هذه المجتمعات فى انتزاع الطبقة الحاكمة للفائض الاجتماعى من المنتجين فى شكل ريع عينى ونقدى، أو خراج، أو جزية، وفى شكل واجبات وخدمات يؤديها المنتجون للسادة فى شكل السخرة.. وكل هذا فى مقابل أن توفر لهم الطبقة الحاكمة "فرديا أو جماعيا" بما تملكه من قوة عسكرية الحماية من النبلاء الآخرين.. تلك الحماية المفروضة بالغزو والحرب، بين أقسام الطبقة أو منافسيها الأجانب على السلطة، تلك الحروب بكل ما تعنيه من قتل ونهب وخراب واغتصاب واسترقاق للمهزوم.. هى مصدر سلطة هؤلاء ومبرر تميزهم.. والطريف أن هؤلاء (البلطجية) النبلاء - على تنويعاتهم - شكلوا كل الأرستقراطيات والسلالات الحاكمة، المقدسة وغير المقدسة، طوال التاريخ البشرى المكتوب ما قبل انتصار الرأسمالية النهائى فى العصر الحديث، والذين ظلوا يتيهون فخرا واستعلاء بهذا الوضع المشروع قانونا، والمقبول أخلاقيا، لمجرد أن هذا الوضع فرضته الضرورة الاجتماعية فى تلك العصور.. حتى انقلبت أوضاعهم بفقدانهم ضرورتهم الاجتماعية، فنزعت شرعيتهم قوانين أخرى، وأصبحوا فى موضع الازدراء الاجتماعى.
وبمقارنة هؤلاء مع "البلطجية" من غير النبلاء، والخارجين عن القانون، والذين يمارسون نفس الفعل المادى، أى فرض الحماية على منتجى الثروة، بما يملكونه من أسلحة وقوة جسمانية، مقابل إتاوات وخدمات.. فإننا لن نجد فرقا واقعيا، برغم الفرق الشاسع فى الوضع الاجتماعى بين النبلاء وغير النبلاء من "البلطجية"، من حيث إن الآخرين مؤثمون قانونا، ومستهجنون أخلاقيا، حيث أن وضعهم غير مقبول من السلطة الاجتماعية، التى يشكل هؤلاء تهديدا لمبرر وجودها ذاته.
وهكذا نجد أن القانون يضع قسما من نفس النوعية من المجرمين حسنى الحظ لكونهم المنتصرين فحسب فى حرب الصراع على السلطة، فى أعلى السلم الاجتماعى، فى حين يضع القسم الثانى من نفس النوعية سيئة الحظ فى أسفل السلم الاجتماعى واضعا على رقابهم سيف القسم الأول، الذى يستمتع وحده بأسمى آيات التقدير والتمجيد، فى حين تلحق بالآخر لعنات التحقير والتنكيل.
وهكذا نعرف أن كلا من القانون والأخلاق فى الواقع الاجتماعى لا يخضعان ولا يعبران عن المثل العليا الإنسانية المجردة، التى لم يعرفها التاريخ البشرى المكتوب، إلا على صفحات الكتب، وفى عقول الحالمين بعالم الحق والخير والجمال، وإنما يعبران ويخضعان للضرورة الاجتماعية.
الليبرالية المحافظة
بدء التطور الرأسمالى فى مصر مبكرا بالنسبة للكثير من شعوب العالم الثالث،كما بدء التحول من نظام الاستبداد الشرقى إلى نظام أكثر حداثة يقترب من الديمقراطية البورجوازية فى أوربا،وذلك على نحو مبكرا جدا بالنسبة للعديد من الشعوب الأوربية نفسها،إلا أن الديمقراطية فى مصر كانت لا تعبر عن نمو رأسمالى طبيعى ولا عن بورجوازية قوية قادرة على قيادة التحولات الاجتماعية ،مما أعطى ليبراليتها طابعالمحافظة ،فالقوى الليبرالية فى مصر وعبر التاريخ الحديث هى من الضعف بحيث افتقدت تعبيرها السياسى الكامل والمستقل عن الحركات السياسية الأخرى ذات الطابع القومى.فها هو حزب الأحرار الدستوريين سليل حزب الأمة الليبرالى يرى فى الديمقراطية المطلوبة ديمقراطية نخب كبار الملاك والأعيان
"ومن بين القضايا الرئيسية التى أثارها الأحرار الدستوريين فى تلك الانتخابات عام 1924أن تحكم البلاد بقادتها لا بغوغائها"(10).
"أما أحمد لطفى السيد فيلسوف حزب الأمة وداعية الليبرالية الأكبر فقد قبل الاشتراك فى وزارة محمد محمود باشا عام 1928 التى عطلت الدستور لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد وظل حزب الأحرار الدستوريين يشارك فى جميع الانقلابات الدستورية فى مصر حتى قيام ثورة يوليو 1952"(11).حتى حزب الوفد الذى ولد فى أتون ثورة شعبية وبرغم ليبراليته لم يسلم من المحافظة حيث "حاول بعض النواب الوفديين إلغاء القوانين المقيدة لحرية تنظيم الاجتماعات ورفع القيود على حرية الاجتماع ولكن سعد زغلول وقف ضد هذا الاتجاه لما قرره فيه من تطرف لا تسمح به الموازين السياسية القائمة"(12).
المصادر
(1) الشيخ صلاح أبو إسماعيل-الشهادة-مصدر سابق-ص98.
(2) يرفند إبراهيمان وآخرون: "إيران 1900 - 1980" مصدر سابق، صـ50.
(3)المصدر نفسه، صـ 225.
(4)شريف يونس : "سيد قطب"مصدر سابق صـ507.
(5)د.محى الدين عبدا لحليم- الرأى العام فى الإسلام-مكتبة الخانجى-القاهرة-ط1982-ص.
(6)د.محمد مورو-طارق البشرى-مصدر سابق-ص20.
(7) د. عبد الهادى النجار "الإسلام والاقتصاد" مصدر سابق صـ183.
(8) المصدر نفسه، صـ68.
(9)د.إمام عبد الفتاح إمام-الطاغية-سلسلة عالم المعرفة-الكويت-مارس1994-العدد183-ص 222و ما بعدها.
(10) ماريوس كامل ديب-السياسة الحزبية فى مصر-الوفد وخصومه1919-1939-الطبعة العربية الأولى1987-مؤسسة الأبحاث العربية-بيروت لبنان-دار البيان للنشر والتوزيع-القاهرة –مصر-ص131.
(11) محمد السعيد إدريس-حزب الوفد والطبقة العاملة-مصدر سابق-ص99.
(12) المصدر نفسه-ص102.





النسبية والاطلاقية

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
النسبية والاطلاقية
عرفنا من القسم السابق المثالية والمادية، وعرفنا أن الأولى ترجع الأشياء الواقعية إلى صور مثالية، إما فى العقل البشرى أو خارج حدود الوجود نفسه، أما المادية فهى ترجع هذه الصور المثالية للأشياء الواقعية، والأشياء التى تكون الواقع تترابط فيما بينها، وتعتمد فى وجودها كل على حدة على وجود أشياء أخرى.. وهكذا بشكل مترابط ومتبادل، وبالتالى فنحن لا نعرفها إلا من خلال علاقاتها بالأشياء الأخرى، وفى ترابطها مع هذه الأشياء.
فلو أنك جالس على مقعدك فى سكون تام، بالنسبة للشخص الذى يلاحظك، فإن سكونك ما هو إلا سكون نسبى، أى بالنسبة لنفسك والشخص الذى يلاحظك على الأرض، حيث إنك فى الحقيقة تتحرك مع الأرض حول محورها بسرعة 0.5 كم / ث، وتتحرك أنت والأرض حول الشمس بسرعة 30 كم / ث، وتتحرك أنت والأرض والشمس حول مركز المجرة بسرعة 180 كم / ث، وتتحرك مع المجرة بكل ما فيها من نجوم وكواكب بما فيها الأرض بسرعة 600 كم/ث.
فأنت بالنسبة لنفسك ولمن يلاحظك فى حالة سكون نسبى، أما بالنسبة لمن يراقبك من خارج الكرة الأرضية فإنك تتحرك.. وهكذا، فالأشياء التى تكون الواقع تتسم بالنسبية.. وحسب نظرية النسبية لأينشتين، فإنه لا يوجد فى الوجود من شئ مطلق - أو بمعنى آخر : غير نسبى - إلا سرعة الضوء فقط.
فالمطلق عكس النسبى، حيث إنه ثابت بالنسبة للجميع، أما النسبى فهو يختلف من شخص لآخر، فما هو خير بالنسبة لك قد يكون شرا بالنسبة لغيرك، وما هو جميل فى عينك قد لا يصادف إعجابا من غيرك، وفى إطار الصراعات بين البشر فإن كل طرف فى الصراع يظن أن الحق كل الحق معه.. فالحق والخير والجمال المطلقين، ليسا إلا صورا مثالية فى عقول الناس، أما على أرض الواقع فمظاهر الأشياء تتميز بالنسبية.
يقوم الفكر المثالى عموما على اٌلإيمان بالمطلق، بالحقيقة المطلقة الشاملة، التى يمثلها الدين المعنى أو المطلق الفلسفى أو الفكرة المطلقة، ولو أن هذه الحقيقة شابتها النسبية لما كان هناك من داع للإيمان القطعى بها. فالفكرة الإسلامية الحاكمية، والأصولية عموما، حتى غير السياسية، تتميز بأنها تفرق تفرقة واضحة بين المطلق و النسبى، فالله مطلق والإنسان نسبى : الله قادر والإنسان عاجز، الله حاكم والإنسان عبد، فالنسبية هنا هى نسبية القصور والجهل الأبدي الذى يتميز بهما الإنسان والذى يظل فى حاجة دائمة للمطلق، الله مصدر الخير، كما يخاف من الشيطان مصدر الشر .
وعلى العكس.. فوجهة النظر العلمية تقول بمطلقات بشرية، بمعنى أوثق: معرفة بشرية حقيقية ومطلقة.. مثل أن الأرض تدور حول الشمس بسرعة تقريبا كذا، والكائنات الحية على الأرض تتكون من خلايا.. والفارق فى الحقيقية أن هذه التصورات العلمية المطلقة فى النظريات العلمية مبنية على الملاحظة الدقيقة والمنطق العلمى، و قابلة للدحض بالملاحظة الجديدة، ومن هنا تكون نسبية المعرفة. أما عند الدين، فالحقيقة كما جاءت فى كتابه المقدس يضمنها المطلق ذاته، ومن هنا يكون إطلاقها.ومن هنا يتم التعامل مع الحقيقة العلمية بمنطق المعرفة والجهل بها،أما فى المعتقدات الغيبية عموما فيتم التعامل بمنطق الإيمان والكفر.
والخلاصة أن ثمة ترابط فى النظرة العلمية بين النسبى والمطلق، أما فى الدين فثمة فصل كامل بينهما.. لدرجة أن الإنسان ممزق دائما بين التوجهات الربانية والوسوسات الشيطانية، أى أن نسبيته وعجزه يقومان على قوتين تعلوانه، مطلقتين بالنسبة له.
يزعم الخطاب المثالى عموما سواء استند لدين ما أو أيديولوجية علمانية مقولبة دينيا امتلاكه وحده للحقيقة المطلقة وتمثيله المنفرد لها، وهو لا يقبل الخلاف فى الرأى إلا ما كان فى الجزئيات والتفاصيل التى لا تمس جوهر عقيدته، الذى إذا ما تم الاقتراب من مناقشتها فإنه يلجأ للغة الحسم واليقين والقطع، أليس هو وحده الذى يملك الحقيقة المطلقة والتى على الآخرين أخذها عنه وحده ؟! وإذا كنا نعتبر أن تكفير الآخر ونفيه تطرفا وتعصبا، بل ويعتبره البعض مسلكا غير ديمقراطى ولا متحضر، فإن الخطاب الذى يستند إلى مطلق ما( الله أو الطبقة أو القومية.). يرى ان هذا السلوك من أسس إيمانه وواجبه الأخلاقى، وهو ما يختلف عن الطريقة الأخرى فى فهم العالم التى تأخذ بنسبية الحقيقة، ومن ثم فإن التطرف والتعصب ليسا من سماتها، أما العقلية الإطلاقية التى تعتمد على "إما شر محض" أو خير محض، فإن رؤيتها للعالم لا تخرج عن كونه صراعا بين الحق والخير والجمال المطلقين من وجهة نظرها ضد الباطل والشر والقبح المطلقين الذين يتبناهم الآخرون، وهو ما يتضح – مثلا – من تصورات سيد قطب عن أعداء مذهبه فى الحاكمية الإسلامية، فالصراع عنده "يدور مع ذوات شريرة فاسدة بطبيعتها، وطواغيت لا هم لهم بدورهم سوى السيطرة الشريرة - وإفساد العالم، ومنع نور الحاكمية. وهم لا يمتلكون حقيقة مختلفة، فهم يفهمون العالم على ذات فهم العصبة المؤمنة - أو سيد قطب - له، وإنما هم ببساطة اختاروا جانب الشهوة والظلام" (1). وترتبط هذه النظرة الإطلاقية للعالم بـ اليقين الذهنى والحسم الفكرى "القطعى".
ومن هذه النظرة يطرح الإسلام السياسى نفسه فى الساحة السياسية على أنه الحل الوحيد والمطلق الكمال لكل مشكلات الفكر والواقع، حيث "لا يوجد بديل عن الإسلام لتثبيت أساس الانتماء للجماعة السياسية المقاومة المستقلة" (2). وبهذا تختفى كل الانتماءات الأخرى القومية والإقليمية والطبقية والفئوية، فهذه كلها يرفضها الإسلام السياسى ويطمسها ليعلى من شأن انتماء واحد مطلق وهو: الدين ؛ ذلك لأنه لا يرى الذوات الجماعية إلا من خلال الدين، ومن ثم لا يرى إلا الصراع بين اتباع الأديان المختلفة، وبحيث يصبح المنتمون لدين واحد كتلة صماء متجانسة تخلو من التناقضات، ومن ثم الصراعات الداخلية.وكذلك الشأن مع القوميين أيا ما كانت القوميات التى يتحدثون باسمها.
الإسلام السياسى ما بين النسبى والمطلق :
تقع الأصولية الإسلامية والدينية عموما فى تناقض نتيجة جمعها ما بين المطلق الدينى، والسياسى النسبى بطبيعته، حيث تتناقض نسبية الواقع مع إطلاقية الدين، وبالتالى فإن محاولة حل هذا التناقض تسفر عن حركة إصلاح دينى تعود للأصول من وجهة نظر المصلحين، بحيث تقدم فهما جديدا لهذه الأصول، فى ضوء التغيرات الاجتماعية التى تدفع لهذا الإصلاح، فى حين يرفض التيار المحافظ العودة للأصول على أساس أنها واضحة بالفعل من خلال أعمال التفسير الموروثة أو المنقولة.
وقد ظهر مع بداية النهضة الحديثة فى مصر تيار الإسلام السلفى الإصلاحى، الذى أسسه الشيخ محمد عبده، إلا أنه انتهى على يد مريده وتلميذه رشيد رضا إلى اتباعية سلفية محافظة كانت أحد مصادر حركة الإخوان المسلمين السلفية.. وتلجأ كل القوى السياسية بما فيها العلمانية إلى - النصوص الدينية فى محاولة منها لاكتساب الشرعية والجماهيرية.
فقد كان تأسيس الأيديولوجية الناصرية بإعلان الميثاق الوطنى مشفوعا بالنصوص الدينية، كما سعت نفس السلطة إلى المؤسسة الدينية وغيرها من الجماعات على أثر هزيمة 67 من أجل التماسك الاجتماعى وضمان استمرار تأييد السلطة، تأسيسا فى نفس الوقت للدولة الدينية وتحطيما للعلمانية المحدودة التى سادت فى الفترة من دستور 23 إلى 1952، وعلى نفس المنهج لجأ السادات لتبرير انقلابه على الناصرية إلى النصوص الدينية جذبا للجماهير من خلال حسها الدينى بمهاجمة السوفيت الملحدين، حلفاء النظام الناصرى، وأخذ اليسار المتمركس يدافع عن نفسه بإثبات اشتراكية الإسلام وتقدميته، ففقد مبرر وجوده لدى الجماهير، فما دام الإسلام قد تحول من دين إلى نظام اجتماعى اقتصادى، ومادام صالحا لكل زمان ومكان حتى للاشتراكية !، فلماذا يتم استيراد الأفكار ؟ ولم لا يعلن هذا اليسار إسلاميته، ويكف عن التمسح بالغرب ؟
فى الحقيقة أن الإسلام كدين يعبر عن مطلق دينى منفصل عن الزمان والمكان النسبيين، وسيجد فيه كل طرف مع شئ من التأويل المتعسف لنصوص حمالة أوجه بطبيعتها ما يبرر به قضاياه النسبية بطبيعتها، لارتباطها بالواقع النسبى.ففى مجلة صوت الأزهر التى تصدرها الجماعة الإسلامية ورد"فإذا رست السفينة شرقا كانت الاشتراكية من الإسلام بل هى الإسلام . وإذا رست السفينة غربا كانت الديمقراطية من الإسلام ..والديمقراطية هى الشورى !!فبعدا وسحقا "إن هى إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان"(2). وهذا الموقف يحمل نفيا للتشابه والربط بين الإسلام، وأيا من الأنظمة المعاصرة ،وهو جدير بالاحترام لعدم وجود علاقة بين التراث الإسلامى والأنظمة المعاصرة حتى ولو وجد تشابه ظاهرى بينهما، لأن هذا التراث كان وليد ظروف اجتماعية وثقافية مختلفة تماما عما هو سائد الآن من ظروف ،،إلا أنه يدعى فى نفس الوقت نظريا بالطبع أن الإسلام يمكن أن يكون بديلا خالدا لأيا منها،وهو على المستوى العملى لن يستطيع الخروج عن ما تفرضه الضرورة المعاصرة من علاقات ومفاهيم وقيم فى عالم أصبح أكثر توحدا عن ذى قبل بل ويزداد توحدا باطراد.
وفى الحقيقة أن المؤمنين من دعاة العلمانية أكثر حرصا على الدين الإسلامى بإبقائه بعيدا عن السياسة من قوى الإسلام السياسى التى تسئ بعاطفية الدببة إلى الإسلام : فالأولون يفصلون بين المطلق الدينى والواقع المتغير، ليبقى بعيدا عن التشويه والاستخدام السياسى، والآخرون يمزجون بينهما مما يدفعهم إلى تشويهه عامدين بابتذاله فى عالم السياسة والصراعات الاجتماعية شأنهم فى ذلك شأن من يحاولون الربط بين الإسلام والعلم بأسلمة العلوم فيمزجون بين الإيمان الدينى المطلق بالمعرفة العلمية النسبية.
النخبوية والإطلاقية :
ينظر كل اتجاه سياسى يربط نفسه بمطلق ما مثل الدين على أنه يشكل عصبة مؤمنة تقف فى موقف الصراع مع عصب كافرة يوحدها هذا الكفر.. يكتب سيد قطب "الإسلام.. هو الانخلاع من المجتمع الجاهلى وتصوراته وقيمه، وقيادته وسلطانه وشرائعه، والولاء لقيادة الدعوة الإسلامية والعصبة المؤمنة التى تريد أن تحقق الإسلام فى عالم الواقع" (4). ويصبح تكون هذه العصبة هو الشرط الأساسى لقيام المجتمع الإسلامى تلك العصبة التى تتميز بإخلاصها للعقيدة، وتحملها تكاليف الجهاد... هكذا وبصرف النظر عن الصراعات الواقعية التى يموج بها المجتمع، فهى العصبة المتعالية على أى صراع، إلا صراع الإيمان مع الكفر، وقد فقدت باسم هذا الصراع أى ارتباط بالمجتمع الجاهلى حيث انخلعت عنه، مستعلية عليه.
إن إعلان هذا التجرد من كل ما هو دنيوى ينفى فى طياته انحيازا حقيقيا، لأحد أطراف الصراع الدنيوى.. فعندما تسعى العصبة المؤمنة لمنع المرأة من العمل وإلزامها بالخضوع للذكور من أفراد أسرتها وزوجها منذ الميلاد وإلى الموت، فإنها تنحاز لطرف ضد طرف فى صراع دنيوى، وعندما تسعى العصبة المؤمنة لاستمرار نظام اجتماعى، قائم على استغلال الإنسان للإنسان، فإنها بلا شك تنحاز لأحدهما ضد الآخر فى صراع دنيوى، وعندما تسعى العصبة المؤمنة لإقامة حكم الخلافة الإسلامية ضد إرادة من تسعى لأن يكونوا محكومين بها، فإنها تنغرس فى صراع دنيوى.
ولأن الصراع بين الإيمان والكفر لا يمكن أن يهدأ، ولا يمكن لمعسكريه أن يتهادنا ويتحاورا فى رأى سيد قطب، كان العنف هو وسيلة العصبة المؤمنة لخوض هذا الصراع، سواء كان هذا العنف مسلحا بشكل صريح، أو بمجرد نفى حق الآخر فى الوجود..
ومن هنا فإنه لا فرق بين الاعتدال والتطرف، ما بين من يواجهون القوى الأخرى بأنهم الأيدي المتوضئة، ويهددون من يخالفهم بحدى الردة والحرابة لو وصلوا إلى السلطة، وبين من يحملون السلاح ضد السلطة، وضد مخالفيهم فى الرأى. وهم يضعون كل القوى السياسية فى مأزق دائم أسوأ من طلقات الرصاص : فإما أن تعلن هذه القوى مخالفتها لمرجعية الإسلام السياسى، فتفقد جماهيريتها ، ليكسبها الإسلام السياسى.. أو أن تلجأ للتبرير والتلفيق ما بين هذه المرجعية وبرامجها السياسية، لتفقد مبرر وجودها أمام الإسلام السياسى، ومن قبله الجماهير. ومن هذه الزاوية تحديدا تحقق قوى الإسلام السياسى قوتها بجناحيها المعتدل والمتطرف.
الإسلام السياسى والسلطوية :
يقوم الفكر السياسى الخرافى - قومى أم دينى أم طوباوى- على الاستناد إلى سلطة مطلق ما تصبح لها وحدها المرجعية، وتصبح أى مخالفة لها خروجا عن الدين والسلطة، مما يستوجب القمع.. وأيما كان هذا الفكر -معتدلا أم متطرفا، يميل يسارا أم يمينا - فإنه لا يخرج عن طابعه السلطوى والاستبدادى.. ويصبح الحديث عن حرية الرأى والعقيدة فى ظل أى سلطة دينية، و أى سلطة تستند إلى مرجعية دينية، دعوة للخروج عن الدين، ومن ثم السلطة مما، يستوجب سحقها.
ولتأسيس السلطة المطلقة أيما كانت مرجعيتها، يتم الترويج لأسطورة "الفرد بطبيعته أنانى حسود شهوانى فتاك" (5). ومن هنا يجب تربيته بالوعظ والقمع الموجهين من سلطة ما أكثر قدرة على فهم طبائع هذه الوحوش، ومن ثم تهذيبها، وبالتالى فهى خير من تروضهم. وبهذه الطريقة يتم عزل الفرد عن المجتمع، وما تفرزه ظروف المجتمع من قيم، وما تجبره عليه من سلوك.. وهى أسطورة ينفيها تاريخ المجتمعات نفسه، الذى شهد تغيرات فى القيم والأخلاق السائدة فعلا على أرض الواقع، أو حتى المعلنة فى الضمير العام للمجتمع..
إلا أن الحقيقة التى يجب أن يعلمها الجميع أن الهدف الأخلاقى للإسلام السياسى هو هدف دعائى لا غير، فالهدف والغاية هى السلطة ؛ "فالحاكمية لا تنبع من أفضلية حكم الله، ولا من مضمون الشريعة يكتب شريف يونس "فلا يكفى أن يتخذ البشر شرائع تشابه شريعة الله، أو حتى شريعة الله بنصها إذا نسبوها إلى أنفسهم، فالمهم هو السلطان الذى ترتكز عليه تلك التوجيهات والمناهج والأنظمة" (6).
ولكن السلطة تستند من الناحية التأسيسية والقانونية إلى مرجعية مطلقة - سواء كانت الله أو الشعب أو الطبقة - فإن هذا الاستناد محض شكلى وتبريرى لأن السلطة تمارس بأفراد وأجهزة ومؤسسات، وكل هذا يقوم على أساس الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من تناقضات وصراعات ؛ ولذلك فلابد أن تنحاز السلطة إلى أحد طرفى الصراع أو التناقض : فالسلطة البرجوازية - مثلا - حتى ولو مورست فى ظل أشد الدساتير ليبرالية هى سلطة تلك البرجوازية، وحامية مصالحها فى صراعها مع الطبقة العاملة.
إن ادعاء السلطة تعاليها على الصراعات والتناقضات التى يموج بها الواقع الاجتماعى هو تبرير خرافى، إلا أننا لا يمكن فحسب أن نحاكمه بالمنطق العلمى بمعنى مدى اقترابه أو ابتعاده عن الواقع لنحكم عليه بالصحة أو الخطأ..
حيث أن هذا التبرير يشكل ضرورة موضوعية لتبرير شرعية السلطة (أى سلطة) رغم مخالفة هذا التبرير - سواء أكان الله أو الشعب أو المجتمع أو الأمة أو القومية أو الطبقة أو حتى العقل - لحقيقة المجتمعات البشرية، والتى لم تكن أبدا متجانسة فى يوم ما، باستثناء المجتمعات المشاعية البدائية.. وحيث لم تكن موحدة إلا بفضل السلطة التى توحدها.
فالسلطة (أى سلطة) هى بالتعريف : أداة للقهر الاجتماعى - والسلطة لابد أن تستند لمطلق ما أيا كان اسمه لتبرر ما تمارسه من قهر.. إلا أن الله باعتباره مطلق الحركة الإسلامية هو أكثر فعالية فى تبرير قهر من يتحدثون باسمه.
فالسلطة فضلا عن أنها تمارس فعليا عبر نخبة من البشر تدعى تمثيلها للمطلق أو تعبيرها عنه، إلا أنها تعبر دائما عن مصالح الطبقة الاجتماعية السائدة.. تلك السيادة النابعة من سيطرتها على قوى الإنتاج، __ومن موقعها المتميز والأقوى فى علاقات الإنتاج، ومن استحوا زها على الفائض الاجتماعى ؛ فهى - عمليا ونظريا - لا يمكن أن تعبر إلا عن الطرف الأقوى فى العلاقات الاجتماعية، ومن هنا فهى لا يمكن أن تكون حكما عادلا بين أطراف تلك العلاقات : فالنخب الحاكمة لا تتسلم السلطة الاجتماعية إلا لكى تعبر وبكل وضوح عن مصالح الطبقة الاجتماعية الأقوى، وفى حالة عدم وجود تلك الطبقة تتحول هى نفسها لطبقة متميزة وقوية وسائدة.

المصادر
1. 1. 1. 1. شريف يونس: "سيد قطب" مصدر سابق صـ231.
2. 2. 2. 2. د. محمد مورو: "طارق البشرى"مصدر سابق صـ13.
(3) مجلة صوت الأزهر-ص34
3. 3. 3. 3. سيد قطب: "فى ظلال القرآن"مصدر سابق مجلد 7، صـ3.
4. 4. 4. 4. عادل حسين: "الإسلام دين حضارة"مصدر سابق، صـ7.

المادية والمثالية

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود

المادية والمثالية
يوجد لدينا دائما واقع ووعى، فما هما ؟. وما العلاقة بينهما؟ الواقع هو كل ما هو موجود بشكل مستقل عن إدراكنا له أو عن وعينا به، ويتكون من أشياء لا نهاية ولا حصر لها، تتنوع من شدة الكبر كالنجوم و المجرات، إلى شدة الصغر كالجسيمات المتناهية الصغر التى تتكون منها الذرة. وتتفاوت فى طول فترة بقائها من أعمار تبلغ ملايين السنين إلى أعمار تبلغ أجزاء من المليون من الثانية، وما بين حية وجامدة، كل شئ من هذه الأشياء ذو عمر محدود، حيث ينشأ من شئ قبله، لينمو أو يتطور إلى شئ آخر، وهكذا فى سلسلة بلا نهاية ولا بداية.
وكل شئ فى الحقيقة هو عملية تبادل ما بين أشياء أخرى، هذه العملية التى تربط الأشياء ببعضها مكونة الشيء المعنى هى جوهر هذا الشئ، وبسببها تتواجد مظاهر الشيء من صلابة وسيولة وحياة وجمود ولون... الخ، وبالتالى نستطيع التعرف على هذه الأشياء من خلال تأثيرها على حواسنا المختلفة من بصر وسمع وشم.. الخ.
لحظة بدء العملية هى لحظة تكون الشيء المعنى، كما تصبح نهايتها هى نهاية هذا الشيء، فالإنسان شئ حى مكون من أشياء أخرى هى الخلايا الحية، التى تترابط فيما بينها فى عمليات تبادل وترابط فى غاية التعقد لتكون الإنسان، والخلايا بدورها عمليات بين جزيئات كيميائية معقدة وبسيطة، وبدورها هى عمليات بين ذرات، وبدورها هى عمليات بين جسيمات أولية معقدة وبسيطة... وهكذا.
لدينا نوعان من الأشياء..الأشياء الطبيعية : كالكواكب والبحار والجبال والنباتات والحيوانات ومن ضمنها الإنسان. وهى تحكمها ضرورات كامنة فيها، وأشياء اجتماعية : وهى المجتمعات البشرية، وهى التى تتكون من عمليتين أو علاقتين : علاقة المجتمع المعنى مع الطبيعة لتحويل أشيائها لمنتجات مادية تشبع احتياجات هذا المجتمع، وعلاقة أفراد هذا المجتمع بعضهم ببعض أثناء عملية الإنتاج المادى، وهى أيضا تحكمها ضرورات اجتماعية كامنة فيها... وكل من الطبيعة والمجتمعات تشكل كلا واحد نطلق عليه المادة أو الواقع، وبتعبير ثالث: الوجود.
وكما يوجد الواقع بكل ما فيه من أشياء، وما يحدث له من تحولات، توجد الأفكار المختلفة التى تكون الوعى.. والأفكار أو الصور أو المثل، تتنوع ما بين فردية واجتماعية : فالأخلاق والأفكار السياسية والفلسفية والعلوم والفنون والآداب والأديان... الخ - هى أشكال الوعى الاجتماعى المختلفة، التى لا يمكن تصورها إلا بوجود مسبق للمجتمع البشرى.
عند تفسير الوجود من حولنا بكل ما فيه من أشياء ومظاهر وعمليات، فإننا أما أن نرجعها لأفكار معينة - الصور، المثل، والوعى - أو أن نفسره بما هو عليه، وبما هو كامن فيه من ضرورات واقعية، ومن قوى مادية.. الطريقة الأولى فى التفكير طريقة مثالية : ترجع وجود المادة وحركتها وتطورها إلى فكر ما سابق على وجود المادة، والطريقة الثانية فى التفكير طريقة مادية، ترجع وجود المادة وحركتها وتطورها إلى قوى مادية كامنة فى طبيعة المادة.. هاتان هما المدرستان الأساسيتان فى الفلسفة فيما يتعلق بمبحث الوجود، حقيقته وحركته.
وإذا كان لدينا مادة ووعى. فعلينا أن إذن نعرف كيف ينشأ الوعى هل هو سابق على المادة أم لاحق عليها ؟ وهل يمكن لنا أن نعرف الواقع من حولنا أم لا ؟ وإذا كان يمكن لنا أن نعرف الواقع، فهل للمعرفة حدود ؟.. وعلى هذه الأسئلة أيضا تتحدد الإجابات وفق نظرتين : فإذا قلنا إن الوعى سابق على وجود المادة فنحن مثاليون، أما إذا قلنا العكس وهو أسبقية المادة على الوعى فنحن ماديون، وإذا قلنا بعدم إمكانية معرفة العالم من حولنا أو أن هناك حدودا لهذه المعرفة، لا يمكننا تحطيمها فنحن لا أدريون، وإذا قلنا بالعكس فنحن أدريون.
إن أية فكرة مادية متسقة لابد أن تقول بمادية الفكر نفسه، أى أن الوعى جزء من المادة مثل الشمس والقمر، كما أن أية فكرة مثالية متسقة لابد أن تقول بأن المادة وعى بمعنى ما : فهيجل المثالى يقول مثلا إن الطبيعة عقل متحجر، كما أن رؤيتنا للشمس هى ناتج عملية مادية تجرى بين جزئيات مادية فى المخ نتيجة هبوط الضوء الآتى من الشمس على شبكية العين، لينتقل هذا التأثير إلى المخ من خلال العصب البصرى، وهذا الانتقال يعتمد على تفاعلات كهروكيمائية داخل الجهاز العصبى.
مرة أخرى، فإننا يجب أن نشير إلى أن كل إنسان يمزج بهذه الدرجة أو تلك بين النظرتين المادية والمثالية سواء فيما يتعلق بنظرية الوجود أو نظرية المعرفة، ويبقى أن نعرف أن الخرافات عموما تقوم على أساس النظرة المثالية للعالم، فى حين أن العلم لا يقوم إلا على أساس النظرة المادية للعالم، من حيث إرجاعه ما يحدث فى الواقع لما هو كامن فى الواقع من قوى وضرورات، والاعتراف بإمكانية معرفة العالم، وإلا لما كان ضروريا أن نبحث عن الحقيقة، مادمنا مقتنعين بعدم قدرتنا على ذلك.
وأخيرا : علينا أن نشير أنه لا علاقة لهذه المصطلحات الفلسفية الخاصة بنظرية كل من الوجود والمعرفة، بالمثالية والمادية كمفهومين أخلاقيين شائعين : فنحن فى الحياة العادية نقول عن الشخص إنه مثالى فى سلوكه وأخلاقه حين يضع الأولوية دائما للمثل العليا والقيم الرفيعة فوق أى اعتبارات أخرى، ويسلك مع الناس دائما بما يتفق وهذه المثل والقيم التى تعبر عن الحق والخير والجمال من وجهة نظره ؛ فيضحى بأى مكاسب شخصية، مادية كانت أو أدبية، لو تعارضت مع التزامه بهذه المثل أو تلك القيم... ونقول عن الشخص أنه مادى فى سلوكه وأخلاقه حين يضع الأولوية دائما للمكاسب الشخصية فوق أى اعتبارات أخرى، ويسلك مع الناس دائما بما يتفق وتحقيق هذه المكاسب، فيحطم أى مثل وأى قيم اجتماعية أو أخلاقية، لو تعارضت مع تحقيق مكاسبه الشخصية، مادية كانت أم أدبية.
وفى النهاية : إن تقسيم الأخلاق والسلوكيات إلى مادية ومثالية هو تقسيم شائع فى الاستخدام العام، إلا أنه ليس هو التقسيم الفلسفى فى مصادر الالتزام الأخلاقى وفى ثبات أم تغير المعايير الأخلاقية، وفيما يتعلق بنظرية الأخلاق سواء على مستوى التفسير أو على المستوى العملى.
فالأخلاق كمبحث فلسفى تبحث في مصادر الإلزام الأخلاقى وفى ثبات أم تغير المعايير الأخلاقية ،وفيما ينبغى أن يكون عليه السلوك الإنسانى ،وهى تنقسم إلى أخلاق عملية تبحث فى الجوانب الأخلاقية للشخصية الفردية والأسرة والحياة المهنية والسياسية . وأخلاق نظرية تبحث فى نظرية السلوك ،ومدى تحقيقه للقيم الأخلاقية .وأهم مذاهب الأخلاق النظرية هى مذاهب السعادة أو الخير، والمذاهب الشكلية أو مذاهب الواجب.
الوعى الاجتماعى والوجود الاجتماعى :
يلاحظ أنه عندما يثار نقاش حول ما وصلت إليه الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أو حتى الثقافية من تدهور أو تأزم، فإن إجابات معظم الناس ترجع هذا التدهور وذلك التأزم إلى فساد الأخلاق، وموت الضمائر، ويلاحظ أن أشد ما يدفعهم للسخط هو ما يعتبرونه فسادا وانحلالا، وبالتالى فإن الحل دائما لوقف التدهور، وحل التأزم، ومن ثم الازدهار لن يتأتى إلا بإصلاح الأخلاق، وإحياء الضمائر، والقضاء على شتى صور الفساد والانحلال.
لاحظ كل الصحف والمجلات، ستجد أن أهم ما تتحدث عنه، ويثير الاهتمام، وأن أهم ما تهاجم به الحكومة، هى قصص الفساد والانحلال والتى يفسر بها كل ما تعانيه الجماهير ومن ثم يرسخ فى أذهاننا أن الحل لكل أزماتنا هو القضاء على الفساد الذى تمارسه النخبة الحاكمة بإزالة هذه النخبة لتحل محلها نخبة أخرى أخلاقها أفضل.. هذا هو جوهر ومضمون الرسالة الدعائية لكل صحف المعارضة من اليسار إلى اليمين، وهو الأمر الذى يصب فى النهاية لصالح الإسلام السياسى، حيث إن هذا هو جوهر برنامجه السياسى.
يكتب عادل حسين "فإن الملأ من قومنا يقاومون اتجاهنا إلى تقويم العقائد، وإصلاح شئون المجتمع التى فسدت مع فساد العقائد والأوضاع" (1). ويكتب "لقد فسق مترفونا وآن لنا أن نرفض مسلكهم. فواقع الأمر أن تحقيق الآمال العظام التى ندعو إليها يتطلب عزما ومكابدة.. يتطلب أن نعالج ما أصابنا من عادات سيئة، يتطلب أن نحتمل العمل المضنى الشاق لكى نزرع الأرض وندير الآلات" (2).
أن الكلام الكثير عن فساد النخبة يساوى التركيز على أخلاق النخبة، وبمعنى آخر : يساوى الدعوة إلى نخبة جيدة الأخلاق، باعتبارها هى المسئولة عن أخلاق المجتمع، وبمعنى أوضح : إن جوهر الأخلاق التى ينطوى عليه نقد من هذا النوع هى فىالواقع، أخلاق الثنائى "سيد/ عبد" فمشروع الإسلام السياسى هو مثل أى مشروع سلطوى يدعو لتولى سيد صالح أو بمعنى آخر مستبد عادل للسلطة، ليتولى بالقمع تقويم أخلاق العبيد وهم أفراد الشعب، فليكن هذا السيد فردا "كالخليفة العادل"، أو نخبة صالحة مثل "العصبة المؤمنة" أما العبيد المقموعون والخاضعون لوصاية السيد أو النخبة فلتبق لهم كل أخلاق العبيد السيئة : الكذب، النفاق، الدونية، الخنوع، الطاعة، السلبية إلخ!!
وإذا كان الشيخ صلاح أبو إسماعيل يرى كما ترى كل حركات الإسلام السياسى أن"فى الشريعة الإسلامية حلول لكافة المشكلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية والاجتماعية"(3)فأنه يرى بناء على ذلك أن تقنين الشريعة الإسلامية"لا يحتاج إلا للرأس الذى أستوعب القرآن وأستوعب السنة وعرف بقدرته على الاستنباط ..وذلك فى إطار من التقوى والورع"(4) .وبذلك فلا دور لغير هؤلاء فى إدارة شئون المجتمع فالشريعة لم تترك لأحد التفكير فى حلول للمشاكل حسبما يدعون أولا، وثانيا فأمرها موكول للمتخصصين فيها، وليس لغير المتخصصين شأن بذلك .وأن لهؤلاء المتخصصين دون سواهم حق الشورى غير الملزمة للحاكم.
ويثور السؤال الأساسى : لمن الأولوية : الوعى الاجتماعى بما يشمل من أخلاق أم للوجود الاجتماعى، أى الطريقة التى ينتج بها الناس احتياجاتهم المادية، ويدخلون بذلك فى علاقات اجتماعية. ما هو الثانوى وما هو الأساسى.. الوجود أم الوعى ؟
الحقيقة أن البشر هم أبناء ظروفهم الاجتماعية.. ففى مجتمع يخلو من الملكية الخاصة ستختفى الجرائم الاقتصادية، وسيختفى اقتتال الناس حولها، أما فى مجتمع تتحدد قيمة الإنسان فيه حسبما يملك، فإن الصراع حول الملكية الخاصة ووسائل الحصول عليها والنزاع حول الفوز بأكبر قدر منها سيكون سلوك الجميع، مهما شددنا على وعظهم وإرشادهم بأن القناعة كنز لا يفنى، فقد عرفت البشرية عبر تاريخ الطويل، فى كل مكان وزمان، مالا حصر له من أديان ومذاهب وفلسفات أخلاقية ونظم قانونية، وعشرات الألوف من الوعاظ والحكماء والفلاسفة والأنبياء والمصلحين، وكلهم حضوا ويحضوا كتابة وشفاهه على حسن الخلق وطيب السلوك، ويمتلئ التراث البشرى بما لا حصر له من أدبيات تدعو للمثل العليا والقيم والرفيعة.
إلا أن هذا كله ظل يؤثر فى بعض البشر لا فى غالبيتهم، ويؤثر لبعض الوقت لا طول الوقت. وظلت البشرية تنتهك كل هذا ومــازالت. إلا أن البعض مازال يصر على نفس الطريق، ولم يسأل أحدهم نفسه : لماذا لا يستجيب البشر للوعظ ؟ وإن استجابوا أحيانا لماذا نراهم لا يستمرون؟. بعضهم يقول إنها الطبائع البشرية التى لا تستجيب إلا للقمع، سواء أكان قمع الدولة أو السلطة أيما كانت أم قمع الآلهة، ويظلوا يرددون "إذا لم يكن الله موجودا فكل شئ مباح!". ويتناسون أن الأخلاق ضرورة اجتماعية لكى تستمر أى علاقة اجتماعية، فلا يوجد أى مجتمع فى أى مكان أو زمان يخلو من أخلاق ما، إلا أنها تختلف من مجتمع لأخر، ومن طبقة لأخرى وهكذا. فإن أى أخلاق هى إفراز للعلاقات الاجتماعية المادية بين أفراد المجتمع، وتعبير عنها، وليست مجرد مثل عليا سابقة على وجود المجتمع، والعلاقات المادية بين أفراده وطبقاته، بل إن أصولها ترجع لهذه العلاقات.
فعدم السرقة قيمة لا معنى لها ولا وظيفة فى مجتمع مشاعى، لا يملك فيه أى فرد أى شئ، ويستطيع بالتالى الانتفاع بأى شئ يجده، إلا أن عدم السرقة تصبح قيمة جوهرية ذات وظيفة اجتماعية هامة فى مجتمع طبقى يملك فيه أفراده أشياءهم الخاصة، ولا يجوز لغيرهم الاستيلاء عليها أو الانتفاع بها إلا بناء على إرادتهم... وقس على ذلك سائر القيم الأخلاقية والسلوكية.
والإنسان هو ابن لمجموعة من الظروف المترابطة والمتشابكة، بعضها خاص بكونه كائنا حيا مثل العوامل الوراثية والنشاط الهرمونى... الخ، وبعضها خاص بكونه عضوا فى مجتمع بشرى، ويشكله هذا الأخير بما فيه من ظروف اقتصادية واجتماعية وثقافية، فتنشط لديه ميول ما فردية أو جماعية، مؤقتة أو دائمة، حسبما تفرض الظروف. والبشر بالرغم من خضوعهم لظروفهم البيولوجية والاجتماعية، إلا أنهم يتفاوتون فى التأثر بها، وإمكانية مقاومتها : فبعض البشر يقاومون آثار الفقر، إلا أنه عندما يهددهم الجوع، فإنهم لن يتوانوا عن السرقة درءا للموت، والبعض الآخر قد يكون بالرغم مما يملكه من ثروة، وطلبا للمزيد منها، على استعداد لأن يخوض بحرا من الخطايا من أجل زيادتها ولو قليلا، مادام المجتمع يقدر الإنسان بما يملكه، ويحدد المرتبة الاجتماعية للفرد حسب كمية الثروة المادية التى يملكها، وبالطبع فإن من يتمسكون بأن "أكرمكم عند الله أتقاكم"، يتناسون أن هذه الأفضلية عند الله فى الآخرة، وليس لدى البشر فى المجتمعات الطبقية القائمة على الملكية الخاصة.
إن الفشل الذريع الذى واجه الوعظ الأخلاقى دائما يرجع إلى أنه يحاول معالجة الأعراض ولا يقترب من أصل المرض، ففى كل المجتمعات الطبقية كانت الملكية الخاصة هى الشيطان الذى يوسوس للبشر ببعض الشر كالسرقة، وفى كل المجتمعات الاستبدادية كان القهر هو الشيطان الذى يوسوس للبشر ببعض الشر كالكذب، فهما الجرثومتان لمعظم الجرائم والآثام الاجتماعية، وبالقضاء عليهما ستختفي بلا شك هذه الأعراض المرضية الناتجة عنهما، وهو مالا يستطيعه أى وعظ و أى قمع.
وعلى خلاف ذلك يطرح د. عبد الهادى النجار الحل الإسلامى للمشكلة الاقتصادية على النحو التالى "الإسلام يدعو إلى مراقبة الله، قال تعالى "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح ليرفعه" ويحذر الله من مخالفة ذلك، لأن المخالف لن يفلت من مراقبة الله وعقابه، ولهذا قال "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا" (5).. والحقيقة أن الإسلام بدأ من خمسة عشر قرنا، وقد شهدت هذه الفترة بلايين المسلمين شديدى الإيمان بالقرآن، وحقيقة كل ما جاء فيه من تهديد ووعيد لمن يعصون أوامره. إلا أن كل تاريخ المسلمين قد شهد منذ عهد الرسول وإلى الآن ما لا حصر له من جرائم وآثام وعصيان، رغم أن المسلمين يقرءون ويسمعون القرآن والحديث، مؤمنين بكل ما جاء بهما من أوامر وأحكام، إلا أنهم فى الحياة، وعندما يفرغون من عبادتهم، ويخرجون من المساجد، ينسون كل ذلك، عندما تتطلب مصالحهم، وعندما يحرمون من احتياجاتهم، يرتكبون المعاصى ويبررون كل أفعالهم المخالفة بشتى التبريرات، بما فى ذلك من تأويلات لكلام الله ترضى أهوائهم وتسكت ضمائرهم.
فمن قتلوا الحسين بن على وحاصروا أهل البيت النبوى وحرموهم الماء ومن دكوا المسجد الحرام كانوا على قناعة بأنهم يحاربون الخارجين على أمير المؤمنين الشرعى ،وهم بفعلهم إنما يتقربون إلى الله كما كان المحاصرين فى الحالتين على يقين من دفاعهم على حياض الدين ضد مغتصب السلطة.
ويكتب د. عبد الهادى النجار مرة أخرى "وهو ما يختلف عن الاقتصاديات المعاصرة على أساس أن الغاية من النشاط فى الإسلام هى عبادة الله، وليست الأهداف المادية إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية"،(6) "وفضلا عن ذلك، فإن النشاط الاقتصادى فى الإسلام لا يهدف إلى نفع مادى فقط، كأى نشاط اقتصادى وضعى، وإنما يتخذ من هذا الهدف وسيلة لغاية أخرى هى إعمار الأرض، وتهيئتها للحياة الإنسانية، تحقيقا لخلافة الإنسان فى الأرض، وإيمانا بأن الله سيسأل الإنسان عن هذه الخلافة" (7).
وكأن الأنظمة الأخرى لا تستهدف إعمار الأرض، وتهيئتها للحياة الإنسانية، وسيطرة الإنسان على الأرض تحقيقا لاحتياجاته الطبيعية.وهى عبارات تلخص جوهر الحياة البشرية على الأرض تحت أى نظام اجتماعى
ويتضح لنا من التجربة البشرية، ومما سبق الإشارة إليه، أن مثل هذه الدعاوى والمواعظ لا قيمة لها إلا عبر نظام اجتماعى يسمح للبشر، ويتيح لهم، أن يسلكوا فى حياتهم وفق هذه المواعظ. أما فى نظام اجتماعى يجبرهم على الانحراف عنها، فإن هذا الوعظ سيكون نوعا من العلاج لا يغنى ولا يفيد.
والحقيقة أن هذا الحديث حول نظام اجتماعى متميز يكفل وضع القيم الروحية فوق القيم المادية لا يمكن أن يكون مجتمعا بشريا مكونا من الكائنات المادية المسماة بالبشر، وإنما مجتمع مكون من كائنات روحية، تضع متطلبات الروح المتكونة منها فوق متطلبات المادة !. إن هذا الحديث يتناسى أنه قبل أن ينتج البشر فلسفة وشعرا وأدبا وفنا وعلما وقيما، عليهم أولا أن يملئوا المعدة بالطعام، حتى يستطيعوا الاستمرار فى الوجود، وهو الشرط الأساسى لكى يمارسوا الفكر والوعى بل وعبادة الله!.
إن مثل هذه الطنطنة تغفل أن القيم المادية شئ محترم جدا.. إذا نظرنا إلى أغلبية البشر المسحوقين الذين يعتبر توفير مقومات مادية أفضل لحياتهم عملا أخلاقيا عظيما، وأنه بدون القضاء على أساس الملكية الخاصة الذى يحرمهم من هذه المتطلبات تكون الدعوة إلى الأخلاق المجردة مجرد مخدرات لهم.
وحسبما يرى د. عبد الهادى النجار، يتحول عمل العامل إلى عبادة لله، ويصبح استغلال العامل عبادة لله، ويصبح إضراب الــــعامل العمل لتحسين شروط العمل امتناع عن العبادة؛ فالعمل المجرد والمنزه لا يوجد إلا على صفحات الكتب وفى أخيلة البشر، وهو ما يفقده بالضرورة أى طابع حى، أما العمل الحى الحقيقى فهو علاقة اجتماعية بالدرجة الأولى، فاستغلال هذا العمل فى علاقات إنتاج غير متكافئة هو عمل غير أخلاقى من وجهة نظر المستغل وأخلاقى من وجهة نظر المستغل، كما أن خنوع من يبذل هذا العمل لهذا الاستغلال وهو غاية ما يبغيه المستغلون وهو ما يفقده بالضرورة أى طابع تعبدى أو أخلاقى.
فعمل العبد لدى مالكه، والقن لدى سيده الإقطاعى، والعامل لدى الرأسمالى، هى علاقات إنتاجية متغيرة بطبيعتها، وهدفها الوحيد هو تنظيم الإنتاج المادى، ويستحوذ على فائضها الاجتماعى الطرف الأقوى فى العلاقة، مالك العبد أو الإقطاعى أو الرأسمالى.. أما عمل المنتجين الأحرار المتعاونين فى عملية الإنتاج، فهى علاقة إنتاج أخرى تخلو من الاستغلال، إلا أنه يظل هدفها الوحيد هو نفس غاية العلاقات الأخرى (الإنتاج المادى). أما افتراض أن "عمل المسلم - اقتصاديا كان أو غير ذلك - يمكن أن يصير عبادة يثاب عليها المسلم إذا قصد بعمله وجه الله وابتغى مرضاته" (8) ، فإنه سيتحطم لو سألنا أى عامل : لماذا تعمل؟ فلابد أن تكون إجابته إشباع الحاجات المادية الضرورية لاستمراره فى الحياة، وهو ما يضطره للتنازل عن جهده وحريته ووقته مقابل هذا الإشباع.. وإلا فكيف يعبد الناس ربهم أو ينتجون فنا وعلما وفكرا وأدبا قبل أن يملئوا المعدة بالطعام؟. وهل يعيش الناس على احتياجات الروح أم أن عليهم أولا إشباع احتياجات الجسد؟ وإذا لم يكن هذا هو الواقع.. أليس من الأفضل للبشر بدلا من أن يدخلوا فى علاقات إنتاج ظالمة أن يمارسوا حياة حرة ليعبدوا ربهم إذا شاءوا، أو يمارسوا فنا أو أدبا، أو رياضة ذهنية أو بدنية، أو يشرعوا فى استكشاف الواقع من أجل متطلبات الروح ؟!! وإذا كانت عبودية العامل، وبالتالى طاعته فى العمل، هى عبودية وطاعة لله فى نفس الوقت، إلا يصيب هذه العبادة بنوع من الشرك، حتى ولو تم الالتزام بأنه لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق.
ويكتب راشد الغنوشى "وللغرب نظرة للإنسان تجعل أولوية الجسد وحاجاته الغريزية على الروح ومتطلباتها التى لا تقف عند حدود الجسد والتراب، بل تتجاوزها إلى عالم الحق والخير والجمال، إلى عالم الاتصال بالمطلق" (9). ولابد هنا أن نوضح الفرق بين الاعتراف بأولوية الوجود الطبيعى أو الاجتماعى على الوعى، سواء فى تفسير هذا الواقع أو معرفته، وبين النظرة العكسية التى تقول بأولوية الوعى، وبين قضية السلوك الفردى الإنسانى : فالنظرة المادية لا تعنى أن من يتبناها يعيش فى حدود إشباع غرائزه، واحتياجات جسده، كما لا تعنى النظرة المثاليــة أن من يتبناها هو وحده الذى يشبع احتياجات روحه، وأخيرا : فلماذا يتم حصر احتياجات الروح فى الدين وحده، والاتصال بالمفهوم الدينى بالمطلق. وهل من لا دين لهم، أو من لهم عقيدة أخرى تخالف عقيدة الغنوشى فى المطلق مثل الكثير من الملحدين واللاأدريين الذين لهم عقائدهم أيضا التى تفسر المطلق وتربطهم به يقصرون حياتهم فى الغرائز واحتياجات الجسد ؟! وماذا عن الأخلاق والفن والعلم والفلسفة والفكر، ألا تشبع بدورها احتياجات الروح ؟ وهل يمكن ان يخلوا مجتمع ما أو حضارة معينة من هاتين البنيتين الاجتماعيتين : البنية التحتية وهى أسلوب الإنتاج المادى،والبنية الفوقية المكونة من نظم سياسية وقانونية وأخلاق وعلوم وفلسفات وفنون ؟ وهل يمكن أن يعيش فرد ما فى حدود غرائزه الحيوانية فحسب، حتى إذا كان شخصا مريضا نفسيا ؟.
امتدادا للنظرة المثالية، التى تنطلق من أفكار مسبقة، ليس لها قاعدة على أرض الواقع، ومنها الفرض السابق مناقشته حول الغرب المادى والشرق الروحانى، يكتب عادل حسين "إن من حصروا أنفسهم فى أمور الدنيا كان طبيعيا أن يقيموا كل شئ بمقياس ما يتحقق للفرد منهم من متع حسية حيوانية، فاستبقوا الشهوات وغرقوا فيها" (10). والسؤال المحير فعلا : ماذا ينتظر المسلم المؤمن لقاء طاعته لربه ؟ أليست هى الجنة بكل ما فيها من متع حسية حيوانية؟! وما هو وصف الجنة كما ورد فى القرآن الكريم ؟. أليست هى الفواكه والأعناب والأنهار التى مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر مثلها ؟! وفى وسط هذا النعيم الحسى المقيم، سيخلد المؤمن إلى الأبد، لا يفعل من شئ سوى التمتع بما فيها من ملذات حسية، من طعام وشراب وكساء وإشباع للغرائز الجنسية، دون أدنى مجهود، فوق تمتعه بوافر من الصحة والشباب والجمال والحيوية والقوة.. وكل هذا لقاء إيمانه وطاعته وصلاته وصيامه، وحرمان نفسه من بعض هذه المتع، خلال فترة حياته القصيرة فى هذه الدنيا، وإتيانها بالطرق التى حددها كل من القرآن والسنة، وما هو المطلوب من المسلم لقاء كل هذا؟ أليس أن يعبد ربه ويطيع أوامره ويجتنب نواهيه لكى يتقى النار بما ما فيها من عذاب أبدى ؟ فما معنى هذه النغمة عن الروح والجسد التى ترددها الحركة الإسلامية؟
وهل يمكن أن يوجد مجتمع ما يمكن أن يحقق تقدما اقتصاديا فقط دون تقدم على كافة المستويات الأخرى من علم وفن وأخلاق ونظم قانونية وسياسية وفكر.. أو ليس التقدم فى هذه المجالات ما هو إلا انعكاس لتقدم الاقتصاد؟ وهل يمكن لمجتمع تضرب المجاعة أبناءه، وفى أحسن الأحوال يتضورون جوعا، وبالتالى فعليهم تكريس حياتهم للبحث عن لقمة العيش أن ينتجوا تقدما فكريا أو علميا أو أدبيا، ومن هنا فالفصل مستحيل ما بين مجالات الحياة المختلفة.
يكتب سيد قطب "إن تجارب البشر كلها تدور فى حلقة مفرغة ، وداخل هذه الحلقة لا تتعداها - حلقة التصور البشرى والتجربة البشرية والخبرة البشرية المشوبة بالجهل والنقص والضعف والهوى (11). وهكذا يتحول كل التاريخ البشرى منذ أن كان البشر يعيشون فى الغابة قطعانا وحشية أشبه بالقردة إلى أن استطاعوا غزو الفضاء، وبكل ما أنجزوه خلال هذه الفترة، ماديا وفكريا، إلى حلقة مفرغة محدودة فى حدود التصور والتجربة البشريين، وكل هذه الإنجازات لم تتم إلا وفق التجربة والتصور البشريين، وهو ما يصفه سيد قطب بالجهل والنقص والضعف و الهوى، وهل يمكننا أن نزداد علما وقوة وكمالا وعدالة، إلا بتطوير مستمر لتصوراتنا القائمة على المزيد من التجربة والخطأ.. وهكذا نقترب حثيثا من المزيد من العلم والكمال والقوة والعدالة، بدلا من أن نركن إلى مفاهيم نصفها نحن بالكمال والعلم والقوة والعدالة، ونتخيلها نحن وقد بلغت الذروة فى حين لم تتجاوز حدود جماجمنا ؟!
ويكتب عادل حسين "فطالما ان المستهدف إنشاء رأسمال وطنى على وجه التحديد، فإن إيمان البشر بربهم وارتباطهم بوطنهم هو الضمان الأول لأن نحصل على نتائج تنموية وإيجابية على أرض مصر، وفى بلاد العرب والمسلمين" (12). وهكذا يتناسى أن إيمان الرأسماليين بربهم وارتباطهم بوطنهم لا يدفع لتحقيق نتائج تنموية وإيجابية لأن التقدم والتخلف لا علاقة لهما بالإيمان أو الوطنية؛ فالرأسمال لا يسعى إلا للربح، وإلا ما أصبح رأسمالا، وسواء أتى هذا الربح من أى مكان، وبأى وسيلة، بتحالفه مع الشيطان أو بولائه لله.
والمسألة أن الرأسمالى الفرد يسلك وفقا لنظام اجتماعى قائم، لم يخترعه هو، ولا سيطرة له عليه، ويضطر للسلوك وفقا لمنطق أعلى معدل للربح شاء ذلك أو لم يشاء، آمن أم لم يؤمن وأيا كانت أخلاقه. والأخلاق عموما لا شأن لها بالاقتصاد إلا من وجهة نظر صاحب "الدكان" أو الورشة، الذى يتعامل تعاملا مباشرا مع زملائه ومع زبائنه، ويكسب (أى يحصل على بركة) من كونه بشوشا مؤدبا موثوقا فى دينه وأخلاقه، ولكن هذا لا معنى له بالنسبة لشركة BTM للملابس أو جنرال موتورز، أو أى مؤسسة رأسمالية أخرى.
المثالية فى الماركسية اللينينية
تفاخر الحركات الماركسية بأنها الحركات السياسية الوحيدة المستندة على التفسير "المادى" أو "العلمى" لتاريخ المجتمع البشرى،وذلك كما أكتشفه كل من ماركس وإنجلز،وبرغم أن التلاميذ قد خرجوا عن هذا التفسير نظريا وعمليا بدءا من لينين، ومن أتوا من بعده فى إطار مدرسته الثورية، مثل ماو وتروتسكى وجيفارا وستالين وتيتو وغيرهم،إلا أنهم تشبثوا بتبنيهم الماركسية المضاف إليها اللينينية بما تمثله من أفكار رئيسية هى خروج واضح عن هذا التفسير المادى للتاريخ المرفوع على سبيل التميمة،فأصبح من الممكن وفق هذه الأفكار بناء الاشتراكية على بنية اجتماعية غير متطورة بما يكفى لبناءها،إن لم تكن متخلفة تماما،بما يخالف التفسير المادى للتاريخ فتحدثوا عن النمو اللارأسمالى فى البلدان التى لم تنضج بها الرأسمالية بعد اعتمادا على الإرادة الثورية ونفيا للضرورة الاجتماعية وراء تطور المجتمعات.كما أن هذا البناء لم يصبح عملية ناتجة عن الصراع الطبقى بقدر ما أصبح يعتمد على نضال عصبة مؤمنة ثورية تحمل الاشتراكية للطبقة العاملة من الخارج هذا فى أفضل الأحوال . كما تحمل العصبة المؤمنة الإسلامية الإسلام إلى العالم . فالماركسية كونها نظرية علمية ينتجها ويستخدمها المثقفون بالضرورة ،لابد وأن تكون مستقلة نسبيا عن الظواهر الاجتماعية التى ترصدها ،ومنها الطبقة العاملة نفسها ،و التى لا يكون دورها بالطبع إنتاج النظريات العلمية ,وإن كانت هذه النظريات تعبر عن وضعها الاجتماعى ،فأن ما يحرك الطبقات ليست النظريات ،وأنما المصالح الطبقية.ومن الملاحظ عبر التجربة التاريخية أن الطبقة العاملة فى أكثر مواقعها كثافة وتطورا وتقدما لم تكن ثورية إلا فى لحظات تاريخية معينة، وأنها رغم الدعاية الاشتراكية الثورية المتاحة بعلانية تتمترس فى مواقعها الإصلاحية والنقابية مما يشير إلى أن التصور الذى يحمله الثوريون المؤمنون عن مصالحها، لا يعبر بالضرورة عما تراه الطبقة العاملة من تصور لمصالحها ،ومن ثم فلم تصادف المدرسة اللينينية وفروعها نجاحا جماهيريا ملحوظا ومع استثناءات محدودة إلا فى البلدان المتخلفة حيث الطبقة العاملة ضعيفة ومتخلفة فى حين تمركزت الحركات الاشتراكية الإصلاحية والديمقراطية فى البلدان المتقدمة حيث الطبقة العاملة قوية ومتقدمة .وحيث أن القطاعات الحية سياسيا هى قطاعات المثقفين الذين وجد بعضهم فى الماركسية أداة نظرية تبرر طموحهم فى قيادة التطور الاجتماعى من خلال سلطتهم عبر جهاز الدولة مستندين دعائيا إلى تمثيلهم للطبقة العاملة التى أضفوا عليها تصورات خرافية فكانت الماركسية اللينينية هى أيديولوجية بعض قطاعات المثقفين .
ومن ثم فقد كتب فؤاد مرسى"نحن نعلم إن العمال هم الطبقة الوحيدة الثورية إلى النهاية .وأنهم أصلح طبقة لقيادة المجتمع،ولكن بشرط أن يكونوا ماركسيين،فإن لم يكونوا ماركسيين لم يرتفع وعيهم عن مستوى النقابية"(13). أى أن ثورية الطبقة العاملة مشروطة بتبنيها نظرية علمية أنتجها مثقفون يعبرون عنها ويدعون تمثيلها. فثوريتها إذن لا تستند فى هذه الحالة على وضعها الاجتماعى كما يشير بذلك التفسير المادى ،إنما للإيمان بنظرية يحملها لها من خارجها المثقفون الثوريون الذين اكتشفوا أن التحرك الاجتماعى للطبقة العاملة ذو أفق محدود بالنقابية والإصلاحية ،مما يتعارض مع إيمانهم الخرافى بالنظرية.والتى تمسكوا به مع تحوير النظرية لتناسب هذا الإيمان.والمشكلة أنهم لم يكتشفوا أنه ليست الماركسية فقط هى التى يجب أن تحمل من الخارج_ كالوحى الإلهي_ للطبقة العاملة، وإنما أيضا الاشتراكية التى من المفترض أنها تعبير مباشر عن مصالح الطبقة العاملة وآمالها.ومن ثم فأن علمهم بثورية الطبقة العاملة لم يأت من دراسة الواقع وفهمه بل من الإيمان بالنظرية
ولذلك يكتب "والوعى الاشتراكى لا يأتى إلا من خارج الطبقة العاملة أما ترك العمال وشأنهم فلن يصل لغير الوعى المهنى أو الطبقى أو النقابى"(14).أى أن الإفراز الطبيعى لوضعية الطبقة العاملة اجتماعيا هو الوعى النقابى وليس الوعى الاشتراكى ومن ثم فلا علاقة للطبقة العاملة بالاشتراكية واقعيا.
وقد ورد تحت عنوان برنامج الحزب الشيوعى المصرى(الراية) الذى كتبه فؤاد مرسى"الوقوف فى معسكر الشعوب الذى يضم جميع الشعوب الحرة ، والشعوب المستعمرة التى تناضل عن حريتها واستقلالها والراغبة فى السلام والديمقراطية"(15) .
وهكذا يستند برنامج حزب ماركسى على عبارات عامة مطلقة لا تعبر عن تحليل طبقى واضح كما تفترض الماركسية ،فالشعب هو مجموع سكان إقليم دولة معينة بما ينقسم إليه من شرائح وطبقات اجتماعية فإذا كان معسكر الشعوب يضم كل هؤلاء فمن يضم المعسكر الآخر إذن سكان المريخ أم ساقطى الجنسية من من لا ينتمون لدولة معينة أم الحكومات التى تعبر بالضرورة ووفقا للماركسية نفسها عن مصالح قطاعات من الشعب الذى تحكمه ؟.إلا أنه يعتبر أن معسكره يضم الشعوب الحرة ،وليست الشعوب غير الحرة،ويضم الشعوب الخاضعة للاستعمار وليست الشعوب التى تستعمر حكوماتها الشعوب الأخرى متناسيا ما علمته له الماركسية من أن الشعوب تتكون من طبقات متصارعة لا يمكن وضعها بأى حال فى معسكر واحد إلا على حساب الصراع الطبقى.وامتدادا لتلك النظرة المثالية للعالم كان الحزب الشيوعى المصرى (الراية) الذى أسسه فؤاد مرسى فى 1949يصدر دعايته بعبارات مثل عاش الرفيق خالد (فؤاد مرسى) ألف عام وشعار مثل
"عاش خالق نظرية حزبنا وموجة رايتنا خالد ..العظيم"(16).بما توحى به من تمجيد للنظرية وليس الواقع، والفرد وليس المجموع كما تفترض الماركسية.
ويقدم د.إسماعيل صبرى عبد الله تعريفه للناصرية"الناصرية قبل كل شىء ممارسة سياسية تحكمها أهداف ومثل عليا كما أنها تفرز من وقت لآخر وثائق تأصيلية معرضة عن بناء مذهب متكامل ويضيف مفسرا تعريفه كونها غير حبيسة نصوص فالممارسة تحتمل إمكان القراءة الجديدة،الممارسة لم تكن فى جوهرها آنية خالصة بل كان يحكمها وتحركها أهداف ومثل عليا لها طابع الاستقرار وطول البقاء"(17).
وهذا التعريف للناصرية كحركة سياسية لا يستند لتحليل طبقى أو اجتماعى لها بقدر ما يصفها بكونها ممارسة تستند لأهداف ومثل عليا منبتة الصلة بجذورها الاجتماعية،ليس ذلك فحسب فأن هذه المثل لها طابع الاستقرار وطول البقاء.مهما تغير الواقع الاجتماعى الذى أفرزها.
وهكذا نرى كيف تحولت المادية الماركسية إلى خرافة مثالية على يد الماركسيين.
الإيمان القومى
تستند الحركات القومية على تصور مثالى هو الهوية القومية ومن ثم يمتلئ خطابها ويستند على مفاهيم إيمانية تغلب الإيمان على المعرفة.ذلك الإيمان الذى لا يستند على حقائق الواقع بل يسبق تلك الحقائق ويهزأ بها،هذا الإيمان هو الذى يخلق الحقيقة ويبصرنا بها وليس العكس
يكتب ميشيل عفلق"وكأنى بهم يعلقون إيمانهم بالقومية على درجة التعريف من الصحة والقوة .مع أن الإيمان يجب أن يسبق كل معرفة ويهزأ بأى تعريف بل أنه هو الذى يبعث على المعرفة ويضىء طريقها"(18).ومن ثم يتعامل العقل القومى شأنه شأن أى عقل دينى بمنطق التكفير لكل من يخالفه الإيمان والعقيدة.
ومن ثم يكتب جمال عبد الناصر"أن القومية العربية هى الأساس الأول للوحدة وحقيقة القومية العربية أنها عقيدة وتحرير وحركة فهى عقيدة كل من خرج عليها كان عاقا لعروبته"(19).
وكما يضع الإسلاميون الإيمان كشرط للنهوض يضع القوميون القومية بديلا عن الديانة أو معادل لها،ويجعلون الإيمان بها شرطا للنهوض.
"فيتساءل فاخورى:كيف ينهض العرب ؟..ويرى الجواب فى أن تكون للأمة العربية غاية كمالية أو أيديولوجية عامة.ويقول لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربى ديانة لهم"(20).وبالطبع لا نفهم ما هو المبدأ العربى الذى يمكن أن يصبح ديانة،وهل من الممكن أن يؤدى كافة وظائف الدين الاجتماعية؟ نستطيع أن نقول نعم جزئيا من حيث أن القومية قد تكون دافع للنضال والعمل والاستشهاد فى سبيلها أما باقى الوظائف فهو ما يحتاج إلى رؤية فكرية للعالم والإنسان لا توفره العقيدة القومية.
ولذلك يكتب ساطع الحصرى"إن مبدأ العروبة وبتعبير أدق مبدأ العروبة أولا يعنى أن اعتناقه يتطلب منا أمورا كثيرة أولا التحرر من جميع الآراء والنزعات التى تخالف المبدأ المذكور ثم تقييم الأمور تقييما جديدا ينتهى بنا إلى تكوين سلم قيم جديد يختلف عما كنا ألفناه سابقا"(21).
وهو هنا يضع القومية موضع الدين وليس ذلك فحسب بل إنه شأن أى متطرف دينيا يضع العقيدة القومية كعنصر حاكم يحدد ما يمكن قبوله من أفكار أو رفضه،ويحدد سلم القيم الذى يرشد الإنسان فى سلوكه وتفكيره، ويطالبنا بالتحرر من كل ما يخالف ذلك من أفكار .
نتيجة:
يظن البعض أنهم أحرار فى هذا العالم.. وأنهم لقادرين على تحديد ما يريدون وعلى فعل ما يريدون.. فما أقرب هذا للوهم الجميل؛ فنحن نأتى إلى العالم صفر اليدين إلا من رغبات غريزية وضعت فينا.. ومورثات بيولوجية لا دخل لنا فى اختيارها لا تحدد ملامحنا الجسدية فحسب بل والكثير من سلوكياتنا وميولنا النفسية.. ولأسر ولمجتمعات لم نسأل إذا ما كنا نرغب فى الإتيان منها أو من سواها.. نأتى فى مكان وزمان حملنا قسرا إليهما.. نستقبل العالم بلا لغة وبلا أفكار وبلا معتقدات وبلا معلومات.. ولا نملك إلا أن نتلقى كل هذا من الخارج.. فتتشكل عقائدنا وثقافتنا بل وحتى أذواقنا الجمالية ومعاييرنا الأخلاقية.
إن عقولنا تبرمج اجتماعيا من خلال أجهزة التعليم والثقافة والإعلام ومن خلال الأسرة والأصدقاء.. وتظل قدرتنا على انتقاد ما برمجنا به والشك فيه والتمرد عليه محدودة، ومقموعة اجتماعيا.. أى أن كل ما وصل إليه البشر من تطور ومن تقدم ما تحقق لهم إلا بسبب هذه القدرة المحدودة على الشك والنقد والتمرد.. إلا أنهم فى النهاية يظلون أسرى الضرورة المادية.
فالشك فى منطق أرسطو ونظريات بطليموس أدى للنهضة العلمية الحديثة، ونقد نيوتن أدى لفهم آخر للكون أكثر دقة، والشك فى الحق الإلهى للملوك ونقد الامتيازات الإقطاعية والتمرد على السلطة الاستبدادية أدى للحضارة الرأسمالية الأكثر تطورا، إلا أن كل هذا التقدم ما كان يمكن أن يتم إلا بتوافق الشك والنقد والتمرد مع ضرورة التقدم الاجتماعى الكامنة وراء التطور الاجتماعى.
المصادر
(1) عادل حسين، الإسلام دين وحضارة، ومشروع للمستقبل-مصدر سابق صـ8.
2. المصدر نفسه، صـ81.
3. الشيخ صلاح أبو إسماعيل – الشهادة- شهادة الشيخ صلاح قضية تنظيم الجهاد-دار الاعتصام-ص32.
(4) المصدر نفسه-ص33.
4. د. عبد الهادى النجار: "الإسلام والاقتصاد"-مصدر سابق- صـ40.
(6)المصدر نفسه ، صـ22.
(7)المصدر نفسه، صـ14.
(8)المصدر نفسه، صـ14.
(9)راشد الغنوشى "طريقنا إلى الحضارة" صـ24.
(10) عادل حسين.الإسلام دين وحضارة-مصدر سابق-
(11)سيد قطب، المستقبل لهذا الدين، صـ5.
(12) عادل حسين: "المرأة العربية – نظرة مستقبلية" – مجلة الحوار الفصلية صـ 38، 39. (13) د.فؤاد مرسى-تطور الرأسمالية وكفاح الطبقات فى مصر-كتابات المصرى الجديد-المكتبة الاشتراكية(1)-ص87.
(14) المصدر نفسه-ص76.
(15) المصدر نفسه-ص112.
(16) د. رفعت السعيد-منظمات اليسار المصرى-1950-1957-ط ا-القاهرة-سنة1983-ص357.
(17) سيد زهران –الناصرية-مصدر سابق-ص41.
(18) ميشيل عفلق-فى سبيل البعث-مصدر سابق-ص111.
(19) جمال عبد الناصر-شروق مبدأ الناصرية-مصدر سابق-ص78.
(20) د.عبد العزيز الدورى- مصدر سابق-ص225.
(21) ساطع الحصرى-الإقليمية جذورها وأسبابها-مصدر سابق-ص6.

التاريخية واللاتاريخية

كتاب العلم والأسطورة منهجان للتغيير الاجتماعى
سامح سعيد عبود
التاريخية واللاتاريخية
قد نعترف جميعا بأن كل شئ فى حالة حركة مستمرة، وأنه لا يوجد شئ يبقى على حاله، هذا لأن الواقع الملموس يفصح عن هذا فى كل لحظة، وفى كل مكان..إلا أنه بالرغم من هذه الحقيقة البسيطة، فإن البشر حين يفكرون ويتصرفون قد يتغافلون عن كل هذا، فهم قد يعترفون بالتاريخ، إلا أنهم لا يعيشون إلا حاضر اللحظة. فلا تعنيهم اللحظة السابقة عليها، وكيف نشأت منها، ولا ينظرون للحظة المقبلة بعدها، ولا كيف ستنشأ من اللحظة الحاضرة.
لدينا طريقتان فى التفكير : الأولى هى اللاتاريخية، التاريخ لديها مجرد مرور للزمن، وليس تطور الأشياء عبر الزمن، ومن هنا فهى بحث دائم عن جوهر ثابت يتخطى التاريخ، جوهر لا تجرى عليه تحولات عبر هذا التاريخ.. أى أنها لا تنطلق فى بحثها لفهم الشيء محل البحث من تاريخية الشئ، بمعنى تغافلها عن كونه نشأ من شئ سابق عليه، وعبر رحلة النشوء والنمو، سيتحول فى مستقبله لشئ آخر.. ومع إدراك واعتراف هذه العقلية بحقيقة الحركة والتغير والتاريخية، إلا أنها تفترض الثبات والخلود والنهائية فى الأشياء والأفكار.. ولكن لا يعنى تمسك العقلية اللاتاريخية بالجوهر الثابت أنها لا تستهدف التغيير، فقد تتمسك بجوهر مخالف للوضع القائم، وبالتالى تنزع الشرعية عنه، وبالتالى تسعى لتغييره.
والثانية هى : التاريخية، وهى تنطلق فى فهمها للأشياء محل البحث فى تحولاتها، فى تاريخيتها : كيف نشأت ؟ وكيف تتطور وتتحرك ؟ وكيف ستتحول لأشياء أخرى ؟ فهى تدرك حركة وتغير الأشياء المستمرة، ولا تفهمها إلا فى سياق هذه الحركة، أى من حيث هى عملية.. وبالتالى فهى لا تعترف بوجود ما هو ثابت أو خالد أو نهائى فى أى شئ من أشياء الواقع ؛ فالوجود كله هو مجموع أشياء لا حصر لها تتطور من الأدنى للأرقى، و من الأبسط للأعقد فى حركة لا تتوقف.
وفى الحقيقة أن أى أصولية أيا كانت - دينية أو قومية أم مذهبية - هى كحركة تحاول أن تقاوم اتجاه التاريخ، فالتمسك بالأصول يعنى الوقوف فى وجه التطور، أو بمعنى آخر : التمسك بما لم يعد مناسبا للتطور.
قياس الماضى على الحاضر:
إن جوهر التفكير الخرافى والتراثى عموما هو أن التاريخ صراع مستمر بين الإلهى والشيطاني أو الأنا(ولى الله) والآخر(حليف الشيطان)، وقد يحدث أن يأخذ الصراع شكل دورة، وإن لم يكن هذا قانونا حتميا ولا إلهيا.. ولذلك فإن خطاب الإسلام السياسى الآن يطرح العودة للماضي ظاهريا، وليس أى ماضى، ولكن تلك اللحظة المعينة فى الماضى، التى يقدسونها ويسعون لعودتها مرة أخرى بكل ما شهدته من أحداث. فهم يقولون إن المجتمعات عادت جاهلية مرة أخرى، حيث غاب الإسلام عن الحياة، وعليه الآن أن يعود فى صورة عصبة مؤمنة، تعيد نفس خطوات التاريخ : الصراع بين الإيمان والشرك، ثم انتصار الإيمان، ومنه إلى إعادة فتح العالم لنشر الإسلام، ومن ثم عودة الدور القيادى للحضارة الإسلامية فى العالم مثلما كانت فى العصور الوسطى، بصرف النظر عن الظروف التى قد توافرت فى الماضى، وسمحت بهذا التسلسل، وتولى هذا الدور، وبصرف النظر عن الظروف التى جدت على واقع العالم المعاصر من توحد حضارى يزداد عمقا.
فسقوط الغرب الذى يبشر به الإسلاميون ويفترضونه كضرورة للنهضة الإسلامية لا يعنى بالضرورة هذه النهضة. هذا السقوط معناه سقوط الجزء الأكثر تقدما فى العالم، والذى يشكل مركزه، ولاشك أن هذا سيكون له تأثيره المدمر على مستوى العالم، للاعتماد المتبادل، والترابط المعقد بين هذا المركز وأطرافه، وهى كل أجزاء العالم الباقية، ولك أن تفكر فحسب فى توقف الصناعة فى الغرب وما سيؤدى إليه هذا من انهيار أسعار البترول إلى أقصى حد، وما يمكن أن يؤدى إليه هذا من ارتداد الحياة فى الخليج للبداوة مرة أخرى.
يكتب د. محمد عمارة "لا لتيار "التغريب" الذى أراد أنصاره من المستعمرين، وأنصارهم من الذين "أدهشتهم" فبهرتهم عظمة الحضارة الأوروبية عندما قارنوها بتخلف المماليك والعثمانيين" (1). وكأننا لو قارنا هذه الحضارة الأوروبية بفترات الذروة فى الحضارة الإسلامية لن نصاب بنفس الاندهاش والانبهار، فهل سيدهشنا الاسطرلاب والبوصلة أم الكمبيوتر ومكوك الفضاء ؟ وهل ستجذبنا الديمقراطية وحقوق الإنسان أم الخلافة المستبدة ؟ فكل ما فى الأمر إذن أنه يريد العودة بنا إلى تلك اللحظة من التاريخ التى كانت فيها بغداد حاضرة العالم، فى حين كانت باريس فى ذلك الوقت مجرد قرية صغيرة لا شأن لها، وهو إذن يظن أننا أذا عدنا فكريا لهذه اللحظة سنستطيع تجاوز التخلف إلى التقدم. والسؤال الآن : لماذا لا نحاول تجاوز كلتا الحضارتين بالمزيد من التقدم الإنسانى على كافةالأصعدة، بتجاوز كل من الأصالة والمعاصرة، إلى المستقبل الأفضل ؟ هذا مالا تقبله ولا تفهمه الحركة الإسلامية أو أى حركة قومية.
الاقتصاد الإسلامى/القومى وسكون الزمن :
مرت المجتمعات البشرية بالعديد من أساليب الإنتاج، ففى بادئ الأمر عرفت البشرية المجتمعات المشاعية البدائية، حيث كانت وسائل الإنتاج لا تزيد عن بعض أدوات الصيد وجمع الثمار والزراعة البدائية، وكان أفراد الجماعة يعملون جميعا كل حسب قدراته فى استخراج منتجات مادية من الطبيعة، لإشباع احتياجاتهم، تقسم بينهم بالتساوى ، ولما كان الإنتاج لا يكفى إلا احتياجاتهم الضرورية فلم يكن لأى منهم أن يستحوز على جزء من هذا الإنتاج لنفسه، وإلا مات آخرون جوعا.. وتطورت وسائل الإنتاج، وبالتالى زادت الإنتاجية، مما ساعد على تكوين فائض اجتماعى.. أصبح لبعض أفراد العشيرة أن يستحوزوا عليه لأنفسهم، مما أدى لنشوء الملكية الخاصة، ومن ثم انقسام المجتمع لطبقات، (من يملكون ومن لا يملكون)، وظهرت الأسرة كمؤسسة هدفها الحفاظ على استمرار الملكية الخاصة فى سلالة المالك، وظهرت الدولة كجهاز لقهر من لا يملكون لصالح من يملكون وسائل الإنتاج أو يسيطرون عليها. هؤلاء الملاك الذين يستحوزون لأنفسهم على الفائض الاجتماعى من الإنتاج.
كان اكتشاف الزراعة التقليدية سواء على مياه الأمطار أم على مياه الأنهار، وتدجين الحيوانات ورعيها، هى الأساس لظهور المجتمعات الطبقية، ما قبل الرأسمالية، التى تعتمد على وجود طبقة تقوم بمهام سياسية وقضائية وتشريعية وإدارية وعسكرية عامة، وهى إما أن تملك أو تسيطر على وسائل الإنتاج بما فيها قوة العمل أو تكتفى بربطها بها بأشكال أقرب للملكية، وهى فى هذه الحالة تقتصر على انتزاع ريع أو خراج من الفلاحين والحرفيين والتجار الخاضعين لسلطتها مقابل أدائها لمهامها.
وكان أحد أشكال هذه المجتمعات (الإقطاع فى غرب أوروبا)، قد تطور من داخله ومن خلال المدن الحرة غير الخاضعة للسادة الإقطاعيين، فصعدت الطبقة البرجوازية وهم ملاك وسائل الإنتاج الذين يشترون قوة العمل المأجورة الحرة، لإنتاج السلع من أجل السوق.. وسيدت هذه الطبقة علاقات إنتاجها الجديدة على أساس الثورة الصناعية تدريجيا فى شتى بقاع الأرض.
والملاحظ بشكل أساسى فى هذه الرحلة، هو أن أساليب الإنتاج المختلفة لا تنشأ وتتطور وتموت وفق إرادات مسبقة، أو برامج محددة سلفا، وإنما توافقا مع ضرورة كامنة فى طبيعة المجتمعات البشرية نفسها.
فلما كانت احتياجات البشر تزداد نتيجة زيادة عدد السكان، وتطور مستوى المعيشة نفسه، فإنه يجب عليهم أن يطوروا قوة إنتاجهم (وسائل الإنتاج + قوة العمل) لتزداد الإنتاجية (أى تزداد قدرة البشر على إنتاج المزيد من المنتجات المادية) لسد حاجة السكان المتزايدة. ولما كان الإنتاج نفسه يتم جماعيا، فإن البشر أثناء عملية الإنتاج يدخلون فى علاقات إنتاج تتطور لتتطابق مع مستوى قوى الإنتاج، واللذان يشكلان سويا أساس ما يسمى بأسلوب الإنتاج.
وبنفس هذه الضرورة لابد أن تزول الرأسمالية يوما لتفسح المجال لعلاقات إنتاج أخرى تقوم على أساس قوى إنتاج أكثر تطورا... وهلم جرا.إلا أن القوى السياسية القائمة على أساس الهوية قومية أو دينية أو ثقافية ..الخ لا تفهم الطابع التاريخى لتطور المجتمعات ولذلك.
كتب جمال عبد الناصر "يضاف إلى ذلك أنه منذ عصور بعيدة فى التاريخ توصلت الزراعة المصرية إلى حلول اشتراكية صحيحة لأعقد مشاكلها وفى مقدمتها الرى والصرف وهما فى مصر الآن ومنذ زمن طويل فى إطار الخدمات العامة "(2).
وهكذا يعتبر أن الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية هى مجرد حلول لمشاكل، وبالتالى لاتاريخية فى تسلسلها، ولاضرورةوراء هذا التسلسل، وبالتالى فالأنظمة الاجتماعية تقبل الخلود والثبات وهو الأمر الذى لا تتصف به على الإطلاق،ومن ثم فقد عرفت مصر -كما هى العادة –حسبما يزعم الاشتراكية كحل جزئى لمشكلة الرى حيث يعتبر أن أى تدخل عام من الدولة هو من قبيل الاشتراكية،والنظم الاجتماعية الاقتصادية لا يتحدد جوهرها فى النهاية بمن يملك بقدر ما تتحدد بشكل علاقة الإنتاج التى يدخل فيها البشر خلال عملية الإنتاج، وبشكل توزيع الفائض الاجتماعى بين الداخلين فى علاقة الإنتاج.
واتساقا مع هذه النظرة اللاتاريخية يكتب د. عبد الحميد الغزالى "وعلى هذا الأساس عرف الجنس البشرى، وضعيا، وفقا لتتابع زمنى : النظام البدائى، ونظام الرق، والنظام الإقطاعى، والنظام الحرفى، والنظام الرأسمالى، والنظام الاشتراكى، كما عاش تجربة ثرية ومضيئة فى تاريخه، تمثلت فى النظام الاقتصادى الإسلامى. إن هذا النظام صالح لكل زمان ومكان بثوابته ومتغيراته" (3).
وذلك دون أى تحديد لمميزات اقتصادية لذلك الذى يسميه النظام الاقتصادى الإسلامى، وهنا نتساءل :
1- هل اختلف ما يسميه بالاقتصاد الإسلامى عما كان فى الواقع فى المجتمعات الإسلامية ما قبل الرأسمالية، وعن كل ما عرفته المجتمعات النهرية مما يسمى بنمط الإنتاج الخراجى والقائم على انتزاع الفائض الاجتماعى فى صورة خراج من الفلاحين بواسطة جهاز الدولة، الذى يشكل من يعملون به طبقة متميزة تستحوذ على هذا الفائض لنفسها، والذى يوزع على أفراد هذه الطبقة بنظام معين مقابل حفظها للأمن الخارجى وإقامة العدل وتنظيم الرى، سواء أكانت هذه المجتمعات هندوسية أم بوذية أم وثنية أم فرعونية أم كونفوشية أم مسيحية، وسواء أكانت فى مصر فى الصين أم فى الهند أم فى العراق فى الفترة من حوالى 4000 ق.م إلى 1800 ب.م ؟
2- على أى أساس، وعلى خلاف قوانين التطور التى يشرحها هو نفسه، يمكن القول بأن هناك وفق ضرورات التطور نظاما اقتصاديا صالحا لكل زمان ومكان؟! ولماذا هزم هذا النظام الذى لم يعرفه التاريخ إذن أمام الرأسمالية ؟!
3- كيف يقول لنا إن كل هذه الأنظمة وضعية، ونحن لم نعرف أبدا نظاما اقتصاديا من وضع البشر، فالبشر لا يضعون أنظمتهم، ولكنهم يضطرون إليها، وفق ضرورات لا دخل لهم فيها ؟ لكنه يكتب "ويبلغ به - كما تحقق ذلك فعلا إلى ما لم يبلغه أى نظام من صنع البشر، ووضع الإنسان، على الإطلاق، فى يسر وطمأنينة واعتدال" (3).. وللأمانة العلمية متى وأين حدث هذا ؟ . وما هو الذى تحقق للبشر من تقدم مادى وفكرى وروحى، وفاق ما حققته الرأسمالية بصورها المختلفة التى ظهرت فحسب منذ خمسة قرون؟!
4- وكيف يتفق هذا الادعاء، وحقيقة الصراع الطبقى عبر كل التاريخ الإسلامى، من الفتنة الصغرى، للفتنة الكبرى، وثورات الخوارج، وثورة الزنج، وحركة القرامطة، والثورة البابكية وهو ما عرفناه فحسب من كتب التاريخ. الخ. ألم يكن هذا التاريخ صراعا دائما بين من يملكون ويسيطرون على السلطة ،ومن ثم يسيطرون على الخراج الذى يشكل الفائض الاجتماعى، وبين من لا يملكون السيطرة عليه ولذا يسعون للسلطة للاستيلاء عليه ؟
التلفيقية واللاتاريخية :
هناك أساس مشترك لكل من التلفيقية واللاتاريخية فى فكر الحركة الإسلامية والكثير من الحركات السياسية على امتداد العالم العربى. فلما كان الحاضر المعاصر يفرض نظاما إنتاجيا معينا ليس مخالفا تماما لما تراه الحركة الإسلامية متفقا مع رؤيتها للإسلام، ونظرا لرؤيتها اللاتاريخية، فإنها تلجأ إلى التلفيق ما بين ضروريات الحاضر ومصطلحات الماضى وقيمه، تنطلق من الرفض الشكلى للرأسمالية والاشتراكية، وتستلهم محاولات فقهية للتوفيق بين العلوم الاجتماعية الحديثة والنظم الاجتماعية المعاصرة، وبين النصوص الدينية عند الحركات الدينية أو التراث القومى لدى القوميين، ومنها يؤسس ما يسمى بالعلوم الاجتماعية الدينية أو النظريات القومية، وإذا تفحصنا هذه الأيديولوجيات جوهريا سنجدها تشترك فيما هو متوفر جزئيا فى الاقتصاد الرأسمالى فيما يتعلق بالحرية والمبادرة الحرة، وجزئيا أيضا فيما يسمى باشتراكية الدولة فيما يتعلق بتدخل الدولة والضمان الاجتماعى، وفى هذا تشترك إيران الإسلامية مع مصر الناصرية، وهذه الأسس الانتقالية قد قامت على أساسها الأنظمة التقدمية الاشتراكية والتحررية فى العالم الثالث على اختلافاتها التفصيلية وغير الجوهرية.
والحقيقة أن سبب ظهور كل هذه الأنظمة الإصلاحية بدرجاتها المختلفة من الاشتراكيات الستالينية والماوية والقومية والدينية والإصلاحية... الخ راجع إلى ضرورة تاريخية فرضت تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى، لتطوير قوى الإنتاج وحل مشاكل النمو الرأسمالى، والتحكم فى الصراع الطبقى، فى ظل برجوازية مأزومة أو ضعيفة أو عاجزة عن أداء هذا الدور.فتحل الدولة مكانها جزئيا أو كليا وبشكل مؤقتا لحين إنجاز هذه المهام.
ولما كانت المجتمعات الإسلامية تواجه هذا الموقف كغيرها من المجتمعات المتخلفة، فإن وضع برنامج يحمل نفس المضمون، فى ظل مصطلحات إسلامية، مستخرجة من النصوص الإسلامية، التى عبرت عن احتياجات نظام اقتصادى اجتماعى مختلف، لا تصبح غريبة عما يطرحه الحاضر من ضرورات ولا عن الخاصية اللاتاريخية لفكر الإسلام السياسى أو الفكر القومى، حيث جدت ضرورة تاريخية أخرى فرضت تخلى الدولة عن تدخلها المباشر فى عملية الإنتاج - نتيجة التناقض بين الإنتاج العالمى الطابع، وملكية الدولة لوسائل الإنتاج - وهو ما أدى لسقوط كل هذه الأنظمة التدخلية، فهل سيتحفنا منظرو الإسلام السياسى بتلفيقات جديدة توائم بين التراث الدينى والمستجدات الجديدة، فيصبح لدينا علمان للاقتصاد الإسلامى أحدهما مع التدخلية البيروقراطية والآخر مع الليبرالية الرأسمالية ؟ وهل سيخرج فى الحالتين عن الدائرة الرأسمالية بشكل جوهرى ؟!
واللاتاريخية تجعل الخطاب السياسى الإسلامى يركز على تحريم الربا، ومن ثم فوائد البنوك، واعتبار أن هذا التحريم هو الميزة التى تخرج النظام من دائرة الظلم الاجتماعى المميز للمجتمعات الطبقية، وهو لا يقيس الربا باعتباره فضل مال بغير عوض فى مبادلة مال بمال بفائض القيمة الذى هو فضل قيمة عمل بغير عوض فى مبادلة قوة العمل بأجر.
والسبب فى عدم قياس فائض القيمة على الربا يرجع فى الحقيقة إلى أن الحاضر فحسب يرتدى ثياب الماضى، التى لا تخفى معاصرته، فمنع الربا ظاهرة شائعة فى المجتمعات ما قبل الرأسمالية.. (فقد كان محرما فى كثير من المجتمعات الأوروبية المسيحية قبل الرأسمالية، ومحلا للنقد الأخلاقى،( نذكر شيلوك بطل مسرحية تاجر البندقية لشكسبير) ولكن ترديد هذه الفكرة الآن لا ينتج عن تعبير الإسلام السياسى عن بقايا ما قبل الرأسمالية فى المجتمع، وإنما عن البرجوازية الصغيرة المتمردة على الرأسمالية المتخلفة، وهى ترى من مصلحتها تحريم الربا فى التجارة والإقراض، وبالتالى اجتهدت فقاست فوائد البنوك على الربا، إلا أنها تقاوم بشراسة نفس القياس لو تم على فائض القيمة، وتستند إلى الكثير من الأحاديث التى تتحدث عن العمل المأجور، متناسية أن عمال الماضى المأجورين، ليسوا هم عمال الحاضر، فلم يكن الإنتاج فى أساسه يقوم على انتزاع فائض العمل من العمل المأجور، وبالتالى فالقياس غير قائم أساسا بين الحالتين.
وهذا التركيز الدعائى على مسألة الربا والفوائد هو أيضا ورطة يضطر للسقوط فيها هذا التيار بسبب تقديس النص. خصوصا أن الإسلام السياسى تربى فى مواجهة الحركة الماركسية، واضطر لتبنى مفاهيم العدالة الاجتماعية، ولم يكن بإمكانه التراجع بشكل فاضح إلى حد استثناء الربا من القوانين الإلهية الواجبة التطبيق. ومع ذلك فمن الواضح فى الممارسة الإسلامية أن الخمر والدعارة والسفور والاختلاط بين الجنسين وشرائط الفيديو.. هى محور الدعاية الإسلامية، وليس بأى حال من الأحوال الربا، ولم يشهد تاريخ الحركة هجوما ولا تدميرا للبنوك مثلما هوجمت محلات الفيديو، وهوجم السائحون.
أما التصدى الجدى للمشكلة فأخذ شكل التحايل.. وهو ما يعرف بظاهرة البنوك الإسلامية، فوائد تأخذ شكل مرابحة، وبهذا التحايل والتعديل يتم الحفاظ على جوهر النظام الرأسمالى، أى إثبات أن الإسلام دين صالح لكل زمان ومكان بإلباس الجوهر الرأسمالى المعاصر الشكل الإسلامى القديم.
اللاتاريخية والثقافة القومية
الحركة الماركسية فى مصر لم تكن معنية حقا بكونها ماركسية ،مما كان يستوجب فى هذه الحالة ضرورة أن تكون حركة عمالية وأممية بالأساس يعنيها فى المقام الأول الصراع الطبقى منحازة فى ذلك إلى الطبقة العاملة ،وسائر المستغلين والمقهورين بصرف النظر عن المسألة القومية، و بهدف التحرر الإنسانى عموما وليس بهدف التحرر القومى خصوصا،وإنما كانت حركة وطنية جذرية ذات ميول إصلاحية اجتماعيا تجاوز برنامج النظام الناصرى نفسه برنامجها الإصلاحي ، وإن كان لا يعنيها البعد الديمقراطى مثلما كانت الحركات الاشتراكية الديمقراطية فى أوربا، والدليل تأييدها للنظام الناصرى متجاوزة عن ديكتاتوريته عندما تأكدت من وطنيته فى 1955 بعد مؤتمر باندونج ، بعد أن كانت تعارض تلك الديكتاتورية نفسها لشكها فى تلك الوطنية فى 1954والتى بلغت تلك المعارضة ذروتها أزمة مارس 54. وجرت مياه من تحت الجسر، ولم يصبح للقضية الوطنية زياك البريق الخاطف جماهيريا مع انسحاب إسرائيل من سيناء، فاستندوا لنظرية التبعية حتى تزلزلت النظرية تماما مع التسعينات ، ومن ثم فقد أتخذ فريقين منهما اتجاهين. الأول فى مواجهة الجماعات الإسلامية ويدعوا لاستنهاض الهمم القومية من خلال الترويج لما يسمى ب "القومية المصرية "محاولا إحيائها، داعيا لدعم اللهجة العامية المصرية باعتبارها لغة متميزة عن العربية، متحدثا وعلى نحو غامض ومشوش عن الخصوصية المصرية الثابتة والخالدة التى يحاولون إثباتها فى بعض الألفاظ والتراكيب اللغوية العامية، والعادات والتقاليد التى تكاد تنقرض، كسبوع المولود، والأربعين للموتى واحتفال شم النسيم ،وبالطبع لا يذكر ختان الإناث، ومظاهر التطرف فى التعبير عن الأفراح والأحزان. وهكذا اكتسبنا حركة جديدة تقوم على بقايا أثرية لثقافة طوتها عوامل الزمن، ولم يبق منها إلا آثار حجرية واجتماعية تضمحل باستمرار مطرد بتأثير الثقافات الأحدث والأكثر تقدما، وأدعك لتفكر فى كم ابتلينا بمثقفين يدعون التقدمية بلغت بهم الرجعية هذا المبلغ لعجزهم عن مواجهة الفاشية الإسلامية برؤية إنسانية أممية ديمقراطية تتفق على الأقل إن لم يكن مع ماركسيتهم المزعومة فمع دعواهم الديمقراطية ،مما ينم عن طبيعتهم المزدوجة. متناسين أن عناصر الثقافة العربية أقوى بمراحل من عناصر الثقافة المصرية القديمة فى مركب الثقافة المصرية المعاصرة ،وأن عناصر الثقافة الإسلامية والدين الإسلامى لا يمكن مقاومتها إلا فى إطار مواجهة الإسلام ذاته، فأي من عناصر الثقافة المصرية القديمة حين لا يتوائم مع الإسلام يمكن ببساطة قمعه دون أن يجد من يجرؤ عن الدفاع عنه فى مواجهة دين فى شمول الإسلام ،وذلك فى المقام الأول من الجماهير البسيطة التى يتحدثون عنها، والتى تمارس عناصر الثقافة المصرية القديمة بأكثر مما يمارسها هؤلاء المتثاقفون المتأثرون أكثر بالثقافات الوافدة الأكثر جدة ، ومن ثم الممارسون للثقافة الأكثر حداثة بكل ما تعنيه من نفى للثقافة الأقدم، إلا أنهم ينتجون خطابا يتمحور حول الثقافة الأقدم لأسباب أيديولوجية.
والاتجاه الثانى وفى مواجهة الثقافات الوافدة من الغرب الامبريالى أنشأ ما سمي ب "لجنة الدفاع عن الثقافة القومية". وهم يعلنون تعريفهم للثقافة القومية فيما يلى:-
"وبالثقافة القومية نعنى فى هذا الإطار مجمل العوامل التى تشكلت من جماعها الشخصية المصرية العربية فى تاريخ مصر الحديث ،التاريخ والتراث الفكرى والأهداف الجماعية التى استهدفها هذا التاريخ والتراث،أسلوب التفكير ومضمونه وهدفه وأسلوب التعليم ومضمونه وهدفه ومجموعة القيم الأخلاقية والسلوكية التى توجه هذا الفعل وتهديه إلى غير ذلك من العوامل المتفاعلة والمؤثرة بعضها فى البعض،والتى تتكون من محصلتها ثقافة أمة من الأمم."(5). ويفهم من هذا النص بوضوح دفاعهم عن أساليب التفكير السائدة اجتماعيا بما تتميز به من لا علمية ومحافظة وتخلف ،ودفاعهم عن أنظمة التعليم التلقينية التى لا تنتج إلا الموظفين ،والسلبيات السلوكية والأخلاقية السائدة ،وعلى الجملة فهم ليسوا على استعداد للوقوف موقف النقد الثورى والعلمى من الثقافة المحلية التى تنتمى لما قبل الرأسمالية، حيث وضعوا أنفسهم فى موضع الدفاع عنها متحدين حركة التاريخ الإنساني التى تقودها الرأسمالية من أجل التوحد البشرى منذ نحو خمس قرون ،ولا داع هنا للحديث عن الاشتراكية التى يرفع رايتها بعضهم بالطبع.وبناء على ذلك يعلنون:
"وفى ظل ذات الإطار تصدت اللجنة للدفاع عن هوية الشخصية المصرية ضد مجموعة العوامل الخارجية و الداخلية التى تسعى إلى وقف تطورها وإلى عزلها عن بعدها العربى-والقضاء على منطلقاتها الوطنية التحررية من الاستعمار والصهيونية"(6).
ويعلنون "وما من أحد منا يملك أن يقف موقف المتفرج وثقافتنا التى ورثناها من آبائنا ،و التى سنورثها لأبنائنا تتعرض للتهديد وما من أحد يملك الوقوف موقف المتفرج ،ومقومات شخصيته تتعرض لفقدان الحرية وبالتالى للضياع"(7).وبمثل هذه العبارات رفض مشركو قريش دعوة النبى محمد الذى حاول إقناعهم بأن ما عبادتهم من الأصنام لا تضر ولا تنفع ، وهى جزء من ثقافتهم الموروثة عن آبائهم،ومن ثم لم يقفوا موقف المتفرج بل قاوموا ما وسعهم الجهد لحماية تراثهم الموروث من الدعوة الجديدة .
وهم فى هذا الموقف لا يختلفون عن الجماعات الإسلامية التى تقاوم آثار الثقافة الحديثة على التراث الإسلامى،ومثل كل من يتباكى على التراث الذى يندثر أمام الثقافة الوافدة والحديثة ،مما يشير للجذر الاجتماعى الواحد لأقطاب الصراع الدائر بين الإسلاميين والعديد من النخب العلمانية، فمعظم نخب المثقفين تتوحد فى الحديث بأسم هوية اجتماعية ما ،يدعون تمثيلها والدفاع عنها ويختلفون فحسب فى نوع تلك الهوية (مصرية أو عربية أو إسلامية) ،ومن ثم يتصارع كل منهم للدفاع عن الهوية التى يدعون تمثيلها،وهم لا يدركون الطابع التاريخى الذى يحكم المجتمعات البشرية ليس بمعنى مرور الزمن، وإنما التطور والتغير عبر الزمن.هذا الطابع الذى يسمح بالطابع المركب للثقافة الاجتماعية،نتيجة التأثير المتبادل للثقافات الإنسانية الذى ازداد تأثيره الآن بفعل الثورات الإعلامية والتكنولوجية ،و الذى لا يمكن مقاومته إلا بالانعزال التام عن العالم.
وبالرغم مما يدعيه بعضهم من تقدمية تتضح من أسم الحزب الذى يعملون من خلاله، يدافعون عن استمرار المقومات والأسس التى يدعونها للشخصية المصرية فى مواجهة حركة التاريخ التى تعمل على تطورها، سواء بفعل الحركة الداخلية التى تتمرد على التراث والموروث ،أو بالتأثر بالثقافات الوافدة.وهكذا
"ترى لجنة الدفاع عن الثقافة القومية المنبثقة عن حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى والتى تضم مثقفين من داخل الحزب وخارجه ضرورة التصدى للمنطلقات _التى تهدد أسس الثقافة القومية ومقومات الشخصية المصرية"(8).
فما هى أسس تلك الثقافة القومية، ومقومات الشخصية المصرية ما يميزها عن الشخصيات القومية الأخرى أولا ؟،وما هى المنطلقات التى تهددها ثانيا؟، ولماذا لا يعتبر الغرب مثلا أن تأثره ببعض عناصر تلك الثقافة نفسها تهديدا لثقافته وشخصية شعوبه ، فهم يأتون بالملايين ليشاهدوا الآثار، ويؤمن بعضهم بالعقائد المصرية القديمة ،والبعض منهم بالإسلام، ويمارس هؤلاء وهؤلاء حياتهم فى الغرب بكل حرية،فلماذا نخشى أذن من أن يتأثر بعضنا ببعض عناصر من ثقافة مختلفة عن ما ورثناه من ثقافة وتراث،ونعتبر مقاومة ما يسمى بالغزو الثقافى مهمة نضالية بل وتقدمية!؟.
وكلا الفريقين يتصفان باللاتاريخية حيث ينظران للثقافة ككائن ثابت ونهائى بلا تاريخ تطورى، متغافلين عن أن أى ثقافة ليست سوى مركب معقد من ثقافات متعددة اللهم إلا الثقافات المنعزلة والبدائية ،وأن الثقافات الأكثر تقدما خاضعة دوما للتأثير والتأثر بالثقافات الأخرى ،وأنها متطورة أيضا بفعل التغيرات التى تحدث من داخلها ، وبفضل هذا التأثر.
وكما يحكى الجنين الإنسانى قصة التطور فى الرحم، وكما نجد فى الجسم الإنسانى نفسه قصة هذا التطور كبقايا أثرية لمراحل من هذا التطور،مثل بقايا الجفن الثالث فى العين المميز للطيور،والزائدة الدودية ،والعصص فى الظهر كأثر للذيل، وهكذا ،يجرى التطور فى المجتمعات البشرية على هذا النحو فالجديد لا ينفى القديم على نحو مطلق ،ويظل المجتمع البشرى فى رحلة تطوره يحمل فى ثناياه البقايا الأثرية للمجتمعات الأقدم، سواء لأنماط الإنتاج بما تتضمنه من قوى إنتاج أو علاقات إنتاج،وأشكال التنظيم الاجتماعى والسياسى والاقتصادى المتنوعة، والثقافات التى مر بها،من معتقدات ومفاهيم وعادات وتقاليد وأخلاق وسلوك،ففى مصر مازالت قبائل العبابدة والبشارية يحيون حياة الرعى البدائية ،فى حين تمتلىء مصر بشركات برمجة الكومبيوتر التى تتزايد كالطحالب على سطح الماء الراكد لتغطى بعض مظاهر التخلف .وإلى جانب المزارع الرأسمالية المتطورة التى تستخدم الهندسة الوراثية ،مازال الفلاحون يستخدمون الفأس والشادوف كما أستخدمهما أجدادهم المصريون القدماء .وإلى جانب الورش الحرفية القديمة توجد الصناعات المتطورة.وعلى بعد كيلومترات قليلة من وسط القاهرة حيث الأوبرا والبرج والفنادق الفخمة ومجمع التحرير ومترو الأنفاق تتواجد أحياء الصفيح وعربات الكارو. ففى صميم بنية أكثر المجتمعات تقدما مثل "الولايات المتحدة "وكندا وروسيا، سنجد رعاة الرنة من الأسكيمو،بجانب من يستعملون الروبوت والتحكم الآلى ،كما نجد الغجر فى أوروبا بجانب العاملين فى مراكز الفضاء ومحطات الطاقة النووية والصناعات الالكترونية ،وهؤلاء البدائيين قريبو الشبه فى أحوال المعيشة من العبابدة والبشارية وسكان الواحات فى مصر والعشائر الهندية الحمراء فى الولايات المتحدة ،كما أن المتقدمين يتشابهون اجتماعيا وثقافيا مع أمثالهم فى مصر ،وكما يؤمن بعض المصريون بالسحر سنجد من الأمريكيون والأوروبيون من يؤمنون بالسحر وبحيوية المادة،وإذا كان لدينا جماعات التكفير والهجرة فهناك من الطوائف الدينية المسيحية ما تحرم استخدام أيا من وسائل تكنولوجيا ما بعد الثورة الصناعية.وفى الهند صناعات متقدمة متطورة كالبرمجيات والأقمار الصناعية بجانب بقايا عشائر بدائية، وزراعة تقوم على وسائل مازالت تستخدم من آلاف السنين،وبجانب بقايا الرق وعبودية الأرض نجد علاقات إنتاج رأسمالية متطورة ،وبجانب الديمقراطية البرلمانية المتطورة نجد بقايا نظام الطبقات الهندية القديمة.ففى داخل كل مجتمع ،تعيش شرائح مختلفة على درجات متفاوتة من التقدم والتخلف ومستويات المعيشة وموقعها من علاقات الإنتاج ومصالحها المادية ومواقفها الفكرية وهكذا .و يرتبط بعضها بأرقى قوى الإنتاج ومن ثم بعلاقات إنتاج أكثر تطورا وبعضها يعيش وفق علاقات إنتاج أدنى.وتنقسم هذه الشرائح فر رؤاها السياسية والاجتماعية والثقافية .ولا يوجد من مبرر يوحدها سوى الدولة وعناصر من ثقافة مشتركة أساسها أحيانا مجرد اللغة الواحدة .
والمجتمعات لا تتطور فى نفس الوقت مرة واحدة على نحو متجانس .ففكرة المجتمع محلى كان أم قومى يتميز بتجانس ما محل شك كبير .أن التطور اللامتكافىء داخل كل مجتمع وبين كل المجتمعات هى سمة من سمات النمو الرأسمالى ،كما هو التفسخ الشامل والاستقطاب الحاد واطراد عدم التجانس المصاحبة للمجتمعات التى تسودها الرأسمالية وبرغم كل هذه الظاهرة فدائما ما تسيطر أنماط الإنتاج الأكثر تطورا على الأنماط الأقل تطورا ،كما تسيطر الثقافات الأكثر تطورا على الثقافات الأقل تطورا داخل المركب الاجتماعى الواحد ،أو هذا ما ينبغى له أن يكون، وأى حركة تقدمية فعلا عليها أن تنحاز لما هو أكثر تقدما فى هذا المركب إلا أن هذا ما لا نلاحظه لدى العقليات اللاتاريخية التى تدعى التقدمية.مع ملاحظة أن التاريخ البشرى لا يتحرك للأمام نحو التقدم إلا فى المحصلة النهائية للحركة،إلا أنه يعرف التراجع للخلف، ومن ثم فمعيار الانحياز لا يقاس بمعيار الجديد والقديم بقدر ما يقاس بالأكثر تقدما أو تخلفا.
النظرة اللاتاريخية للتاريخ تنظر إليه كصراع إرادات واعية بأكثر مما تنظر إليه كتعبير عن ضرورات اجتماعية، تخلق بنفسها الإرادات التى تعبر عنها.ومن ثم فتفسير اتفاق معظم النخب المثقفة على كونها ممثلة لهوية جماعية ما مع اختلافها على نوع الهوية فقط ،وما ينتج عن هذا الاختلاف من آثار جانبية تميز فحسب هذه النخب عن بعضها البعض.هو تبرير هذه النخب لدور الدولة الحديثة فى إحداث التقدم الاجتماعى ،تلك الدولة التى يشكلون دعامتها الأساسية فى إطار عملية التقدم،لكونهم النخب المتعلمة تعليما حديثا والمستقلة عن الطبقات الرئيسية فى المجتمع، ومن ثم وفى إطار بحثهم فحسب عن نوع الهوية التى تبرر سلطة الدولة يختلفون فى الاختيارات، ومن ثم يتصارعون صراعا نخبويا فى ظل مجتمع راكد سياسيا واجتماعيا على نحو كبير حيث تحتكر الدولة جل العمليات السياسية والاجتماعية منذ أن بدأت الدولة الحديثة مع "محمد على" اللهم إلا لحظات خاطفة فى التاريخ الحديث لم تسفر عن تبلور كاف للطبقات الاجتماعية ،ومن ثم للحركات السياسية التى تعبر عنها.
المصادر
(1) د. محمد عمارة "تجديد الفكر الإسلامى - محمد عبده ومدرسته" كتاب الهلال، العدد 630، ديسمبر 1980، صـ12.
(2) جمال عبد الناصر-شروق مبدأ الناصرية-مصدر سابق-ص96.
(3) د. عبد الحميد الغزالى: "مقدمة فى الاقتصاديات الكلية"-مصدر سابق صـ373.
(4) المصدر نفسه، صـ371.
(5) لجنة الدفاع عن الثقافة القومية- مقالات ووثائق-1979-1994.-ص65.
(6) المصدر نفسه-ص76.
(7) المصدر نفسه-ص39.
(8) المصدر نفسه-ص42.