الاثنين، 30 يونيو 2008

الحرية والضعف البشرى


الحرية والضعف البشرى
سامح سعيد عبود
أتاحت لى ظروف العمل والحياة وقتا طويلا للقراءة والتأمل فى أحوال البشر، مما أوصلنى لنتيجة هامة جدا هى أنه لا يوجد من بين البشر من هو جدير بالوصاية عليهم أو حكمهم ، وذلك كامن فى الطبيعة المركبة لمخ الإنسان الذى يتحكم فى سلوكه وتفكيره ،و التى لا حيلة لنا فى تغييرها .. فهذا المخ مركب فى حقيقته من ثلاث أمخاخ، تنتمى لثلاث مراحل مختلفة من تطور الحياة على الأرض.. الأقدم وهو مخ الزواحف ذلك المسئول عن دوافعنا وغرائزنا الحيوانية وأنانيتنا وسلوكياتنا المتوحشة ، والأوسط وهو مخ الثدييات هذا المسئول عن عواطفنا وانصياعنا للقطيع الذى ننتمى إليه طائفة أو قومية، والأحدث وهو مخ الإنسان وهو المسئول عن تفكيرنا المجرد و المنطقى و حسنا الأخلاقى و احساسنا بالضمير وتوقنا للحرية والكمال، والحقيقة أننا نسلك ونفكر وفق كل تلك الأجزاء معا، ومن هنا تجد فى الحياة من قد يحصلون على أعلى التقديرات وفق مقاييس الذكاء بسبب النشاط المرتفع للجزء الأرقى من المخ، لكنهم فى نفس الوقت لديهم قابلية غريبة لتصديق الخرافات تصل بهم لحد السذاجة، نظرا لنشاط المنطقة الصدغية من المخ المسئولة عن توليد المشاعر الروحية لدى الإنسان. بل إن هؤلاء العباقرة أحيانا لا يدركون مدى محدودية و وقتية المتع الغريزية التى يدفعهم لها لا إراديا المخ الأقدم، فيضحون من أجل تلبية شهوة ما، بحريتهم واحترامهم لذواتهم و احترام الآخرين لهم، تلك التى يدفعهم لها المخ الأرقى.
بسبب هذه الطبيعة المعقدة للمخ، وبسبب تعدد وتعقد الدوافع وتفاعلها، يتسم البشر بالنقص والضعف مهما اتصف بعضهم بالتفوق فى الذكاء والقوة والعلم و حسن الخلق والسلوك ، مما يجعل هذا التفوق لا يعطي لأى منهم الحق فى التحكم فى العاديين من الناس الذين حرموا بدرجات متفاوتة من الذكاء والقوة والعلم وحسن الخلق والسلوك.
السلطويون لا يثقون فى البشر، و ربما يكون لديهم الحق فى ذلك، و لا يتعاطفون مع ضعفهم ونقصهم،لأنهم يعبدون القوة ويحتقرون الضعف، وهو ما لا حق لهم فيه لأنه لا ذنب لأحد فى ضعفه و نقصه ، و لذلك يقترحون الوصاية والتسلط على غالبية البشر من قبل قلة من البشر متفوقة فى صفة ما لا يملكها الباقين، قد تكون التدين، أو الثروة، أو العلم، أو الخبرة وغيرها، وقد يقتصر حق الوصاية والتسلط فى فرد ما، يضفون عليه القداسة والكمال الذى لا يعرفه البشر بحكم طبيعتهم نفسها..إلا أن هذا تفنده الخبرة التاريخية نفسها التى تؤكد أن هؤلاء المستبدون أفرادا وجماعات ما كانوا يعملون إلا لمصلحتهم الخاصة مضحين بمصلحة الغالبية من البشر العاديين على مذبحها. فعلى مدى التاريخ البشرى المكتوب ما تحكم فى البشر سوى رجال الدين والأغنياء والخبراء والعسكريون، أو حكام مستبدون أتوا للسلطة بالقوة أو الخداع أو عبر صناديق الانتخاب، فما كانت النتيجة سوى تاريخ من الحروب والمذابح والاضطهاد والاستعباد والاستغلال، يندى له الضمير من الخزى والعار.
يثير السلطويون دائما أسطورة المستبد العادل سواء بحكايات غير مؤكدة من تاريخ نصفه ضائع والنصف الآخر مزيف، أو على مستوى الانتظار الغبى للفارس المنتظر القادم فى المستقبل ليركب على رقاب الجميع محققا لهم أمانيهم ... وفى كلتا الحالتين يتم رهن حياة الناس وحريتهم وسعادتهم بإرادة شخص ما يتم تقديسه فى حين أنه لا يوجد من بين البشر و بحكم كونهم بشر من يستحق تلك القداسة.
هناك انتقاد جوهرى للديمقراطية بأنها أداة فاشلة فى تنظيم الناس لشئونهم المشتركة، باعتبارها الانصياع لحكم الغالبية، ذلك لأن الغالبية تفتقد الحكمة والخبرة والعلم، كما أنه يسهل خداعها وشراءها ورشوتها ، و من هنا فإن من مصلحة الجميع الاستسلام لإرادة القلة المتسمة بالحكمة والخبرة والعلم، كما يردد المنتقدون إن هذه الديمقراطية تساوى بين بشر غير متساوين فى الذكاء والعلم والقدرات والخبرات، وتلك قولة حق يراد بها باطل، فالناس مهما تدنت مستويات ذكاءهم وعلمهم وخبراتهم، لابد وأنهم يعرفون مصالحهم جيدا، ولابد لهم من الدفاع عنها، و محاولة تحقيقها، أما الحالات التى يفشل فيها الناس فى إدراك مصالحهم والدفاع عنها، فإن هذا لا يكون بسبب غبائهم وجهلهم فقط، بل بسبب تلك النخب التى تستغفلهم وتقمعهم وتضللهم لتستبد بهم، وتدفعهم بعيدا عن تحقيق مصالحهم. فإذا ازلنا أثر تلك النخب على البشر ما تبقى لهم سوى مصالحهم التى لا يحتاجون لمن يرشدهم إليها
نقر بالنقص والضعف البشرى وعدم جدارة البشر بالثقة، كما يقر السلطويون تماما، إلا الخلاف أنهم يفترضون حل خيالى للمسألة، بأن هناك من البشر من هم أجدر بالوصاية والتسلط على الآخرين، وهذا ما اثبتنا تهافته بل وكوارثه، أما الحل الآخر فهو أن يكون البشر أحرارا من التسلط والوصاية المتعالية عليهم والمنفصلة عن إرادتهم، وأن يتحملوا هم مسئولية أنفسهم بأنفسهم، ومن هنا سيجدوا ضرورة أن يتعلموا كيف يديرون شئونهم المختلفة فرديا وجماعيا، وأهمية أن يتعلموا كيفية تحقيق مصالحهم الفردية والجماعية المشتركة. إلا أن الشرط المقابل لتلك الحرية هو أن يتحملوا على الفور تبعات اختياراتهم و سلوكياتهم أفرادا وجماعات. وهذا كافى جدا لكى يحسنوا اتخاذ قراراتهم الفردية والجماعية، وأن يتحكموا فى سلوكياتهم ، بتشغيلهم للمخ الأحدث المعطل لديهم غالبا، بسبب الانصياع للنخب الحاكمة والمتسلطة التى تركوا لها مسئولية التفكير واتخاذ القرار بالنيابة عن العاديين من البشر.
بالطبع هناك ضرورة لكى يخضع البشر لقواعد ونظم باعتبارهم كائنات اجتماعية،إلا أن الشىء الوحيد الذى يعطى تلك القواعد والنظم شرعيتها وجدارتها هى أن تكون محل اتفاق الخاضعين لها، وناتجة عن اختيارهم الحر، وإرادتهم المستقلة.

الأحد، 29 يونيو 2008

الهوس الجنسى فى زمن الانحطاط

الهوس الجنسى فى زمن الانحطاط
سامح سعيد عبود
* الجنس احتياج طبيعى لدى البشر إلا أنه لا يمكن أن يكون فى قوة الاحتياج للطعام والهواء والشراب و الإخراج والنوم، والذى يعنى امتناع الإنسان عن إشباع أى احتياج منهم لفترة محدودة موته ، أما الجنس فلن يموت من لا يمارسه مهما طال زمن عدم ممارسته، وبسبب عدم ارتباط الممارسة الجنسية بحياة وموت الأفراد ، فقد سهل على مؤسسات السلطة بالمجتمع أن تضع القيود على الإشباع الجنسى لدى الأفراد، وهو ما اضفى على المتعة الجنسية أساطير لا حد لها مع زيادة الحرمان منها بواسطة السلطات الاجتماعية ، و الإلحاح عليها فى نفس الوقت من قبل منتجى الثقافة و الدين والفن والأدب مما خلق لدى غالبية الأفراد هوس بالجنس، ولا شك أن الهالة الأسطورية المحاطة بالجنس والمسببة للهوس به تختفى عند توفر فرص الإشباع واختفاء الإلحاح عليه فتستعيد الغريزة الجنسية طبيعتها لدى هؤلاء الأفراد.
* لأنى أتوقع أن الأسوء لم يأتى بعد، فلم أندهش حينما علمت بحادث الانتهاك الجنسى الجماعى الذى حدث بوسط القاهرة أول و ثانى أيام العيد، ذلك لأنى أرى أن المجتمع المصرى ينحدر إلى هاوية سحيقة من الانحطاط والانفلات الأمنى، فبفضل تلك النخبة المملوكية الحاكمة منذ ما يزيد عن نصف قرن ها قد رجعنا بقوة إلى عهود أسلافهم من المماليك ما قبل الحملة الفرنسية، حيث اتضح أن كل محاولات التحديث والنهضة التى تعثرت طوال قرنين من الزمان، لم تستطع سوى طلاء التخلف بسطح من التقدم، وأن الطلاء آخذ فى السقوط منذ زمن، و لا شك إن هذا الانحدار الذى امتد طويلا هو مسئولية هؤلاء الحكام بالدرجة الأولى طالما ظلوا يحتكرون أدوار البطولة و لا يتركون لغيرهم سوى أدوار الكومبارس ، برغم أنى لا أعفى بقية النخب من المسئولية كما لا اعفى جماهير العامة من المسئولية كذلك، ولكنى اتحدث عن المتهم الرئيسى لا المتهمين الثانويين، اتحدث عن المخرج لا الممثلين وعمال الإضاءة والديكور، ولعل أحد مظاهر هذا الانحطاط وهو ما أريد التركيز عليه فى هذا المقال هو الهوس الجنسى الذى يطول الغالبية من الناس فى بلادنا والذى هو صناعة مؤسسات اجتماعية حكومية و غير حكومية، لا طبيعة فى الأفراد الذين أصابهم السعار الجنسى بسبب ممارسات تلك النخب. بما فيهم هؤلاء الأفراد من ذكور الحرافيش الذين تنتهك أجسادهم و حريتهم وكرامتهم كل لحظة من قبل نخب المماليك والفتوات فلم يملكوا إلا انتهاك أجساد و كرامة وحرية أضعفهم من النساء. فمن صنع هؤلاء الوحوش، و من أبقى على نموهم النفسى والعقلى وتفكيرهم فى حدود الغرائز الحيوانية واشباعها عن أى طريق،من أصاب هؤلاء و أمثالهم بالعته لكى يعرضوا حياتهم للخطر وحريتهم للتقييد لمجرد متعة لن تتجاوز فى أفضل الأحوال دقائق معدودة، أليست تلك النخب نفسها بنظم تعليمها وإعلامها وأجهزتها الثقافية .
* لو حللنا مضمون الأعمال الأدبية والفنية، وهى فى النهاية التى تشكل ثقافة الناس وقيمهم ووجدانهم لوجدنا أن هذا المضمون يدور فى الغالب الأعم حول الجنس بدءا من التعبيرات الإباحية الفجة والمبتذلة الشائعة للغاية فى الفن الشعبى وحتى التعبيرات المغلفة بالرومانسية والايحاء والغموض حتى يمكن أن تقبلها الطبقات الوسطى والعليا المنافقة، والدوران حول الجنس فى تلك الأعمال يجعلك تظن أن حياة الناس ما تدور سوى حول الجنس، وأنهم لا يدخلون سوى فى علاقات جنسية، و لا يفكرون سوى فى إشباع رغبتهم فيه، ويجعلك تتخيل أن حياتهم تخلوا من العمل وتحصيل العلم والبحث عن وسائل العيش، و أنه ليس لديهم علاقات إنسانية أخرى فى العمل والجيرة والدراسة وغيرها، ولاشك إن هذا الالحاح على الجنس يزيد من رغبات الناس الجنسية لحد الهوس حتى مع الإشباع الطبيعى لها. ويصبح شعور المحروم من الجنس هو أنه محروم من الحياة نفسها، و أن مجرد كلمة أو صورة أو نظرة أو لمسة قد تشعره أنه مازال على قيد الحياة.
* بعيدا عن التفسير المادى للتاريخ فقد ابتكرت نخبنا المثقفة التفسير الجنسى للتاريخ وهو التفسير الأكثر قوة فى الثقافة الشعبية والأعلى صوتا لدى النخب،عشرات الأفلام السينمائية التى فسرت وتناولت التاريخ من خلال تاريخ الراقصات والعوالم و العاهرات وعشيقات الحكام، و هناك ما لا حصر له من الأعمال المقروءة والمرئية والمسموعة لدينا مازالت تلوك اسطوانتها المشروخة منذ أكثر من قرن ونصف عن قرب انهيار الحضارة الغربية ، لسبب وحيد يراه هؤلاء هو الحرية الجنسية، برغم أن تلك الحرية لا تحول إطلاقا دون التقدم المضطرد لتلك الحضارة، لأنها ببساطة لا تشكل جوهر حياة صناعها، و برغم أن الحرية الجنسية مداها يتسع بقوة منذ بدء ترديد هذا التفسير الذى رسخ التخلف لدينا، والذى حال بين الكثير من الناس و بين فهم كيف تتطور وتتقدم المجتمعات، وكيف تركد وتتأخر .وكيف تنهزم وكيف تحقق الانتصارات.
* من ذلك أن أبرز الانتقادات التى وجهتها النخب المعارضة للملك فاروق أنه كان متعدد العلاقات الجنسية ، و إن نخبة الانقلاب عليه كان من مصلحتها كى تبقى فى الحكم بعد هزيمتها فى 67 الترويج شعبيا لأسطورة أن سبب النكسة هو أن المشير عبد الحكيم عامر القائد العام للجيش المهزوم كان متعدد العلاقات الجنسية، برغم أن قائد الجيش المنتصر موشى ديان لم يكن سوى زير نساء من الطراز الأول ، و كان على التيار الدينى المعارض للنظام أن يفسر نفس الهزيمة بابتعاد المجتمع عن السلوكيات المحافظة وتحرر نسائه و رجاله، وتقليدهم للقيم الغربية المنحلة، لا حديث فى كل هذه الأحوال عن الظروف الاقتصادية باعتبارها محركة التاريخ، و لا عن الصراعات الاجتماعية فى المجتمع حول الثروة والنفوذ والمعرفة، و لا عن العلم والعمل باعتبارهما أساس التقدم البشرى و أساس تحقيق أى انتصار لفرد أو جماعة بشرية.
* يستند الخطاب الدينى المحافظ على الهوس الجنسى الذى يفترض أن عقل البشر يتواجد ما بين الفخذين، فجوهر البرنامج السياسى لدى الخطاب الدينى المحافظ يدور حول وضع القيود على الممارسة الجنسية ، وتطبيق الحدود المرتبطة بالزنا والقذف ، و منع اختلاط الجنسين فى الشوارع والأماكن العامة وغير ذلك ، والزام الرجال والنساء بالمظاهر المحتشمة ، و لا حديث هنا على البطالة والتنمية و الديمقراطية وغيرها من القضايا، وهو خطاب يكتسب شعبيته الطاغية بسبب رؤية سائدة فى كل طبقات وشرائح المجتمع وليس فقط لدى الطبقات الدنيا، رؤية ذكورية متخلفة للمرأة ساعدت فى إبقاءها بل وتعميقها كل مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة والدين، فالمرأة وفقا لتلك الرؤية هى مجرد وسيلة لمتعة الرجل، هى كائن لا حق له فى الحرية والكرامة و الشعور و الاختيار، وعلى الرجل وفق هذه الرؤية الشائعة، وحتى يثبت لنفسه وللناس فحولته أن يحاول أن يفترس كل ما يمكن أن يطول من النساء ، و قد يقتصر على التحرش الذى هو مجرد الدعوة اللفظية لممارسة الجنس، أو أن يمارس الانتهاك الذى هو تجاوز الدعوة بلسانه للدعوة بجسده، أو أن ينال فريسته بخداعها باسم الحب و وعد الزواج أو اغتصابها ،أو شراء جسدها مقابل المال والمنافع المختلفة ، أو قهرها بما يملك عليها من سلطة. و لأن الرجال ليسوا فى قدراتهم سواء، فأنهم يحصلون على فرائسهم وفق قدراتهم المختلفة.
* برغم من وضعية المرأة كفريسة وفق هذه الرؤية إلا أنها مسئولة تماما على وضعيتها كفريسة أمام نفسها وأمام المجتمع، أما الوحوش فهم الضحايا المساكين لإغواء الفرائس المتوحشات، فالمرأة هى السبب بسبب خروجها من المنزل واختلاطها بالرجال وتواجدها فى بعض الأماكن النائية مثل ميدان عبد المنعم رياض بالقاهرة، و أنهن السبب بتأخرهن ليلا فى الشوارع حتى اللواتى تضطرهن أعمالهن لذلك كالممرضات، و بسبب ما يرتدين من ملابس تثير الرجال الذين لا يمكنهم التحكم فى شهواتهم، فمازالت فتاة المعادى الشهيرة ملامة فى نظر المجتمع على اغتصابها الجماعى، بسبب تواجدها ليلا مع شاب آخر برضاها، و وفقا لذلك فإن من تعرضن للانتهاك فى العيد مسئولات لأنهن مارسن حقهن فى الخروج فى العيد، وكانت بعضهن ترتدين ملابس غير محتشمة برغم أن الانتهاك طال المحجبات و المنتقبات منهن.
* هذا المنطق الذكورى يتجاهل أن الرجل يثير المرأة بدوره،و أن المرأة لديها نفس الغريزة والرغبة التى لدى الرجل، وأن الرجال المثليين يثارون بسبب الرجال وليس بسبب النساء، و أن النساء المثليات يثرن بسبب النساء وليس بسبب الرجال، ويتجاهل هذا المنطق المعوج أن الأطفال ليسوا بعيدين عن التحرش والانتهاك الجنسى والاغتصاب من بعض الرجال أو النساء على ندرتهم، وأنه وفق تلك الرؤية المتخلفة فإنه يتم إعطاء الطرف الأقوى الحق فى التحرش بالطرف الأضعف وانتهاك جسده واغتصابه، ويتم التماس العذر له وتبرير ما يفعل، بالقاء اللوم على الضحية فى مجتمع لا يعبد سوى القوة و لا يخاف إلا منها.
* اعتقد أن الحل المنطقى وفق هذه الرؤية التى تعتبر أن الإثارة الجنسية لا يمكن مقاومتها ولا يمكن التحكم فيها أو تجاوزها، ولكى نحمى المجتمع و أفراده من الانفلات الجنسى والجرائم الجنسية فأننا يجب أن نعزل كل أفراد المجتمع عن بعضهم البعض فى جزر منعزلة، أو أن يتنقب الجميع رجالا ونساءا وأطفالا عندما يلتقون ثنائيا أو فى مجموعات فى منازلهم أو فى الشوارع أو فى الأماكن العامة، حتى ولو كانوا من المحارم، ذلك لأن الإسلاميين غافلين أو متسامحين أو متحررين بهذا الخصوص بعد ثبوت أن التحرش والانتهاك والاغتصاب يدور بين المحارم أيضا مثلما يدور بين غير المحارم، و أنه ربما يكون أكثر شيوعا مما نتصور، ومن ثم فعلى الأطفال أن ينتقبوا أمام الأباء والأمهات و الأخوة والأخوات بمجرد قدرتهم على الاستغناء عن البامبرز، و قدرتهم على إطعام أنفسهم وتنظيف أجسادهم، دون انتظار إلزامهم بذلك عند البلوغ الذى هو تهاون فى حق العفة والفضيلة، و لأن ملامح الوجه وتعبيراته ، ونظرات العيون ونداءتها ، ودرجة الصوت وتلاوينه، ربما تكون أكثر إثارة للشهوات من رؤية الأعضاء التناسلية نفسها، فإن النقاب ألزم ، ولغة الإشارات فيما بين الناس أوجب، سواء بين جميع أفراد الأسرة أو بين جميع البشر. وأخذا بالأحوط، يجب منع الصور أو الرسوم والمجسمات مراعاه لمرضى الصنمية ،و ربما نضطر إلى إلزام الحيوانات بالنقاب مراعاه لعشاق الحيوانات، أترون ما هو أسخف من ذلك ولكن هذا ما يمكن أن نصل إليه لو مددنا هذا المنطق المعوج الشائع على استقامته.
* و لأن الثقافة الشائعة تحول العلاقة بين الرجل والمرأة لوحش وفريسة، فإن الرجال الذين لديهم تلك الثقافة يعتبرون أن كل ما يصدر عن المرأة من قول أو فعل هو نداء بالجنس حتى لو صدر تلقائيا منها، وانها دعوة مفتوحة له ليحاول معها حتى ولو تمنعت، فالشائع عنهن أنهن يتمنعن وهن الراغبات،وهن عاهرات فى رأى هؤلاء إلا أن يثبتن العكس، و لأن المرأة يتعمق لديها شعور أنها فريسة محتملة لكل رجل فإن معظم النساء يعتبرن أن كل ما يصدر عن الرجل من قول أو فعل هو نداء بالجنس حتى لو صدر تلقائيا، و هى إما أن تستخدم أنوثتها للحصول على ما تريد من الرجل، أو أن تحمى نفسها بالانسحاب والانعزال عن المجتمع وارتداء الحجاب والنقاب وبأن تتطرف فى المظاهر الدينية و بأن تتحاشى الاختلاط بالرجال والتحدث معهم .والمرأة وفق هذه الرؤية ليست إنسانا بل هى مجرد قطعة من اللحم إما أن تترك مكشوفة لينال منها كل من يمر بها من القطط،أو توضع فى ثلاجة النقاب والحجاب بعيدا عن عيون القطط، وهذا هو ما صرح به مفتى المسلمين فى استراليا ونيوزيلاند مؤخرا.
* هذا المفتى لخص تماما تلك الثقافة المشتركة بينه وبين من انتهكوا أجساد النساء فى العيد ، فهم لا يعترفون أن التحضر والرقى والتقدم يفترض أن ما يفصلنا عن الحيوانات ويجعلنا بشر جديرين بالحرية والاحترام والكرامة هو اعتبار أن ما يصدر من إثارة جنسية من أى إنسان لا يعطى أى حق لأى إنسان آخر فى أن يتحرش به أو أن ينتهك جسده أو أن يمارس معه الجنس إلا برضاه، فحتى من يبعن جسدهن لا يحق لأحد أن يتحرش بهن أو أن ينتهك عرضهن أو أن يمارس معهن الجنس دون رضائهن الحر. حتى زوجة الرجل لا يحق له ممارسة الجنس معها إلا برضاها، و هو عكس تلك الثقافة الشائعة التى توجب على المرأة أن تسلم نفسها لزوجها حتى ولو لم تكن ترغب. وأن كل علاقة جنسية قائمة على قهر طرف لطرف آخر و إجباره هى علاقة لا تليق سوى بالهمج، وكل علاقة جنسية تقوم على حصول طرف على منافع غير المتعة الجنسية من الطرف الآخر هى دعارة حتى ولو سترها غطاء من الشرعية القانونية أو الدينية،ولكن أين مجتمعاتنا من ذلك.

أزمة الواقع وأزمة الخطابات السياسية

أزمة الواقع وأزمة الخطابات السياسية
سامح سعيد عبود
كان السقوط المدوى للأنظمة البيروقراطية التى عرفت بالاشتراكية فى الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا والتحول الفعلى من رأسمالية الدولة إلى الرأسمالية التقليدية فى الصين الشعبية، وسقوط كل أشكال رأسمالية الدولة الوطنية فى العالم الثالث، هى اللحظة التى بدأت فيها عملية التحول الكبرى لغالبية الشيوعيين لمعسكر الوسط سياسيا، منقسمين إما على يساره نحو الاشتراكية الديمقراطية و إما على يمينه تجاه الليبرالية، كما أن الكثيرين أيضا انتقلوا لصفوف الحركات القومية والدينية الفاشية و الشعبوية، كما أن الكثيرين منهم ظلوا فى معسكر اليسار التقليدى يرددون نفس الخطاب القديم حول إمكانية بناء الاشتراكية فى بلد واحد مع بعض التعديلات الديمقراطية اللازمة على نموذج اشتراكية الدولة الستالينى.
فى هذا المقال سأحاول إثبات أن كل هذه الخطابات لا تستند على برهنة علمية، بل أنها ناتجة عن الاستسهال فى تحديد المواقف السياسية، وكمثال على السطحية يقول أحدهم ببساطة أنه مادامت الاشتراكية قد سقطت فالرأسمالية هى النظام الأفضل، و مادمنا فشلنا فى تحقيق الاشتراكية فلابد وأنها مجرد حلم خيالى مستبعد تحقيقه، تماما كسطحية تفسير سقوط نفس تلك الاشتراكية بنظرية المؤامرة أو الأخطاء التى لحقت بالتطبيق.
الأمانة تقتضى أن نقر بوجود معضلة بالغة الصعوبة ناتجة عن أزمة عميقة فى الواقع الاجتماعى سواء محليا أو إقليميا أو عالميا، يصاحبها فى نفس الوقت عجز كل القوى السياسية على تقديم حلول عملية لتجاوز تلك الأزمة، فالبشرية عموما تواجه خطر ماثل هو الانحطاط للبربرية بسبب استمرار الرأسمالية، و فشل مناهضيها فى هزيمتها حتى الآن، وهذا ما تمت البرهنة العلمية عليه بشتى الطرق على مدى القرن الماضي، إلا أن الانحطاط فى بلدان الأطراف المتخلفة كمصر أشد منه فى بلاد المركز المتقدم كفرنسا، أما فى بلاد الشرق الأوسط فإن الانحطاط قد بلغ الحضيض.
أن العجز عن تقديم الحل العملى و العاجل للأزمة مصريا و هو ما سيتم التركيز عليه فى هذا المقال، ناتج بالأساس عن أن كل هذه النخب السياسية فى بلادنا التى تطرح كل هذه الخطابات تفتقد إلى الارتباط بأى قوى اجتماعية فى الواقع، ولذلك فهى أضعف من أن تقود الجماهير لتحقيق أبسط الإصلاحات السياسية حتى ولو كانت إلغاء حالة الطوارىء، بل و أعجز من أن تمنع توريث الحكم، فما بالكم بالإصلاح الجذرى للأوضاع، ومادامت المسألة لا تتجاوز إعلان المواقف إرضاءا للضمير و إثباتا للوجود لا غير ، فليظل الجميع يسبحون فى الكلام الذى لا يحاسبهم عليه أحد، والاكتفاء بممارسات سياسية نخبوية واستعراضية أشبه بالاستنماء، ولأن هذه النخب تصر على عدم رؤية الواقع و لا رؤية نفسها على حقيقتها، فأنها تمارس السياسة كما لو كانت قوى سياسية حقيقية قادرة على مناطحة النظام، ومن ثم فأنها تصر على إنتاج برامج سياسية تحاول تسويقها لجمهور من المستهلكين، أصبح عازفا عن أن يستهلكها،وأن يحتشد خلفها.
فى الحقيقة إن ما سوف أشير إليه من براهين فى هذا المقال قد تم تكراره لملايين المرات، بقلمى وبأقلام غيرى من الكتاب و بكل اللغات، إلا أنى لم أقرأ ردود قوية عليها حتى الآن، برغم إصرار الكثير من الكتاب عندنا على الاجترار الممل لنفس الأفكار القديمة المتعالية عن الدفاع عن نفسها أمام تلك البراهين.
أولا أنصار الليبرالية الرأسمالية
يستند دعاة الليبرالية الرأسمالية على الصورة التى تقدم عن بلاد الليبرالية فى صورتها النقية، وهى تحديدا بلاد المهجر الرأسمالية المتقدمة الولايات المتحدة وكندا واستراليا، ففى هذه البلاد استطاعت الرأسمالية أن تسود وتحكم فى ظل الليبرالية السياسية والاقتصادية بشكلهما الكامل دون تقديم تنازلات كبيرة للطبقتين العاملة و الوسطى، فى نفس الوقت التى تمتعت فيه الغالبية العظمى من السكان بمستوى مرتفع من الدخل طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان هذا ناتج عن ظرف تاريخى محدد هو عدم امتداد الحرب لحدود هذه البلاد التى شاركت فيها كمورد للمؤن والسلاح للحلفاء، وفى ظل ظروف التشغيل شبه الكامل للعمالة بالتخلص من فائضهم كمحاربين خارج حدودها، فى نفس الوقت التى احتفظت فيه بكل بنيتها التحتية والإنتاجية سليمة تماما مما أعفاها من جهود التعمير الداخلى ما بعد الحرب، وليتدفق الاستثمار الأمريكى فى غرب أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية بتلك الأموال التى تم ربحها من تمويل باقى الحلفاء، مما ضخ المزيد من الأموال للاقتصاد الأمريكي الرابح الأعظم و الأوحد من تلك الحرب، مع ملاحظة أن هذا هو ما تكرر أيضا فى الحرب العالمية الأولى إلى حد كبير، وبالطبع يتم التغاضى عن هذه الحقيقة التاريخية لتصبح الليبرالية السياسية الاقتصادية المطلقة فى تلك البلاد هى السبب فى كل هذا الثراء والرفاهية التى تمتعت بها شعوب تلك البلاد، وليس ذلك فحسب بل يتم التغاضى عن أن دول المهجر تلك و الغنية بالموارد البكر ظلت تجتذب المهاجرين من أفضل العناصر البشرية يدويا وذهنيا مما يحسن دوما من نوعية قوى العمل، ويرفع دائما من مستوى الإنتاجية، وهم غالبا من الطموحين لتحقيق حلم الثراء الفردى، ومن المشبعين بالحلم الأمريكى، مما أضعف مبررات الصراع الطبقى لديهم أحيانا، إلا أن هذا الوضع الغريب للقوى العاملة فى بلاد المهجر لم يكن موجودا عبر كل تاريخ تلك الدول، فقد عرفت الولايات المتحدة على سبيل المثال طوال النصف الأول من القرن العشرين حركات عمالية سياسية و نقابية قوية عبرت عن حدة الصراع الطبقى حينما تضاءلت فرص الثراء الفردى أمام هؤلاء المهاجرين، بل أن تاريخ اليسار الأمريكى عرف أوائل القرن العشرين أكبر المنظمات اليسارية الجذرية على مستوى العالم تاريخيا، وهى منظمة عمال العالم الصناعيين إلا أنه تم تدمير وتخريب المنظمات السياسية والنقابية للطبقة العاملة بأشكال من الاضطهاد يتجاهل الحديث عنها الليبراليين دائما، واختراق المافيا و المخابرات لقيادات النقابات والمنظمات السياسية، فضلا عن السياسة العنصرية لأصحاب المصانع التى قسمت العمال لبيض وسود ولاتينيين فيما يتعلق بالأجور مما اضعف من فرص توحدهم فى مواجهة أصحاب العمل ( إجابة المستشرق الأمريكى اليسارى "جول بنين" عن سر ضعف الطبقة العاملة الأمريكية خلال حوار معه فى القاهرة خريف 2003)، ومن ثم أصبحت الحياة السياسية فى الولايات المتحدة محصورة فى حزبين رأسماليين كبيرين، كما ينبغى أن لا ننسى أن الرأسمالية فى تلك البلاد شهدت أسوء مظاهر أزمة الكساد الكبرى التى واجهتها الرأسمالية الأمريكية بالسياسات المتمثلة فى الصفقة الجديدة.
أما فى بلد كمصر فيعتمد اقتصادها أساسا على مصادر دخل ريعية ترتبط صعودا وهبوطا بصعود وهبوط الاقتصاد الرأسمالى المتقدم الذى يستهلك تلك الخدمات والسلع كالبترول والمعادن وقناة السويس والسياحة، كما يعتمد على إيرادات العاملين بالخارج و على المعونات الغربية ، فمما لاشك فيه أن هذا الضعف الهيكلى فى الاقتصاد وفقر الموارد الذاتية فى مصر يؤسس موضوعيا لهذا الانحطاط، و لا يتيح فرصة النمو إلا لنوع من الرأسمالية الرثة التى لا يمكن أن تحكم إلا فى ظل الاستبداد السياسى.
فحتى تستطيع الرأسمالية أن تحكم فى ظل الليبرالية الاقتصادية والسياسية، فلابد وأن يكون لديها فوائض تنفقها لامتصاص سخط الطبقتين العاملة و الوسطى ،و موارد تتيح فرص الثراء الفردى للغالبية، التى لن تحتشد خلف برنامج ليبرالى فى الحدود السياسية الاقتصادية دون إعطاءها مكتسبات تحسن من ظروف حياتها، و فى الحد الأدنى حلم الثراء الفردى، إلا أن الماركسيين السابقين والليبراليين حاليا، تناسوا أنك لن تستطيع أن تفكر قبل أن تملأ المعدة بالطعام، فالحريات السياسية مطلب الشبعى من الناس، أما الجوعى منهم فعلى أتم استعداد للتنازل عن حرياتهم السياسية لمن يوفر لهم الخبز أو يوهمهم بتوفيره، و فى حالة توفر الخبز سيفكرون بالطبع فى الحرية، ويطالبون بها، يمكنك فقط أن تحرمهم من كل من الخبز والحرية فى ظل الاستبداد السياسى و البوليسى كما هو حادث الآن، إلا أن هذا لا يمكن فى ظل الليبرالية السياسية والاقتصادية التى يبشر بها المفتونون بالنموذج الأمريكى معزولا عن الظروف الواقعية التى أفرزته.
فلو طبقنا البرنامج الليبرالى كاملا فى مصر الآن بالاستغناء عن ملايين الموظفين والعمال الزائدين عن الحاجة فى الحكومة، وألغينا الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، وتمت خصخصة باقى المؤسسات والمرافق الحكومية، وحررنا السوق من كل القيود، فلن يؤدى هذا إلا للمزيد من الإفقار والبطالة و التهميش للغالبية الساحقة من السكان التى لن تنتظر كثيرا بركات الليبرالية فى النمو، وأما الشق السياسى فى البرنامج الليبرالى فسيصبح بلا معنى لكل هؤلاء الجوعى، أما القلة التى ستستفيد من هذا البرنامج فلن تستطيع أن تصمد أمام غضب هؤلاء الجوعى.
ثانيا أنصار الاشتراكية الديمقراطية
يعترف دعاة الاشتراكية الديمقراطية بأهمية الربط بين الخبز والحرية، و أعينهم بالطبع على نموذج دولة الرفاهية فى غرب أوروبا، مثبتين نظرهم على فترة ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية، وأثاره المتبقية حتى الآن، متغاضين بإصرار عجيب عن فحص أسباب صعود هذا النموذج و حقيقة هبوطه وأزمته الراهنة، متجاهلين أن هناك واقع عالمى جديد أصبح من مستلزماته تدمير دولة الرفاهية التى صنعتها الاشتراكية الديمقراطية فى غرب أوروبا، والتى يتوهمون بإمكانية تكرارها فى بلد مفلس كمصر، ومتجاهلين أن كل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى غرب أوروبا سواء فى الحكم أو فى المعارضة سقطت تماما فى معسكر الليبرالية، و ذلك بسبب حقيقة يتم تجاهلها عمدا من كل دعاة الاشتراكية الديمقراطية، وهى خضوع كل دول العالم وحكوماته بلا استثناء من أقواها وحتى أضعفها لديكتاتورية أسواق الأموال العالمية التى أفقدت الديمقراطية البرجوازية أى مصداقية كما أفقدت الدولة القومية الكثير من استقلاليتها وسيادتها.
فنجاح ذلك اللون من الاشتراكية مرتبط واقعيا بظروف تاريخية معينة فى دول غرب أوروبا، أولها درجة متطورة من الديمقراطية التمثيلية والليبرالية السياسية سمحت للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية بالوصول للسلطة، و درجة معينة من الاستقلال الاقتصادى للدولة سمحت لها بتطبيق برامجها الإصلاحية، و ثانيها رواج رأسمالى سببته أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية التى أتاحت فرص التشغيل الكامل للعمالة، و توافر فوائض مالية من الأرباح الاحتكارية، تم توجيهها لتحقيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للطبقتين العاملة و الوسطى، ومن ثم التخفيف من حدة الصراع الطبقى، و ثالثها الرعب من امتداد الثورة البروليتارية من شرق أوروبا لغربها، كان لابد للرأسمالية الحاكمة أن تقدم كبديل عنه نموذج أكثر جاذبية للحياة مما هو فى شرق أوروبا، و رابعها ظروف الحرب الباردة التى دفعت الرأسمالية الأمريكية لضخ الأموال الفائضة لديها للتعمير والاستثمار فى غرب أوروبا و بعض بلاد شرق آسيا الحليفة لها ككوريا الجنوبية وتايوان وخاصة اليابان، و خامسها توافر إمكانية تطبيق حل أزمات الكساد الدورية بزيادة الإنفاق العام المشروط طبعا بتوافر الفائض لهذا الإنفاق، إلا أنه حل أصبح غير ممكن فى ضوء أزمة الركود التضخمى السائدة فى العالم منذ السبعينات وحتى الآن.
والاشتراكيون الديمقراطيون لدينا يتجاهلون بجانب كل هذه الظروف الموضوعية، أن معظم المكاسب التى تم تحقيقها فى فترة دولة الرفاهية يتم سحبها الآن، على سبيل المثال ألمانيا فى ظل الحكومة الاشتراكية الديمقراطية نفسها التى خلقت أكبر دولة رفاهية فى غرب أوروبا، وهى بلد لم يصبه البؤس والفقر كمصر حتى الآن.
العوامل السابقة لا تتوافر لدينا لنجاح مثل هذا النموذج بداية رغم تمسك الكثير من اليساريين السابقين به الآن بعد أن فقد النموذج الثورى جاذبيته بالنسبة لقطاع واسع منهم، أو لعدم توافر الظروف الذاتية والموضوعية لتحققه عمليا بالنسبة لآخرين.فمن أين سيأتون بالفوائض المالية التى توفرت لدى بلدان غرب أوروبا لتوفير الحقوق الاجتماعية للبروليتاريا، وما الذى سيدفع الرأسمالية المحلية والعالمية للتنازل عن أجزاء من أرباحها فى ظل ضعف الطبقة العاملة سياسيا ونقابيا، وكيف ستفرض الدولة حقوق العمل على الرأسماليين المصريين والأجانب، وكيف ستجتذب أموال المستثمرين فى نفس وقت الحاجة الماسة إليها للنمو، وهم الذين ينتقلون عبر العالم بحثا عن العمالة الأرخص والأقل حقوقا ووعيا. فإما أن ترضخ لرغباتهم ليأتوا إليك بأموالهم أو سيهربون، وبلد كمصر ليست كبلاد البترول قليلة السكان كبلاد الخليج التى تتوافر لديها بعض الفوائض المالية للاستثمار، والإنفاق العام، أن ما تملكه من ميزة هو قوة عمل رخيصة تهرب لفرص العمل الأفضل فى الخارج إن لم تجد فرص عمل بالداخل.
ثالثا أنصار التحرر الوطنى
يعتمد أنصار التحرر الوطنى وحلم التنمية المستقلة على وهم أن العالم ينقسم لبلاد استعمارية متقدمة وبلاد متخلفة تابعة لها، وأن هناك إمكانية أن تستقل الدول المتخلفة وتتقدم بمعزل عن الارتباط بالدول الاستعمارية المتقدمة بل وفى مواجهتها، سواء فى كل بلد على حدة أو باتحاد هذه البلدان فيما بينها، و لأن هذه البلاد المتقدمة تحتكر وسائل الإنتاج المتقدمة فإن على هذه الدول المتخلفة أن تحقق تنمية مستقلة، وأن تتخلى عن هدف اللحاق بالعالم المتقدم، وتقدم هى نموذج آخر للتقدم مستقل عن المركز المتقدم، و المعضلة فى الحقيقة أنى من القلة القليلة للغاية التى تحتقر بعمق ثقافة الاستهلاك البرجوازية، إلا على أن أقر بأن الغالبية الساحقة من البشر يتبنونها بحماس، كما أن هذه القلة التى انتمى إليها تود لو عاشت نمط مختلف من الحياة المتقشفة لأنها تراه الأقرب للحكمة، إلا أن الغالبية الساحقة تود لو عاشت فى جنة الاستهلاك السلعى فى العالم المتقدم لأنها تراه الأقرب للعقل. فهل يمكن للقلة من أمثالى أن تفرض ما تراه على الأغلبية إلا فى ظل التسلط عليها، أو انتظار أن تقتنع بما نرى.
الحقيقة الأخرى التى سبق الإشارة إليها هى أن عالمنا بكل دوله وحكوماته و بأقسامه المتخلفة و المتقدمة على حد سواء، أصبح خاضعا لديكتاتورية رأسمالية عالمية لا تعرف حدودا، و لا تحمل أى جنسية، ولا تنتمى إلى أى قومية أو دين، ولا لون لها، ولا تتحدث بلغة بعينها، و أن بعض شركاتها أقوى وأغنى و أعظم نفوذا من بلاد قارة كاملة كأفريقيا، هدفها الوحيد هو الربح ولا يهمها من أين وكيف يأتى، وعضوية مؤسساتها لمن يملك المال الذى يمكنه من شراء أسهمها بصرف النظر عن محل إقامته أو وطنه أو دينه، ولها من الأجهزة السياسية الدولية كالبنك الدولى ومنظمة التجارة العالمية ما يمكنها من فرض إرادتها على جميع الحكومات، بل وشراء جيوش المرتزقة لحماية مصالحها، ،وفرض إرادتها وتوجيهاتها على أقوى الحكومات، و التى شاءت أم أبت،إن عاجلا أو آجلا، لا تملك إلا أن تكسب ودها مادام لديها وحدها مفاتيح الاستثمار والنمو وفرص تشغيل العمالة.
والحقيقة الثالثة هى أنه كان يمكن لبلد كمصر شأنها فى ذلك شأن كل دول الأطراف المتخلفة، فى ظل ظروف الحرب الباردة أن تلعب على انقسام العالم المتقدم لمعسكرين متنافسين لتجتذب الأموال والتكنولوجيا من أحدى المعسكرين إليها لتحقيق بعض النمو الذى بدا للبعض مستقلا على عكس حقيقته، وأن تحقق بعض المكاسب الضئيلة للطبقتين الوسطى والعاملة من خلال رأسمالية الدولة الوطنية، إلا أن الظروف تغيرت وأصبح العالم فيما عدا دول قليلة للغاية مجرد سوق واحدة تتحرك فيها الأموال والسلع بحرية، و قد توحدت الرأسمالية فى العالم من خلاله كطبقة، فى حين أن نقيضتها الطبقة العاملة مازالت مفتتة باسم الوطنية والقومية والدين والجنس واللون والعرق واللغة، فى حين أنها الوحيدة المؤهلة لهزيمة تلك الرأسمالية لو توحدت هى الأخرى عبر العالم، والأمر الذى قد لا يدركه أنصار التحرر الوطنى هؤلاء أنه وبرغم كل ادعاءاتهم عن أنفسهم بأنهم تقدميون ويساريون وتحرريون، فأنهم يساعدون على تفتيت الوحدة العمالية العالمية كشرط جوهرى لهزيمة الرأسمالية، بدعمهم أساطير الهويات القومية والوطنية والدينية والثقافية والعرقية التى تطمس وتشوه الصراع الطبقى، و بترويجهم أساطير التحرر الوطنى و التنمية المستقلة..والحديث عن الإمبريالية و كأنها شىء مختلف عن الرأسمالية، و تقسيم الرأسمالية لعالمية و قومية، طفيلية ومنتجة..الخ، أنهم فى الحقيقة الطابور الخامس الذى يعمل لصالح استمرار تلك الرأسمالية، فهم يبيعون لنا أوهاما مستحيلة التحقق برغم كل ما بذل من أجلها من تضحيات.
فلم يستطيع الاتحاد السوفيتى الذى كان ينتج وحده 20 % من الإنتاج العالمى، و مع كل الدول التى كانت تدور فى فلكه بما كان فيها من دول صناعية متقدمة فى الأصل كألمانيا الشرقية وتشيكوسلوفاكيا أن يصمدوا أمام حصار الرأسمالية العالمية لهم، وفى النهاية انهاروا أمامها، ولم تستطع الصين الصمود فى محاولتها عدم اللحاق بالغرب بعد طول ممانعة، فسعت بنفسها للاندماج فى السوق الرأسمالى العالمى محققة أعلى مستوى استغلال وقهر فى العالم للعمل المأجور، و أعلى معدلات نمو رأسمالى فى العالم فى نفس الوقت ، يرشحها لتصبح المركز الرأسمالى الأهم فى العالم بعد عقود قليلة، برغم اللافتة الشيوعية المرفوعة، فهل تستطيع إذن بلاد فقيرة كمصر أو حتى المنطقة العربية موحدة أن تستقل حقا عن الرأسمالية العالمية دون استبداد سياسى يفرض تقشفا يصل إلى حد المجاعة على السكان كالحادث فى كوريا الشمالية.
رابعا أنصار الاشتراكية فورا
لا شك أن نمط الإنتاج البرجوازى من أجل التبادل والربح أصبح يشكل خطرا لا حد له على وجود البشرية وسلامة البيئة وصلاحيتها للحياة البشرية على الأرض،مما يعنى أن تحطيم هذا النمط أصبح ضرورة حيوية ليس للبروليتاريا فقط بل و للرأسماليين أنفسهم باعتبارهم بشر فى النهاية، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فالاشتراكية الحقيقية وفقا للفرضية الماركسية لا يمكن أن تبنى على بنية اجتماعية متخلفة فى بلد كمصر، إلا أن فرضية لينين بإمكانية تحقق الثورة الاشتراكية العالمية بدءا من أضعف الحلقات الرأسمالية المتقدمة فى روسيا بشرط أن تمتد شرارة الثورة للمجتمعات الرأسمالية المتقدمة لتعوض تخلف البنية الروسية، تحققت فى شقها الأول فحسب، إلا أن التمادى فى البعد عن الفرضية الماركسية الأصلية وصل بماو إلى أن يفترض أننا يمكن أن نحقق الثورة الاشتراكية بالاعتماد على فقراء الفلاحين فى ظل غياب البروليتاريا الصناعية فى أكثر البلاد تخلفا، والنتيجة معروفة للجميع، ففى كل هذه البلاد التى عرفت وصول الشيوعيين للسلطة انتهت التجربة بنمط إنتاجي يقوم على استغلال وقهر العمل المأجور لا يمكن أن ننسبه للاشتراكية الحقيقية التى لابد و أن تتحقق فيها الحرية والمساواة، و التى ينبغى أن تكون الأكثر تقدما من الرأسمالية،و أن يتحرر فيها العمال من عبودية العمل المأجور، هذا النمط الذى تحقق فى الواقع فى البلاد المتخلفة أطلق عليه العديد من الأسماء أشهرها البيروقراطى ورأسمالية الدولة واشتراكية الدولة و الستالينى..الخ. أما النمط اللاسلطوى من الاشتراكية فلم يتحقق واقعيا، وهو النمط الذى يحقق المثل العليا الاشتراكية فى الحرية والمساواة والتقدم .
يمكن أن يدفع أنصار اشتراكية الدولة بأن نمط مختلف نسبيا من اشتراكية الدولة فى كوبا أقل بقرطة و أكثر ديمقراطية مازال مستمرا فى صموده رغم ضراوة الحصار الرأسمالى، هذا لو صرفنا النظر عن المهاجرين أو الحالمين بالهجرة من الجنة الكوبية إلى جحيم الولايات المتحدة.
إذا لم تكن الفرضية الماركسية الأصلية بأن الاشتراكية لا يمكن أن تتحقق إلا فى أكثر البلاد الرأسمالية تقدما حتمية وصحيحة، بل مجرد احتمال وتنبؤ غير مؤكد، وأننا على العكس يمكن أن نحقق الاشتراكية فى بلد متخلف كمصر الآن كما يزعم من يريدون الاشتراكية فورا، فكيف سنواجه حصار الرأسمالية العالمية للثورة، و كيف سنتغلب على عقبات تخلف الواقع المصرى وانحطاطه المروع على كافة الأصعدة و فقره، وما سيكون عليه الوضع عندما تنضب ينابيع المعونات الغربية و إيرادات المصريين العاملين بالخارج وتنخفض إيرادات السياحة والبترول فى ظل غياب مساعدة بلد غنى ومتقدم كالاتحاد السوفيتى السابق فى نفس الوقت .ألن نجد أنفسنا فى نفس الوضع الذى وجد البلاشفة فيه أنفسهم، فترتد الثورة لنفس النمط البيروقراطى السلطوى من الاشتراكية، و إن لم يكن هذا قدرا محتوما على كل ثورة اشتراكية فى بلد واحد متخلف كما يفترض هؤلاء فكيف يمكن تلافيه.
كما يمكنهم الدفع بأن الفكاك من هذا المصير يعتمد على نجاحنا فى تقديم نموذج للنمو والتقدم مختلف عن النموذج البرجوازى، بأن ننتج لتلبية الاحتياجات الاستعمالية للمواطنين دون الانزلاق لخطأ الإنتاج من أجل التبادل، و أن لا نتورط فى سباق التسلح والتنافس مع المركز الرأسمالى،ونتخلى عن منطق اللحاق به، وعن منطق الربح فى الإنتاج، ودون تكرار الأخطاء التى وقعت فيها الدول الاشتراكية من مركزية التخطيط والإدارة البيروقراطية للإنتاج وبوليسية الدولة و استبداديتها..الخ الخ.
كما يمكنهم الدفع بأن البنية الاجتماعية الأكثر تقدما تدفع بالفرد للرقى كما تدفعه بنية اجتماعية أخرى للانحطاط، وأن علاقة إنتاج أكثر تقدما ستؤدى تلقائيا لزيادة الإنتاجية، كما أن علاقة إنتاج أقل تقدما ستؤدى تلقائيا لخفض الإنتاجية، ومن ثم فعلاقات الإنتاج الاشتراكية الحقيقية القائمة على الإدارة الذاتية والديمقراطية من العاملين لوحدات الإنتاج والخدمات المختلفة، و التى تضمن التحرر من عبودية العمل المأجور،والتخطيط والتنسيق الديمقراطى بين هذه الوحدات ستحقق تلقائيا تجاوز التخلف والانحطاط فى الواقع الاجتماعى.
كما يمكنهم الدفع بأن للوعى البشرى والإرادة البشرية دورا هاما فى التغيير الاجتماعى و هذا قد يفسر الثورة الروسية رغم تخلف الواقع فيها، إلا أننا مع قبولنا حتى بهذه الدفوع، فعلينا أن نقرر حقيقة أن الاشتراكيون فى مصر ليسوا كالاشتراكيين فى روسيا ، فالاشتراكيون لدينا عموما يفتقدون لأهم ما كانت تملكه القطاعات الواسعة من المثقفين الروس وفهمهم لدورهم ما قبل الثورة، وهو الإيمان بقدرات العمال والفلاحيين الروس باعتبارهم حاملوا التغيير للحداثة والحرية والتقدم فى روسيا بدءا من الشعبيين إلى الماركسيين، و هم لا يملكون هذا الاندفاع الحماسى الدؤوب الذى ميز المثقفون الروس للارتباط بهم وبقضاياهم، وتعليمهم وتنظيمهم، واستعدادهم لدفع ثمن هذا النضال فى المنافى والسجون، لاحظ أنه لم توجد منظمة شيوعية مصرية ذات عضوية كبيرة من العمال ولا نقول غالبية العضوية فيها من العمال اللهم إلا الحزب الشيوعى القديم والطليعة الشعبية للتحرر، و ذلك بسبب ممارسات الماركسيين المصريين وأفكارهم وممارستهم السياسية جنبا إلى قمع الدولة للعمال ورشوتهم والثقافة السائدة وتصفية المجتمع المدنى. و لا أذكر أن هناك محاولات جدية قدمها اليسار بدءا من السبعينات إلى الآن ليغرز نفسه بعمق فى الواقع الاجتماعى الذى يدعى التعبير عنه وهو البروليتاريا سواء بمفهومها الواسع أو بمفهومها الضيق، ومن ثم سيصبح هؤلاء الاشتراكيون معلقين فى الفراغ رغم كل التضحيات العديدة من كوادرهم التى ضاعت بسبب انشغالهم المرضى بقضايا التحرر الوطنى والقومى وليس التحرر الطبقى والإنساني،و لميولهم الشعبوية وارتباطهم بتقديس الدولة. ولكل هذا فحتى الطرح الاشتراكى سواء فى أسوء أشكاله "اشتراكية الدولة" أو أفضل أشكاله الاشتراكية اللاسلطوية لا يمكن طرحه الآن على جدول الأعمال العاجل، ذلك أنه شأن كل الأطروحات السياسية التى تحملها القوى السياسية المختلفة معزول عن أى قواعد اجتماعية.
فى الحقيقة أن تبنى اليساريين لأفكارهم اليسارية ليس وليد البرهنة العلمية فقط كما يتوهم الماركسيون فى أنفسهم، وإنما هناك جذور أخلاقية لهذا التبنى ،وهذا لا يعيبهم على الإطلاق ،فمادامت احتمالات التطور البشرى متعددة فما الذى يمنع أن تكافح من أجل الاحتمال الأفضل.
إن تغيرات اشتراكية حقيقية غير ممكنة على بنية تخلف وفقر وانحطاط فى بلد كمصر دون مساعدة من بنيات اجتماعية أكثر تقدما وثراءا ورقيا، ولن يتم هذا إلا فى إطار ثورة بروليتارية عالمية أصبحت أكثر واقعية وإلحاحا الآن منها بالأمس، ذلك أن سر أزمة كل الحركات السياسية السابق الإشارة إليها، أنها مازلت موجهة ضد الدولة القومية، فى حين أن مركز السلطة السياسى تحرك من الدولة القومية ليصبح مركزا عالميا ممثلا فى العديد من السلطات الدولية ، وهو يمارس استبداده على الدولة القومية نفسها، وهو ما لمسته الحركة العالمية المناهضة للعولمة الرأسمالية التى تناهض تلك المؤسسات والسلطات العالمية.
ومن ثم فأنا أرى أنه لا أمل فى تغيرات جذرية فى بلاد الأطراف المتخلفة تقوم بمبادرة من داخلها وبقواها الذاتية معزولة عن تغيرات فى بلاد المركز المتقدم، فالأمل أن تحدث تحولات اشتراكية ثورية فى بلدان المركز المتقدم كألمانيا و روسيا أو بلاد طرفية قريبة من المركز كالبرازيل وجنوب أفريقيا والصين، تؤثر لدينا على نحو مباشر أو غير مباشر فى إطار ثورة عالمية تناضل من أجل تحقيقها الآن الأجنحة الثورية فى الحركة العالمية المناهضة للعولمة، و الأمميات الثورية التى توحد الجذرين فى العالم سواء من الماركسيين أو اللاسلطويين.
ولاشك أنه مما يساعد على توحد هؤلاء و نشاطهم المشترك،هو ثورة الاتصالات الحديثة ومنها الانترنت، و المنتديات الاجتماعية العالمية والإقليمية والمحلية وغيرها، بل وكثير من المواقع على الانترنت تساعد على هذا التوحد والحوار والارتباط بين القوى اليسارية الثورية إقليميا ومحليا، إلا أنه يبقى علي هذه الأجنحة أن تغرس نفسها بعمق فى الواقع الاجتماعى فى بلادها وهذا متحقق بدرجات متفاوتة فى الكثير من البلاد، إلا أن اليسار فى مصر أبعد ما يكون عن هذا المجال من النضال، ولا يعنى هذا أن على الاشتراكيين فى المجتمعات المتخلفة أن يكفوا عن النضال، وأن ينتظروا بسلبية انطلاق الشرارة الثورية فى بلاد المركز أو الأطراف المتقدمة، بل عليهم الانخراط بدورهم فى خلق القاعدة الاجتماعية لهذا التغيير الثورى فى بلادهم عبر عمل دؤوب ومركز قد يستغرق سنوات، يتلخص فى نشر الوعى الثورى بين القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة فى هذا التغيير، والارتباط والتضامن مع احتجاجتها ومنظماتها المدنية، وتبنى قضاياها المختلفة، والابتعاد فى نفس الوقت عما اعتادت عليه القوى السياسية المصرية عن كل ما هو نخبوى و استعراضى فى الممارسة السياسية التى تستهلك الوقت والجهد والطاقة بلا طائل. فعندما ننغرز فى الواقع الاجتماعى يمكنا فقط أن نطرح الاشتراكية فورا ولكن ليس قبل ذلك.
ربما قد يشهد العالم هذه التغيرات الثورية قريبا فى ضوء الأزمة الرأسمالية الحالية وتصاعد الحركة العالمية المناهضة للرأسمالية فى معظم بلاد المركز والعديد من بلاد الأطراف خصوصا فى أمريكا اللاتينية، و قد لا يشهدها أيضا فقد ينزلق العالم لفترة من الحروب العنصرية والفاشيات المختلفة والتفكك على النمط الصومالى ، ففى فلسفة العلم أصبح اليقين والقطع لا يحكم الطبيعة، فما بالك بالمجتمعات البشرية ،ومن ثم فالكفاح من أجل ترجيح أحد الاحتمالات هو خيار ليس من الضرورى أن تتم البرهنة على يقينيته وحتميته، بل البرهنة على أفضليته.
المهمة العاجلة التى يجب أن تتركز فيها الجهود هى توحيد الطبقة العاملة العالمية فى مواجهة الرأسمالية العالمية،من أسفل لأعلى من وحدة الإنتاج أو الخدمات إلى العالم بأسره،من أجل ترجيح الاحتمال الأفضل.

الأحد، 22 يونيو 2008

دجل الخصخصة عبر تمليك أو بيع الشركات للعمال في مصر

دجل الخصخصة عبر تمليك أو بيع الشركات للعمال في مصر
سامح سعيد عبود
بضع سطور قليلة تم نشرها فى صحيفة الوفد يوم 2/11 حفلت بكم من الأكاذيب على لسان كل من أحمد العماوي وزير القوي العاملة والهجرة و السيد راشد رئيس اتحاد العمال، تحتاج لآلاف السطور لتحليلها وتأملها قبل تفنيدها، بضع سطور أكدت الدجل التى تمارسه الطبقات والنخب الحاكمة على العمال لتضفى أهمية وهمية على وظيفتها الاجتماعية الطفيلية، ولتبرر استمرارها فى مص دماء العمال لا غير باسم الكفاءة والمعرفة والتخصص.
كتب خالد حسن "منذ بداية تطبيق الخصخصة في مصر عكفت الدولة علي تمليك أو بيع بعض الشركات للعمال الا اننا حتي الآن مازلنا نسمع عن مشاكل الشركات المباعة وحتي الآن لم تثبت التجربة نجاحها.. والسؤال: هل توجد أي مقومات لنجاح تلك التجربة؟ وإلي أي مدي نجحت؟ الاجابة حصلنا عليها من أهم اطراف القضية وهي الحكومة وممثلو العمال.. أحمد العماوي وزير القوي العاملة والهجرة اعترف في مؤتمر عمالي مع التنظيم النقابي في ندوة المرأة العاملة أن الأيام أكدت ما توقعه من فشل بعض الشركات التي تم تمليكها بالكامل للعمال مثل بعض المشروعات الزراعية وبعض مشروعات النقل والكراكات.. وقال »العماوي« بالحرف الواحد انه في يوم من الأيام رفض تملك العمال للشركات بالكامل ايماناً منه بالتخصص وقد اثبتت الأيام ما توقعه واكد »العماوي« انه يؤمن بأن تكون الادارة لمن لديهم الخبرة وهذا غير موجود لدي العمال، مما أدي لفشل بعض الشركات التي بيعت بالكامل للعمال وتنبه الاتحاد العام لنقابات عمال مصر مؤخراً الي تلك الازمة وأرجع اهم اسباب فشل بعض الشركات المملوكة للعمال أو التي تم بيعها للعمال إلي عدم وجود خبرة كافية لدي العمال في ادارة تلك الشركات مما جعلها تخسر لذلك اكد السيد راشد رئيس اتحاد العمال ان الاتحاد يقوم حالياً بدراسة كيفية تطوير اتحادات العمال المساهمين.. وبالطبع التطوير لن يحدث إلا من خلال تكثيف الدورات التدريبية للعمال علي كيفية الادارة ومتابعتهم اشرافياً في تسيير امور الشركات لقد تسببت ظواهر الفشل التي أصابت بعض الشركات المباعة للعمال في تفكير الحكومة ألف مرة عند بيع شركة للعمال فالمسألة تحتاج مزيداً من التأني وخاصة عند بيع شركات استراتيجية هامة من شأنها التأثير علي اقتصاد البلاد.."
وفى الحقيقة لا أدرى لما تم نشرها فى هذا الوقت بالذات ،هل للرد على تجربة الإدارة العمالية الذاتية الناجحة على مدى الثلاث سنوات الماضية لعمال مصنع المصابيح الكهربية بمدينة العاشر من رمضان، بالرغم من كل المصاعب التى تم تناولها فى العديد من المقالات المنشورة فى العديد من المواقع ؟، هل للرد على الظاهرة التى تناولها العدد الأخير من الطبعة العربية من مجلة النيوزويك الأمريكية اليمينية التوجه، حول إدارة العمال الذاتية فى الأرجنتين للمشاريع التى تركها ملاكها الرأسماليين بعض إفلاسهم نتيجة الأزمة الأرجنتينية فى السنوات الأخيرة ؟، وهى ظاهرة تشير أنه مع الأزمة الرأسمالية الحالية سيتزايد فرار العديد من الرأسماليين من دائنيهم، و تخليهم عن إدارة مشاريعهم، ومن ثم فلن يجد العمال فى تلك الحالة سوى إدارة تلك المشاريع لصالحهم بدلا من مصير البطالة والجوع الذى ينتظرهم خارج أبواب تلك المشاريع، وعلى ما يبدو فأن الدولة الرأسمالية فى مصر كما فى الأرجنتين تتغاضى مؤقتا عن مواجهة تلك الظاهرة الخطيرة التى تهدد الرأسمالية، خوفا من الانفجار الاجتماعى لهؤلاء العاطلين فى مواجهة كل من الدولة ورأسالمال.
وإذا كانت الظاهرة نادرة جدا فى مصر حتى الآن، فإنها على ما يبدو تشكل بدايات ثورة اجتماعية فى الأرجنتين، يؤكدها الانتشار الواسع الناطق هناك لكل من الإدارة الذاتية العمالية للشركات المفلسة، و المجالس الشعبية التى ينتخبها السكان فى الأحياء والمدن لتدير شئونهم المشتركة بعيدا عن أجهزة الدولة الرسمية والتى بدأت منذ أربع سنوات عند بداية الأزمة الرأسمالية الأخيرة فى الأرجنتين، والتزايد المطرد للرفض الجماهيرى الواسع النطاق للنخب السياسية والبيروقراطية،و تصاعد المقاطعة الجماهيرية للأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية الرسمية.
نعود مجددا لما نشر بجريدة الوفد، بسؤال بعض عمال شركة الكراكات وهى من الشركات التى تمت خصخصتها عبر تمليكها أو بيعها للعمال،عرفنا الحقائق الآتية:
أن كل السلطات الإدارية بالشركة فى يد كل من رئيس مجلس الإدارة الذى تعينه الدولة وفقا لقانون قطاع الأعمال العام، والذى يحصل بمفرده وفق هذا القانون أيضا على 5% من صافى أرباح الشركة فضلا عن العضو المنتدب، و أن الجمعية العمومية للشركة لا يحضرها العمال من ملاك الأسهم، ولكنها تتكون من أشخاص يتم تحديدهم من قبل وزارة الصناعة ، و لأن ملكية العمال صورية للأسهم فهى تنتقل للشركة بمجرد ترك العامل للشركة بالتقاعد أو الفصل أو الاستقالة، ولأن العمال مازالوا عمال مأجورين لدى الشركة، فأنهم خاضعين لأحكام قانون العمل الموحد ولائحة الشركة وقواعد الأجور والجزاءات بها، و يحصلون على ما كانوا يحصلون عليه قبل بيع أسهم الشركة لهم من أجور وخلافه وفق سلم الأجور والدرجات الذى كان متبعا وهى شركة قطاع عام، غير أن قيمة ما تملكوه من أسهم يخصم من أجورهم الشهرية كأقساط شهرية.
أما عن خسائر شركة الكراكات فهى بسبب فقدانها الوضع الاحتكارى التى كانت تتمتع به فى الفترة السابقة بالسوق المحلى، وخضوعها لمنافسة القطاع الخاص الذى يحصل على المقاولات من خلالها بالباطن
وبالرغم من كل هذا يتبجح العماوى ويتحدث عن عدم كفاءة العمال للإدارة، و ثبوت فشلهم فيها،وإيمانه بالتخصص،فإذ كان العمال فى هذه الشركات لم يديروها أصلا فى يوم من الأيام ولم ينتخبوا أو يفوضوا أحدا لإداراتها ،وظلت الإدارة فى يد نفس البيروقراطيين الفاسدين وغير الأكفاء للقطاع العام ، فلمصلحة من يتم إلصاق الفشل بالعمال ،إن لم يكن بدافع التستر على هؤلاء تحديدا، ولتبرير ما يحصلوا عليه من أرباح هائلة.

الأجور والأسعار فى عهد حكم الحزب الوطنى

الأجور والأسعار فى عهد حكم الحزب الوطنى
سامح سعيد عبود
مجموع ما يحصل عليه المواطنون من دخول فى أى دولة يطلق عليه الناتج المحلي الإجمالي، وهو بنقسم فى أى مجتمع رأسمالى إلى قسمين كبيرين أحدهما يطلق عليه عوائد التملك، و هو الذى يحصل عليه ملاك الثروة فى شكل فوائد على أموالهم أو أرباح من مشاريعهم أو ريع من عقاراتهم ، والقسم الثانى ويطلق عليه عوائد العمل وهى الأجور التى يحصل عليها العاملين بأجر ، فحتي عام 1989 كان أصحاب حقوق العمل يحصلون علي 48.5% من الناتج المحلي الإجمالي، والنسبة الباقية كانت تذهب للفئة الأخرى، أي حوالي 51.5%، وفي منتصف التسعينيات تغير الوضع وأصبح أصحاب حقوق العمل يحصلون علي 28.6% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 71.4 % للفئة الأخرى. وهكذا فالاحصائيات تشير إلى أنه منذ تولى مبارك الحكم تضخم حجم عوائد التملك بشكل متزايد حيث أرتفعت من 62% عام 1986 إلى 71% عام 1993، وهى الآن فى عام 2005 تقترب من 80% ، لو ارتفعت بنفس المعدل فأنها ستصل عام 2011 إلى 86%، و فى نفس الوقت تضاءل حجم عائد العمل أى الأجور حبث انخفضت من 38% إلى 29%خلال نفس الفترة، و قد وصلت الآن عام 2005 إلى 20% لو انخفضت بنفس المعدل فأنها ستصل عام 2011 إلى 14%.
نستنتج من كل تلك الاحصائيات أن نظام مبارك وسياسات الحزب الوطنى الحاكم منحازة لملاك الثروة ضد العاملين بأجر ، ففى عهد مبارك تزايد تركز الثروة الاجتماعية و الدخل على نحو مطرد فى يد القلة الرأسمالية المتضائلة حجما باستمرار، فى حين تزايد على نحو مطرد إفقار الغالبية العمالية من تلك الثروة و تضاءل نصيبها من الناتج المحلي الإجمالي، و هى المتضخمة حجما باستمرار، إلا أن سوء توزيع الناتج المحلي الإجمالي لا يتوقف عند هذا الحد فمبلاحظة توزيع الأجور بين العاملين بأجر سنجد أن كبار رجال الإدارة فى فطاع الأعمال العام وكبار رجال الدولة يحوزون على النسبة الأكبر من عائد العمل (الأجور) ، فالفرق بين الحد الأدنى للأجور والحد الأقصى للأجور قد تضخم جدا فى عهد مبارك، ففى حين تحصل غالبية العاملين بأجر على أجور لا تتجاوز 300 جنية شهريا، فإن يوسف عبد الرحمن وكيل وزارة الزراعة كان يحصل بمفرده على ربع مليون جنيه شهريا بشكل رسمى،و فى حين بسدد العاملين بأجر نصيبهم من الضرائب من المنبع ، يتهرب ملاك الثروة من إلتزاماتهم الضريبية يشتى الطرق.
و إذا كان العامل يحصل على دخله بالأجر فأنه يستهلكه وفق الأسعار فى السوق، ونلاحظ جميعا كمستهلكين الخلل القائم بين الأجور والأسعار، ففى حين تنمو الأجور بمعدلات بطيئة ترتفع الأسعار بمعدلات صاروخية، وهذا معناه انخفاض الأجر الحقيقى للعامل، فجنيه أول الثمانينات الذى كان يمكنه توفير وجبة فقيرة للعامل وأسرته، أصبح لا يكفى لشراء وجبة فقيرة لفرد واحد، و هذا ما نلاحظه جميعا، إلا أن الاحصائيات تشير إلى تراجع معدل النمو في الأجور الحقيقية خلال السنوات الخمس عشر الأخيرة حينما بدء هذا المعدل في التراجع، فبعد أن كان 5.9% بالقطاع الحكومي في الفترة من 86 وحتى 1991، ثم أصبح بالسالب ( - 1 % ) في الفترة من 1997 وحتى 1998، ثم ( - 2.3 % ) في 98/1999. فقد انفلت عيار التضخم أى المتوسط فى ارتفاع الأسعار فى السوق بكل المقاييس وأصبحت الأسعار ترتفع من يوم إلى آخر وليس بالأسبوع أو الشهر ، و فى حين تعلن الحكومة أن التضخم لا يتجاوز 6 % ، يقول صندوق النقد الدولى أنه بحدود 10% ،و لاشك أننا نلاحظ أن تكاليف المعيشة في تصاعد مستمر، فقد ارتفعت في المناطق الحضرية من عام 84/85 وحتى عام 2000/2001 بنسبة 12.5% سنوياً وفى الريف بنسبة 11.7% سنوياً وهذا يعنى أن السلع والخدمات التى كانت قيمتها 100 جنيه أصبحت قيمتها 657 جنيه في الحضر و583 جنيه في الريف، و إذا كان التضخم وهو متوسط الارتفاع فى الأسعار يصل إلىما بين 6% إلى 10% سنويا، فإن متوسطات الأجور لا ترتفع بنفس النسبة، هذا ما تؤكده الاحصائيات، وهذا معناه إفقار متزايد للعاملين بأجر وانخفاض فى مستوى معيشتهم فى عهد مبارك وحزبه الوطنى الذى لا يرعى مصالح محدودى الدخل كما تدعى أجهزة إعلامه.

الازدواجية! التناقض بين ما ندعيه عن أنفسنا، و بين ما نمارسه فى الواقع

الازدواجية! التناقض بين ما ندعيه عن أنفسنا، و بين ما نمارسه فى الواقع
سامح سعيد عبود
عبر نشاط جماهيرى بمركز للشباب، تعلم جيل أصغر على يد جيل أكبر من ماركسي جيل السبعينات بجانب الماركسية ،العديد من الهوايات الفنية التعبيرية والتشكيلية التى تحولت لدى العديد منهم لوسائل لكسب العيش على نحو احترافى، وخصوصا أنهم كانوا إما طلابا أو متخرجين حديثا، ويعانون البطالة شأن الكثير من أفراد جيلهم ،ولكن ماركسيتهم لم تحول دون أن يتنافسوا فيما بينهم فى عملهم الاحترافى بالضبط كما تعلموا نفس التنافس فى عملهم السياسى، فقد انخرطوا فيما بينهم فى صراعات فردية وشللية استخدمت فيها شتى الوسائل من العنف الرمزى إلى العنف البدنى، و قد مارس بعضهم الاستغلال والقهر على زملاء النضال وغير النضال الآخرين، و لاشك أنه كان يمكن بالطبع لهؤلاء لو كانوا ماركسيين بالفعل أن يحولوا نشاطهم الاحترافى لنشاط جماعى تعاونى يحققوا به التخلص من البطالة لهم وللآخرين كان يمكن أن يضم المئات إليهم، و هذا لم يكن مستحيلا و لا خياليا على أى نحو، ولكن حالت بينه وبينهم الفردية التى لم يتم تخلصهم منها.
و مرة أخرى اتيحت للعديد من الماركسيين من جيل السبعينات وما بعدهم، فرص تلقى تمويل لدعم نشاطهم العام، والذى تركز على إنشاء مؤسسات تهتم بقضايا حقوق الإنسان وغيرها من القضايا سواء فى إطار الأبحاث والنشر أو تقديم الخدمات، وبصرف النظر عن رأينا فى التمويل الذى ليس هو موضوع هذا المقال، إلا أنه لوحظ أن معظم تلك المؤسسات تقوم على أساس النموذج البرجوازى فى إدارة المؤسسة، فهناك ملاك للمؤسسة أو مسيطرين على إدارتها بيروقراطيا هم غالبا من متلقى التمويل على نحو مباشر، و هم يستأثرون باتخاذ القرار فى كل ما يتعلق بالمؤسسة، و هناك عمالة مأجورة سواء من الزملاء السابقين أو غيرهم، هؤلاء الذين لم يتح لهم تلقى التمويل مباشرة، ولكنهم على قوائم انتظار الفرصة لو اتيحت، و هم غالبا لا علاقة لهم بالإدارة التى يتحكم فيها متلقوا التمويل ومديروا تلك المؤسسات، والسؤال هو طالما أن اهتمام هذه المراكز هو العمل العام الذى لا يستهدف الربح فلماذا لم تدار تلك المؤسسات على نحو تعاونى وديمقراطى بين شتى العاملين فيها، متلقوا التمويل ومن يرغب فى التعاون معهم والعمل معهم على السواء، والإجابة هى الرغبة فى السيطرة، و الاستئثار بالمغانم بالتناقض مع الشعارات المعلنة، ونظرا لسيادة تلك الطريقة فى هذا المجال فلم يسلم المنخرطون فى هذا النشاط من آثار التنافس والصراعات القذرة فيما بينهم شأنهم شأن كل البرجوازيين فى السوق الرأسمالى.
ومرة ثالثة قررت مجموعة من رجال الأعمال اليساريين إنشاء شركة للإعلام والدعاية بغرض إنشاء صحيفة يومية يسارية مستقلة، و قد دعيت للمساهمة بها كما دعى غيرى كصغار مساهمين لتوسيع قاعدة المساهمين، ولما كنت و مازلت حسن النية بالناس فقد تحدثت فى الاجتماع الوحيد الذى حضرته للمساهمين المؤسسين بأن علينا أن لا نكتفى بان تكون الصحيفة الصادرة عن الشركة يسارية، بل يجب أن نقدم الشركة نفسها للمجتمع كنموذج مؤسسة يسارية فى قواعد عملها ، و أن كان هذا يحتاج منها بعض التحايل على القانون لنوائم بقدر الإمكان بين الشكل القانونى الإلزامى ذو الطابع الرأسمالى، وبين مضمون فعلى يحدده النظام الداخلى للشركة يقترب من مبادىء التعاون، و من ذلك مثلا إشتراك العاملين فى الإدارة والأرباح، وقد اتفق معى فى الرأى أحد الحاضرين، ولكن ما علمته بعد ذلك وأتمنى أن تكون معلوماتى غير صحيحة، أن كبار المساهمين لن يسمحوا إلا بشكل ومضمون رأسمالى تماما لكى يضمنوا سيطرتهم علي المؤسسة وتوجه الصحيفة السياسى، ومن ثم أحسست بورطة شخصية، فلو كنت أرغب فى الربح من تلك النقود القليلة فلم يكن من الحكمة إطلاقا أن أساهم فى مؤسسة فرص ربحيتها محدودة جدا، وأسهمى المحدودة للغاية بالمقارنة بكبار المساهمين لن تتيح لى التأثير فى إدارة تلك المؤسسة الرأسمالية طالما كانت كمية الأسهم هى التى تحدد قيمة الصوت، و أما فرص الكتابة بالنسبة لى فهى متاحة وبحرية أكبر على الانترنت كما أنها فرصة لا تشترطها المساهمة أصلا إذ يمكن أن أكتب فى الصحيفة دون أن أكون مساهما فى المؤسسة التى تصدر الصحيفة، فلما ساهمت إذن، الإجابة هى يبدو أنى صدقت أننا يمكن أن ننشأ مؤسسة منظمة على نحو يساري، إلا أنه للأسف فإن شرطها الوحيد لم يتوفر بعد وهو وجود يساريين.
و لعدم الإطالة اكتفى بهذا القدر من الأمثلة لنحلل المسألة
* عندما ينشأ تناقض بين أفكارنا، و بين ما نقول، وبين ما نمارسه فعليا فى الواقع، يصبح الواحد منا أكثر من شخص فى نفس الجسد، أحدهما يفكر و الثانى يقول ليس كما يفكر الأول تماما، والثالث يفعل عكس بعض ما يقوله الثانى، و على الضد من بعض ما يؤمن به الأول، و لاشك أنه عندما تتسع المسافات بين الفكر و القول والفعل لدينا، فأننا إما أن نكون انتهازيين أو منافقين أو مجرد ظاهرة صوتية، إيمانهم لا يصدقه العمل، وحيث نقتصر على الكلام الذى لا يوجد ما هو أسهل أو أرخص منه. وحيث نرغب دون ممارسة،و نريد دون فعل.
* فى الحقيقة أننا قد نكون مضطرين لتلك الازدواجية بحكم الظروف الاجتماعية الحاكمة التى تمنعنا أحيانا أن نعيش متسقين مع ذواتنا، ألا أنه عند الخضوع الكامل للواقع دون محاولة تجاوزه ولو قليلا لو اتيحت لنا الفرصة، فأننا نتحول من بشر ذوى إرادة و وعى إلى مجرد أشياء كأشياء الطبيعة الجامدة من حولنا تفتقد إرادتها الحرة لتخضع للظروف الخارجية، ومن ثم لا يمكن لنا الإدعاء بقدرتنا على تغيير هذا الواقع. وبالطبع فليس المطلوب منا هدم المسافات تماما بين الأفكار والأقوال والأفعال أيا كانت الظروف التى تحول دون ذلك، بل المطلوب هو السعى لتضيق هذه المسافات كلما كان هذا ممكنا، وإلا فأننا نكون كمن ينشد المستحيل، ويطالب الناس بما لا يطيقون أو لا يقدرون ، فالناس عبيد الإضطرار، ولكن ذلك لا يعنى عدم إمكانية انتقالهم من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية. إلا أن مراعاة ظروف الواقع سوف تكون "قولة حق يراد بها باطل" لو تم استخدامها لتبرير الازدواجية، وذلك لو كان من الممكن للإنسان أن يتسق مع نفسه بأن يتخلص من تلك الازدواجية.
* أمثال هؤلاء الذين تم ذكرهم فيما سبق ينتقدون كل أشكال العبودية بما فيها عبودية العمل المأجور و لا يحاولون أن يحرروا أنفسهم منها بل أن البعض منهم يعيد إنتاجها والدفاع عنها، وبل يشترى من من يبيع له قواه وجهده، ويبيع لمن يدفع له ثمن قواه وجهده، ينتقدون كل أشكال الاستغلال للآخرين، و لا يمانعون من أن يمارسوا استغلال الآخرين فعليا، يعرفون أن الاغتراب لا يطول فحسب المحرومين من الملكية الخاصة بل يطول وعلى نحو أشرس الملاك أنفسهم، وبرغم ذلك يسعون للتملك والمزيد من التملك، واستخدام هذا التملك فى السيطرة على الآخرين واستغلالهم، ويفقدون حريتهم بسبب هذا النزوع الغريزى للتملك والسلطة والهيمنة على الآخرين. يعرفون أن ثقافة الاستهلاك ما هى سوى أحدى وسائل السيطرة التى تهيمن بها البرجوازية على المجتمع، تلك الثقافة التى تحول كل شىء لسلع ذات طبيعة صنمية، و مع ذلك ينجرفون للتزود منها و الانخراط فى طقوس عبادتها بما يتجاوز حدود استخدامها الضرورى ، مضحين بحريتهم وسعادتهم من أجل مجرد الاستمتاع بحيازتها بما يتجاوز ضرورتها لديهم، يقدسون بجانب الملكية الخاصة اللذة والمنفعة الأنانيتين، وينغمسون فى الاستمتاع على حساب الآخرين، و يمارس الرجال منهم قهرهم الذكورى على النساء، و تمارس النساء منهن قهرهن الأنثوى على الرجال، يعرفون أن العمل البشرى المنتج هو المصدر الوحيد الجدير بالاحترام لكسب العيش ولكن لا مانع لديهم من أن يعيشوا على حساب عمل الآخرين، برغم أنهم يدركون أن تلك الظواهر الاجتماعية مدمرة للبشر وحريتهم وعلاقاتهم الإنسانية السوية.
* يتصور أغلبهم أن الطريق الوحيد للتغيير الاجتماعى من أجل تجاوز الواقع الاجتماعى الراهن، يكون حصرا عبر ثورة سياسية سوف تحدث فى لحظة تاريخية فى المستقبل، وهم يبشرونا أنه عند هذه اللحظة فقط يمكن أن يتم القضاء على تلك الظواهر الإنسانية المخربة للبشر، و هم يطالبون الجميع أن يحذوا حذوهم بانتظار يوم القيامة الثورية، و برغم أن الثورة السياسية قد لا تحدث فى حياة هؤلاء أى أنها لن تحل لهم شخصيا مشاكلهم هم مع هذا الواقع الذى يرفضوه ويعلمون مدى تأثيره الضار عليهم، إلا أنهم يكرسون حياتهم ونشاطهم ليوم الخلاص الشامل، وكأنهم قاب قوسين أو أدنى منه، و قد قرروا أن ما عليهم أثناء هذا الانتظار الطويل ، سوى أن يحيوا نمط الحياة الذى ينتقدوه كاملا، وأن يتكيفوا تماما مع الواقع الذى يرفضوه وينشدوا تغييره، بل و يعيدون انتاج الاستغلال والقهر فى كل علاقتهم الاجتماعية سواء فى العلاقة بين المرأة والرجل ، أو فى العلاقة بين الأباء والأبناء، أو فى علاقات العمل بين الرؤساء والمرؤوسين، أو فى المنظمات السياسية وغير السياسية، أو فى علاقاتهم فيما بينهم وبين معارفهم. فهم يتصورون أن دورهم المنوط بهم هو نقد الواقع الاجتماعى الراهن بالفكر والقول فقط دون محاولة تجاوزه عمليا حتى فى إطار العلاقة فيما بينهم أو بينهم وبين الآخرين.
* يتحدثون عن المساواة والحرية والأخوة، ويعلنون سعيهم لإقامة مجتمعات لاطبقية لكنهم فى نفس الوقت يبنون مؤسساتهم المختلفة على نحو هرمى وطبقى، ينقسم فيه الأعضاء لمن يستأثرون بالأوامر واتخاذ القرار، ومن يكتفون بالطاعة والامتثال، و يناور الجميع من أجل التسلق إلى قمة الهرم فى المؤسسة،والتنافس على المكانة فيها، وهى معركة لا توجد فيها أسلحة غير مشروعة أو محرمة، و لا يجب أن ننتظر من هؤلاء حين يحوزون على السلطة السياسية إلا إعادة إنتاج نفس المجتمع القديم القائم على القهر والاستغلال والطبقية حتى ولو كان القديم يرتدى أقنعة جديدة، و هذا هو ما حدث فعليا، و لا يحتاج لتأكيد.
* و فى الحقيقة أنهم بتلك الازدواجية يفقدون مصداقيتهم فعليا سواء فيما بينهم أو بينهم و بين الآخرين، فكيف يمكنك أن تقنعنى بفكرة وأنت تمارس عكسها، كيف يمكنك أن تقنعنى بنمط حياة آخر، وأنت تعيش عكسه، كيف تبرهن للناس أن ما تبشرهم به من واقع بديل عن الواقع الذى يعانونه ممكن دون أن تبرهن لهم بنموذج عملى ملموس على أنه ممكن و واقعى فى حدود ما يسمح به الواقع. هذا هو منطق معظم الناس البسيط، الذين قد لا يدركون تعقيدات الحياة.و لا يهتمون إلا بايجاد حلول عملية لمشكلاتهم، و لا يلتفتون كثيرا للأفكار والكلام، ولا تستهويهم النظريات.
* تقديم النموذج البديل لهذا النمط العفن من الحياة وصموده ونجاحه عمليا يجيب على سؤال مصيرى فى غاية الأهمية لكل المنخرطين فى العمل السياسى، هل يمكن للبشر أن يدخلوا فى علاقات اجتماعية فيما بينهم كأفراد أحرار متساويين متعاونين دون أن يستغل أحدهم الآخر أو يقهره؟، أم أن هذا مستحيل لأن البشر بحكم مورثاتهم البيولوجية ومقوماتهم النفسية مجرد حيوانات أنانية، ينقسمون فى كل علاقاتهم بحكم طبيعتهم إما لوحوش سادية أو فرائس مازوخية؟... سننقسم فى الإجابة لثلاث اتجاهات البعض سوف يدعون أن النموذج البديل لعلاقات اجتماعية تخلو من القهر والاستغلال ممكن فى كل لحظة ولو على نحو هامشى طليعى ريادى برغم ما هو سائد و مهيمن فى الواقع..... والبعض سيقول بأن هذا ممكن ولكن فى المستقبل بعد انجاز الاستيلاء الثورى على السلطة السياسية التى تحول دون تلك العلاقات واستمرارها ونجاحها، وهذا الحلم المرحل للمستقبل، وحتى يمكن أن يصبح واقعا يتطلب أن ينتظم هؤلاء فيما بينهم على الأقل على أساس قواعد هذا المستقبل المأمول فى الحاضر حتى يبرهنوا لنا أنهم لن يعيدوا إنتاج العلاقات القديمة حين يصلون للسلطة... والبعض سينفون أى إمكانية لوجود تلك العلاقات الاجتماعية بحكم نظرتهم المتشائمة للإنسان الذين يرونه مجرد قرد عارى متوحش لا يمكنه أن يتجاوز حدود غرائزه وعواطفه ودوافعه الحيوانية.
* يتساءل الكثيرين وأنا منهم تساؤلا مشروعا لماذا علينا أن ننتظر التغير الثورى الشامل الذى قد يحدث أو لا يحدث ونحن أحياء، لماذا لا يمكنا أن نعيش متسقين مع ذواتنا بأقصى قدر ممكن، لماذا لا يمكنا أن نقلل المسافة بين ما نؤمن به وبين ما نمارسه فعليا فى حدود ما هو ممكن. سوف يجيب البعض إن هذا مطلب خيالي يسقط من حسابه سلطة الواقع وهيمنته، وسطوته التى لا يمكنا الفكاك منها، و الذى لو تحقق فإنه يعزلنا اجتماعيا، ويبعدنا عن المسألة الجوهرية وهى الاستيلاء على السلطة السياسية، ذلك أن الحياة الاجتماعية بكل شبكات علاقاتها المعقدة والمتعددة المستويات تنحصر لديهم فى السلطة السياسية، فلا شىء يمكن أن يحدث إلا بمعارضتها أو النضال ضدها أو التحالف معها أو الاستيلاء عليها، و لا شىء يمكن أن يتحقق بعيدا عنها، و لذلك لا مجال لدى هؤلاء للتفكير فى أنهم يمكن أن يغيروا بعض هذه العلاقات حتى ولو على نطاق محدود، و أن يبنوا علاقات اجتماعية بمعزل عن السلطة السياسية و بالرغم منها، و هذا هو عين ما تفعله الجماعات الإسلامية المختلفة التى يعيش أفرادها فيما بينهم ويتعاملون مع الآخرين بالاتساق مع ما يؤمنون به، و هم يؤثرون فى المجتمع فى نفس الوقت ويغيرون الكثير من عاداته وتقاليده وقيمه بدرجات متفاوته وعلى مستويات متعددة، ويقتربون من الاستيلاء على السلطة السياسية فى نفس الوقت بأكثر من هؤلاء الذين انعزلوا عن الواقع الحى ليعيشوا فى عالم من الرؤى الخيالية، و أكتفوا بالتعلق فقط بالسلطة السياسية والدوران حولها ، والذين لا يرون فى العالم سواها. و بحكم هذا التصور المبتذل عن التغيير الاجتماعى بالضربة القاضية الفنية عبر الاستيلاء على السلطة السياسية، وانتظارهم لتلك الضربة، يؤبدون الواقع الراهن بالتكيف معه، و من ثم لا يساعدون على تغييره.

الاستثمار فى الدين والغيبيات

الاستثمار فى الدين والغيبيات
سامح سعيد عبود
تنهمر علينا من كل حدب وصوب، و فى صخب لا حد له الكثير من الدراسات والأبحاث والمقالات والمحاضرات والندوات، حول تفسير ظاهرة تصاعد التطرف الدينى و الهوس بالغيبيات عبر العالم، سواء أكان هذا أساسا لحركات سياسية أو محض حركات دينية، وسواء أكانت هذه الديانات إبراهيمية كالإسلام أو دراهمية كالبوذية أو صينية كالكونفوشية أو من الأديان الجديدة كالعلموية، وغيرها من المعتقدات والممارسات الغيبية المختلفة بشكل عام.
و يرى الكثيرون أن هناك أهمية للتصدى لهذه الظاهرة لما تشكله من خطورة على التطور الإنسانى، و لما سوف تسفر عنه مع تصاعدها من انفجار صراعات دينية وطائفية وعقائدية عبر العالم سوف تغرق الكوكب بأسره فى بحور من الدم ، وهو ما نلمسه فعلا فيما يعتبر نوعا من المناوشات التى تسبق الحرب، بدءا من الاحتقان الطائفى بين المسلمين والأقباط فى مصر، و العنف الدموى بين السنة والشيعة فى العراق، و بين المسلمين والهندوس فى الهند، و الحرب الأهلية بين المسيحيين والمسلمين فى البلقان ولبنان.
وهذه الظاهرة لا يمكن القضاء عليها، وحصرها بكتابات التنوير التى لا يقرأها غالبية المخاطبين بها، والتى تظل محصورة دائما فى دوائر ضيقة بعيدا عن الجمهور الواسع، على رغم من كل غزارة هذه الكتابات، و تنوعها ما بين شديدة العمق والموضوعية، و بالغة التفاهة و الذاتية ، لأن هناك العديد من الأسباب التى تفسر تلك الظاهرة، بعيدا عن العلم والجهل.
إلا أن السبب الذى يعنينا هنا فهو أن وراء هذه الظاهرة وتصاعدها، شرائح اجتماعية واسعة فى كل مجتمع تلبى احتياجاتها المادية من طعام وشراب، وغير المادية من مكانة ونفوذ، عبر الاستثمار بالدين والغيبيات، و لاشك أنه من مصلحتها المؤكدة، تنامى الظاهرة وتصاعدها، حفاظا على مصادر دخلها، وسوف تقاوم ما وسعها الجهد كل تلك المحاولات التنويرية التى تسعى للتخفيف من تلك الظاهرة التى صنعت مكانتها الاجتماعية ونفوذها على الناس، ووفرت لها سبل الحياة ومتعها، وهى على استعداد أن تدافع بشراسة سفسطائية عن معتقداتها حتى ولو كانت من شبيه الدائرة مربعة الأضلاع، مادام ذلك يحقق مصالحها. وسوف تجد دائما من البشر من ذوى الاحتياجات النفسية الخاصة، ما يستهلكون كل ما يبيعونه لهم من بضائع حتى ولو كانت من نوع أن الإيمان بأن الدائرة مربعة الأضلاع يدخلك الجنة أو يصل بك للنيرفانا.
أما هؤلاء التنويريون الذين يظنون أن الثورة الفرنسية هى نتاج عصر الاستنارة، وأن كتابات فولتير ومونتسيكيو وروسو هى التى جعلت الفرنسيون يدكون الباستيل فهم لا شك واهمون،لأن هؤلاء لم تقرأ لهم سوى النخبة المثقفة المتعلمة، ولم يتأثر بهم سوى بعض أفراد وجماعات هذه النخبة، أما ما أثار جماهير الفرنسيين فكان هناك فى أمعاء الجوعى منهم لا فى عقول المستنيرين.... ومن هنا فعلينا أن نعرف الجذور الاقتصادية لما نحن بصدده من ظواهر اجتماعية لنعرف كيف نتعامل معها، أما أن نظل نصارع طواحين الهواء فهو ترف لا يليق بمن يرغبون فعلا فى تغيير العالم وانقاذه من الهاوية التى ينجرف إليها.
لدينا فى مصر على سبيل المثال ملايين المواطنين الذين يتربحون من انتشار ظاهرة التطرف الدينى والهوس بالغيبيات فى مصر بدأ من المتسولين الذين يبيعون الأدعية والأذكار والأحاديث فى الجانب المسلم، ومثيلاتها فى الجانب المسيحى، مقابل ما يمنحه لهم المتصدقين، والدجالين بشتى أنواعهم من السحرة والعرافيين والمنجمين والمعالجين الروحانيين الذى يقال أن عددهم بمصر تجاوز عشرات الألوف، ومرورا بالباعة الجائلين الذين يبيعون الكتب والأقراص المدمجة الدينية، فضلا عن شتى الأغراض الدينية كالمسواك والروائح الإسلامية وغيرها هذا فى جانب المسلمين، و الصلبان والأيقونات وغيرها هذا فى جانب المسيحيين، ولا شك أن هؤلاء يبيعون منتجات شارك فى إنتاجها آلاف أخرى يعملون فى المطابع والورش الصغيرة، ثم نأتى للمتاجر والمدارس ودور النشر والجمعيات الدينية التى تبيع أو توفر بضائع وخدمات إسلامية ومسيحية، وهناك الملايين الذين يعيشون على صناديق النذور والتبرعات والصدقات غير ما تقدمه دور العبادة والجمعيات الدينية من معونات وخدمات، قبل أن نمر على ما يزيد عن مئة ألف مسجد وزاوية، يعمل بهم مئات الألوف من الأئمة والمؤذنين والخدم، وألوف من الكنائس التى يعمل بها عشرات الألوف من رجال الأكليروس و غيرهم، و على رأس هؤلاء كبار رجال الدين وعلمائه ودعاته، و أصحاب الفضائيات من إقرأ إلى الحياة، والصحف الدينية من وطنى إلى عقيدتى، والجامعات الدينية كالأزهر وسائر المؤسسات الدينية المختلفة ومن يسيطرون عليها ويعملون بها، فهذا النشاط الاقتصادى الضخم يعمل فيه مئات الألوف من الرأسماليين و البيروقراطيين و العاملين بأجر، و هم يعولون بدورهم الملايين من الأفراد.
هناك أكثر من مليون مصرى مسلم من بين عشرة مليون مسلم يتوجهون سنويا لأداء مناسك الحج والعمرة ، حتى ولو كان بعضهم كان قد كرر ذلك الفعل قبل ذلك عشرات المرات، رغم أن العمرة سنة ليست واجبة ، والحج فرض مطلوب مرة واحدة فى العمر ، و هؤلاء مصدر المليارات من الدولارات التى تصب فى جيوب أصحاب جمعيات الحج والعمرة ، و أصحاب شركات السياحة و النقل البرى والبحرى والجوى ، وأصحاب الفنادق والمتاجر السعوديين، و برغم أن من يزورون السعودية سنويا لأداء مناسك الحج والعمرة يصبون فى الاقتصاد السعودى المليارات من الدولارات على حساب خسارة الاقتصاد فى بلادهم، فهذا ليس السبب الوحيد الذى أنفقت من أجله المملكة السعودية أكثر من ثمانين مليار دولار أمريكى على الدعوة الإسلامية عبر العالم حتى الآن منذ ظهور النفط بها، فهناك من تلك النفقات ما هو متعلق بزيادة النفوذ السعودى إقليميا وعالميا، إلا أن الجانب الأخطر و الأهم من هذا الانفاق كان جزءا من استرتيجية الرأسمالية العالمية فى حربها الباردة مع البيروقراطية السوفيتية وحلفائها الذين ربطوا أنفسهم بالإلحاد فخسرو الملايين من بسطاء البشر.
إلا أن هذه الاستراتيجية لم تنته بنهاية الحرب الباردة وانهيار البيروقراطية السوفيتية وحلفاءها، فمازال التطرف الدينى و الهوس بالغيبيات مطلوبا لدى صناع تلك الاسترتيجية ومنفذيها لأسباب عدة.
لأنه وسيلة فعالة لتفتيت طبقات العاملين بأجر والمهمشين والمنتجين الفرديين على أسس دينية وطائفية منعا لتوحدهم فى مواجهة الرأسمالية والبيروقراطية فى العالم اللتان تقهران وتستغلان تلك الطبقات.
لأنه يشغلهم عن الصراع الحقيقى بينهم وبين الرأسماليين والبيروقراطيين، بصراعات أخرى لن تحقق مصالحهم فى التحرر و لن يكونوا سوى وقودها وضحاياها، ليستفيد فقط الرأسماليين والبيروقراطيين وأمراء الحرب والسياسة.
لأن الرأسمالية فى العالم فى مسيس الحاجة لإشعال الحروب والصراعات الدينية والطائفية، لترويج السلاح وللتخلص من فائض السكان الذى لا تحتاجه فى تلك الحروب.
لأنه يخدر المقهورين والمستغلين و يجعلهم أكثر انصياعا لمن يقهرونهم ويستغلونهم.
مع ملاحظة أن ما يسمى الحرب ضد الإرهاب يشكل جزءا من تلك الاستراتيجية، يعمل فيها بوش وبن لادن كرفاق سلاح كما كانوا فى السابق عندما حاربوا السوفيت وحلفائهم فى أفغانستان، و يلعب كل منهما دوره المرسوم فى تلك الاسترتيجية، من موقعين متناقضين ظاهريا، وذلك للمراقب الساذج، والذى لا يرى أنهما يصبان معا فى اتجاه تحقيق نفس الهدف
ظاهرة تصاعد التطرف الدينى والهوس بالغيبيات التى ظهرت فى النصف الأخير من القرن العشرين، تضرب بجذورها إذن فى الاقتصاد،لا فى الوعى الاجتماعى، و هى تعبر عن مصالح منتجين و باعة لسلع وخدمات، يخلقون لدى جمهورهم من المستهلكين احتياجات غير حقيقية لسلعهم وخدماتهم حتى يستمر اقتصادهم فى الانتعاش، ومن ثم فهم حريصين على الابقاء على الزبائن الذين يستهلكون بضائعهم وخدماتهم، وتوسيع أسواقهم، والقضاء على منافسيهم كلما أمكن، و هى ظاهرة لصيقة بكل المجتمعات البشرية، تضيق أحيانا حتى تصبح هامشية جدا كما هو الآن فى مجتمعات كالسويد وألمانيا، أو تتسع جدا حتى تكاد تبلع المجتمع بأسره كما هو حادث لدينا فى الشرق الأوسط والعالم العربى ، فدائما ما كان المجتمع يخلق فائضا من الأفراد الذين يعيشون عالة على المنتجين الفعليين للثروة، وكان هؤلاء ينتزعون الفائض من الإنتاج الاجتماعى بطرق مختلفة ، وأحد هذه الطرق هو استثمار الدين بدءا من السحر والطوطمية إلى الأديان الأكثر تطورا.
إلا أن الجديد فى المسألة، أن نمط الإنتاج السائد فى العالم أصبح يخلق فائضا هائلا من السكان، طردته التكنولوجيا من المصانع والمزارع والمعامل، فلم يجد بعضهم لأنفسهم فرصا للكسب سوى بالاستثمار فى الدين والمعتقدات الغيبية، بشتى الطرق، التى ذكرنا بعضها ولم نحصرها حرصا على الاختصار، والتى لا تحقق لهم فقط احتياجاتهم المعيشية على حساب منتجى الثروة، بل أنها تحقق لهم مكانة اجتماعية ونفوذ لن توفره لهم مهن أخرى.
وإذا كانت جذور الظاهرة مغروسة بعمق فى الاقتصاد فإن القضاء عليها ومحاصرتها لن يكون إلا من تلك الجذور، لا العبث مع الثمار.

نحو نواة اتحاد عمالى حر و مستقل؟

نحو نواة اتحاد عمالى حر و مستقل؟
سامح سعيد عبود
* القضية المركزية لدى كل يسارى مصرى حقيقى الآن، هى كيف تنتظم الطبقة العاملة المصرية على نحو مستقل تماما عن كل من الدولة و رأسالمال، و السؤال هو كيف يمكن أن نصل لنواة اتحاد عمالى مصرى حر ومستقل بديلا عن الاتحاد الرسمى الوحيد، وهذه بضع ملاحظات منهجية و اقتراحات عملية أرى أنها ضرورية من أجل تحقيق الهدف الذى لا نختلف حوله.
ملاحظات منهجية
* إن انتظام الطبقة العاملة المصرية على نحو مستقل تماما عن كل من الدولة و رأسالمال مشروط بامتلاك غالبية أفرادها الوعى بكونها طبقة ذات مصالح مشتركة وهوية متميزة ومنفصلة فى مواجهة كل من الدولة والبرجوازية فى نفس الوقت . ولاشك أن ما يمنح الطبقة العاملة قوتها المستقلة والحرة هو انتظامها على أساس الصراع الطبقى ضد كل من أرباب العمل والدولة لا على أساس التعاون الطبقى مع أى طرف منهما، وإدراك غالبية أفرادها أن الصراع الطبقى هو الصراع الجوهرى بالنسبة لها، وأنه صراع وجود مصيرى لا يجب أن يتقدمه أو يعلوه أى صراع آخر، وذلك لتلبية لمصالحها القريبة أو البعيدة على السواء.
* منذ أكثر من خمسين عاما نجحت البرجوازية المصرية الحاكمة فى ترويض الطبقة العاملة المصرية، وتقليم أظافرها وخلع أنيابها، بالقمع الدموى مرات، وإلقاء بعض الفتات إليها مرات أخرى، وتضليلها وتشويه وعيها الطبقى دوما، و تم وضع الكتلة الرئيسية منها فى قفص الوظيفة الحكومية مما شوه طبيعتها و زيف وعيها الطبقى، وقد آن الأوان لكى تسترد الطبقة العاملة وعيها الطبقى وتنظيماتها الحرة المستقلة، فى ظل ظروف لاشك أنها بالغة الصعوبة،مستفيدة من تجربتها التاريخية فى أن لا يتم استخدامها مرة أخرى بطمس الصراع الطبقى أو تشويهه أو تقييده أو تأجيله لصالح أى صراع آخر قومى أو دينى أو ثقافى أو عرقى.
* أن النجاح فى هذه المعركة المصيرية يتطلب أن تتركز جهود اليسار العمالى من أجلها دون تشتيت هذه الجهود فى معارك أخرى صغرت أم كبرت ، كما يحدث عادة حيث نجد بضع عشرات من المناضلين النشطاء مبعثرين فى العشرات من الأنشطة واللجان، مصرين على التواجد فى نفس الوقت فى كل مكان، والاشتباك فى كل حديث، وإطلاق البيانات فى كل قضية، والاشتراك فى كل مظاهرة و فى كل عمل احتجاجى، مهدرين طاقتهم بلا طائل، فلا هم قادرين على متابعة التطورات النظرية، ولا هم قادرين على رؤية الواقع كما هو من كثرة ما يحدث حولهم من ضجيج وجلبة يساهمون فى إحداثها هم أنفسهم، وينجرون لمعارك جانبية وثانوية بلا مبرر، والنتيجة أنه لن يمكنهم بأى حال من الأحوال إحداث أى تراكم أولى للقوة، تماما كما يعجز من يبعثر نقوده عن تكوين تراكم أولى لرأسالمال، أما ما يمكن أن يؤدى للتراكم الأولى للقوة فهو الجهد المركز والمكثف والدءوب فى الاتجاه الصحيح، وهو فى حالتنا هذه أن تملك الطبقة العاملة وعيها الطبقى ومنظماتها المستقلة والحرة ، ومن ثم فعلى من يسعون لذلك أن يرشدوا بذل جهودهم بتركيزها فى هذا الطريق.
* أن أهم العوامل التى تعرقل عمل اللجنة التنسيقية هو أنها تضم عناصر ذات خلفيات ورؤى أيديولوجية وسياسية مختلفة ومتناقضة، ليس فقط لأن معظمهم جاءوا من أصول ماركسية وقومية وليبرالية وإسلامية، بل لأنها تضم فى صفوفها من يكافحون من أجل دولة تدخلية تحقق بعض المصالح الاجتماعية والاقتصادية للعمال بطريق المنح والمنع، وهناك من يناضلون من أجل تصفية تلك الدولة التدخلية ذاتها وتحجميها لتتحقق مصالح العمال الاجتماعية والاقتصادية عبر منظمات مدنية عمالية تتميز بالحرية و الاستقلال عن كل من الدولة و رأسالمال، ولا شك أن هذه العناصر المختلفة جوهريا فيما بينها تحاول أن تدفع باللجنة وفق هذه الرؤى المختلفة مما يؤدى إلى التنافر بين أعضاءها، ومن ثم فأنه من المهم أن نحدد بوضوح نقاط الاختلاف النظرية والعملية، و أن نعلنها للكافة، وأن ننظم حوار جاد حولها، فضلا عن الاتفاق المبدأى بأن لا يتم الزج باسم اللجنة وراء موقف ما يكون محل خلاف بين سائر أعضاءها الذين لا يتفقون على موقف واحد بالضرورة فى معظم القضايا النظرية والعملية.
* تواجه الطبقة العاملة ظروف جديدة منها التزايد المضطرد فى حجم العمالة غير المنظمة و غير المستقرة فى نفس وقت التقلص المضطرد فى حجم العمالة المنظمة والمستقرة، والاتجاه نحو التقلص المضطرد فى كثافة العمالة فى المنشئات،مما يستدعى تنظيم العمال على نحو مختلف،فإذا كان الوضع السابق تلائمه نقابة العاملين بالمنشأة على أساس أنها الوحدة النقابية الأساسية ،فإن الوضع الجديد قد تناسبه أشكال أخرى من التنظيم النقابى تقوم على أساس جغرافى أو قطاعى أو مهنى.
اقتراحات عملية
* أن كثير من أعمال الاحتجاج العمالية العفوية غير المنظمة تحدث فى كثير من مواقع العمل والتى لا يدرى بها أحد مما يحرم ممارسيها من فرص التضامن معهم من العمال الآخرين، ويحرمهم من اكتساب خبرة من هم أكثر خبرة، و إمكانية التطور لأشكال تنظيمية دائمة، كما أنه مما لاشك فيه أن هناك أشكال تنظيمية جنينية عفوية تتكون فى كثير من أماكن العمل ، وهى أشكال بسيطة لا يدرى بها أحد مما يحرم المنضمين إليها أيضا من التضامن والخبرة والتطور، ومن ثم أرى أننا فى أمس الحاجة لعملية رصد لتلك الأعمال الاحتجاجية والأشكال التنظيمية الجنينية، ومحاولة الارتباط بها بالتضامن معها وتوفير الخبرة لها والمساعدة على تطويرها. وبعيدا عن العفوية والعشوائية فى تلك العملية الحيوية، فمن الضرورى أن تتم ممارسة عملية الرصد عبر مسح بحثى ميدانى مخطط و منظم لكل أماكن العمل، والإعلان عن هذا المرصد ودوره بكل أشكال الإعلان المتاحة بين العاملين بأجر، وضم القائمين بأعمال الاحتجاج ومنظماتهم الجنينية لعضوية اللجنة عبر مندوبين لهم.
* عند توافر عدد كاف من العضوية فى كل موقع عمل كبير أو منطقة أو حى عمالى يتم تشكيل فرع للجنة يمارس نفس أنشطتها، على أن يكون تنظيمها قائم على أساس النشاط والانضمام الطوعى للأعضاء، و تفويض ذوى الاختصاص والخبرة لأداء المهام العملية التى يكلفوا بها، وتقسيم العمل بين الأعضاء وفق المهام العملية المطروحة فضلا عن توافر الخبرة والإمكانية، و المحاسبة الجماعية والديمقراطية على الأداء، والديمقراطية المباشرة فى اتخاذ القرارات، التعليم المستمر وتبادل الخبرات والمعارف، مقاومة كل الأشكال والممارسات والميول العصبوية والشللية والاستبدادية والبيروقراطية، يمكن لهذه اللجان بعد فترة من الممارسة أن تتحول للجان نقابية عمالية تكون أساس للاتحاد العمالى الديمقراطى الحر والمستقل.
* إعداد مجموعة وثائق تشكل الإطار الدعائى والنظرى للاتحاد العمالى ، يتم نشرها على أوسع نطاق وبكل طرق النشر الممكنة بين العاملين بأجر،على أن تغطى عدة مجالات ومحاور هى:
أولا رؤية نظرية عمالية مبسطة توضح العناصر الأساسية فى الوعى الطبقى العمالى النقابى والسياسى .
ثانيا برنامج مطلبى عمالى يتضمن المطالب الإصلاحية السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للطبقة العاملة فى إطار المجتمع البرجوازى القائم.
ثالثا الخبرات التنظيمية المختلفة فى مجال العمل النقابى والسياسى.
رابعا تاريخ نضال الطبقة العاملة النقابى والسياسى فى مصر والعالم.
طرح هذه الوثائق للنقاش العام بين المهتمين عبر سلاسل من الندوات وحلقات النقاش، وتنظيم حلقات لدراستها لأعضاء اللجنة، والاستفادة من إمكانيات الانترنت بما تتيحه من فرص إنشاء مواقع مجانية توضع فيها تلك الأعمال والوثائق ليتاح الإطلاع الواسع عليها ، فضلا عن تنظيم مجموعات للحوار لمناقشتها مع ملاحظة أن ما ينشر على الانترنت يمكن إعادة نشره بالوسائل المطبوعة لمن لا يتاح لهم استخدام الانترنت التى فى سبيلها أن تكون الوسيلة الإعلامية و الثقافية الأكثر ديمقراطية وشعبية وانتشارا خلال السنوات القليلة القادمة مع بعض التطور التكنولوجى و ليست وسيلة للمثقفين وميسورى الحال فحسب بل للجماهير ومحدودى الدخل أيضا.
* غالبا ما تبدأ الحركات الاجتماعية والسياسية الكبرى ومنها حركة الطبقة العاملة نفسها من معارك لتحقيق مطلب معين، فالحركة الميثاقية فى بريطانيا فى بداية الثورة الصناعية تركزت فى مطلب تحديد عدد ساعات العمل بثمانى ساعات، لتتحول لأعرق حركة عمالية نقابية فى العالم، ومن ثم فإن ما ينقص اللجنة أو أى لجنة أخرى لتصبح نواة لاتحاد عمالى حر ومستقل أن تتبنى مطلب واحد محدد أو بضع مطالب محددة تتركز جهودها من أجل تحقيقه شرط أن تكون مطالبا تلبى احتياجات الغالبية الساحقة من العمالة المأجورة.
* تنظيم العمال سياسيا للنضال من أجل هذه الأهداف تحديدا. و لا معنى لطرح أى أهداف أو أى مهام نضالية أخرى ، إلا بعد إنجاز هذه الأهداف. فيمكنهم عندئذ إنجاز أهداف أخرى.باعتبار أن التنظيم السياسى ليس قاصرا على شكل الحزب فأى مجموعة بشرية منظمة تستهدف تغيير سياسى ما هى مجموعة سياسية،مثل مجموعات الضغط المختلفة.
مطالب مقترحة
* تحرير النقابات و الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية والجمعيات التعاونية و وسائر منظمات الطبقة العاملة من الارتباط بكل من الدولة و رأسالمال ، وذلك بإسقاط كافة القوانين والقيود التى تعيق حرية تكوين وعمل النقابات ومؤسسات المجتمع المدنى المختلفة، و بإسقاط حق الدولة تماما فى وضع القواعد والقوانين المنظمة لتلك المنظمات ليصبح حقا مطلقا لأعضائها، وبالطبع يقع على عاتق العمال أنفسهم مهمة إسقاط تلك القوانين التى تحوى الكثير من المواد غير الدستورية والمتعارضة مع مبادئ واتفاقيات حقوق الإنسان، سواء عبر الطرق القانونية للطعن بعدم دستورية تلك القوانين و موادها ، أو عبر المؤسسة التشريعية ممثلة فى مجلس الشعب أو عبر ضغوط العمال الفعالة للتأثير على صانعى القرار لتعود لهم أسلحتهم النضالية بعد أن تم انتزاعها منهم .
* لأن الحقوق العمالية تتحقق وفق عقد إذعان بين أرباب العمل والعاملين بأجر فى كل القطاعات المنظمة سواء الخاصة أو العامة أو الحكومية حيث تغيب حرية المساومة الجماعية بين طرفى علاقة العمل،مما يجعل غالبية العاملين بأجر لدينا فى وضع أقرب للقنانة بما تعنيه من العمل الجبرى، فأن المطلب الأهم للتخلص من هذا الوضع هو تنظيم حملة من أجل إقرار مبدأ " تحديد جميع حقوق العاملين بأجر بما فيها الأجور النقدية والعينية و كافة شروط وظروف العمل على أساس المساومة الجماعية بين العاملين بأجر و ممثليهم من جهة و بين الجهات التى يعملون لحسابها فى كافة القطاعات الحكومية وغير الحكومية من جهة أخرى".
* الاستقلال الكامل لكل مؤسسات وصناديق التأمين الاجتماعي عن أجهزة الدولة ما يضمن إدارة المؤمن عليهم لتلك الصناديق ديمقراطيا.
وختاما أرجوا أن أكون ساهمت مساهمة مفيدة ، ولنفتح حوارا بناءا ومثمرا من أجل هذا الهدف.

لماذا مالكولم إكس؟ وليس مارتن لوثر كنج!

لماذا مالكولم إكس؟ وليس مارتن لوثر كنج!
سامح سعيد عبود

لم أكن أعرف الكثير عن مالكولم إكس حتى شاهدت فيلما يحكى قصة حياته،مما دفعنى للبحث عن المزيد من المعلومات عنه،وخصوصا أنى لاحظت أنه أصبح إيقونة قطاعات من اليسار الجذرى فى العالم، ومنها منظمة الفهود السود الأمريكية، كما ورد عنه فى موسوعة الانكارتا، حتى أن موقع أرشيف الماركسيين على الأنترنت يضع له أرشيفا فرعيا باعتباره أحد الشخصيات السياسية لحركة تحرر الأمريكيين الأفارقة ذات العلاقة بالتراث الماركسى، وفى نفس الوقت تجاهل نفس الموقع شخص آخر معاصر له هو مارتن لوثر كنج الذى يعتبر القيادة الأهم والأبرز لتلك الحركة، وليس ذلك فحسب بل أننا نجد تمجيدا لمالكولم إكس بين صفوف اليسار العربى ، مع وجود نفس التجاهل لمارتن لوثر كنج، وعند المقارنة بين الشخصيتين سوف يشى لنا الاهتمام بالأول وتمجيده، وتجاهل الثانى، بالآلية التى يفكر بها بعض اليساريين العرب ،وتعرى لنا حقيقتهم.
مالكولكم إكس ولد عام 1925 ، أبيه قس أمريكى أفريقى احد أعضاء جماعة قومية كانت تدعو لعودة الأمريكيين الأفارقة لأفريقيا ،احرق بيته ، وهدد، وفي النهايه قتل دهساً من العنصريين البيض
خرج مالكولم من المدرسة في سنّ الخامسة عشر،ليصبح ذو علاقة بعالم الجريمة فى بوسطن (حتى 1942). حيث ادين بالسرقة في سن العشرين، وبقى في السجن حتى عمر سبعة وعشرون .أثناء سجنه إنضمّ إلى جماعة أمّة الإسلام ، وهى جماعة تخلط بين بعض التعاليم والعقائد الإسلامية والعديد من الخرافات والممارسات التى لا علاقة لها بالإسلام، و التى تؤسس لعنصرية زنجية مضادة لعنصرية البيض، وتسعى لهدف سياسى هو انفصال الأمريكيين الأفارقة بوطن قومى لهم فى الولايات المتحدة الأمريكية،على طراز الحركة الصهيونية فى مواجهة معاداة السامية الأوربية. و فى سجنه درس مالكولم إكس تعليمات أليجه محمد مؤسس الجماعة. وبعد إطلاق سراحه في 1952، ذهب إلي ديترويت ، و إنضمّ إلى النشاطات اليومية لجماعة أمة الإسلام، وبناء على أوامر من قبل أليجه محمد قام ببناء فروع للجماعة في كافة أنحاء امريكا ، مما جعله شخصية عامة مهمة. وقد قوبل بالمحطات التلفزيونية الرئيسية في البلاد وبالمجلات، وتكلّم في كافة أنحاء البلاد في الجامعات المختلفة والمنتديات الأخرى، فلم يكد يمر يوما مالم يلقي فيه خطابا او يلتقي برجالات الاعلام والصحافيين، وكان فى هذه الفترة يصف البيض بالشياطين، ويدعو للعنف المسلح ضدهم، ويسخر من حركة العصيان المدنى بقيادة مارتن لوثر كنج. و قد أثبت قدرات عالية على التحريض والتنظيم. و لكن لم يثبت أبدا أنه مفكر أو منظر ذو قيمة.
وفي عام 1959 سافر مالكولم إكس إلى السودان ونيجيريا، والتقي عبدالناصر في مصر، وبعد عودته لامريكا اتصل بفيدل كاسترو.
في مارس 1964 فضح مالكولم إكس أليجه محمد ، وممارساته غير الشريفة، وبالتالي استعدى عليه كثير من أصدقائه من أعضاء أمة الإسلام من أمثال محمد علي كلاى ، بعد ذلك ترك مالكولم جماعة أمّة الإسلام بهدف تأسيس منظمه خاصه به باسم مسجد نيويورك. وذهب للحج وزيارة العديد من البلاد الإسلامية، ومقابلة العديد من رجال الدين الإسلامى فى عام 1964، ليتحول بعد ذلك إلى الإسلام السنى، ويصبح داعية له وسط الأمريكيين الأفارقة، وليتخلى بناء على إسلامه السنى عن عنصريته السابقة، وأخذ فى الشهور الأخيرة من حياته يقترب أكثر من حركة الحقوق المدنية، داعيا لتأسيس اتحاد الأمريكيين الأفارقة، وبالتالى اصبح غير مرغوبا فيه لا من قبل الحكومه الفيدراليه ولا من جماعة أمة الاسلام ، الى ان جاء يوم 12 فبراير 1965، و كان على اهبه الاستعداد لإلقاء خطاب في مسرح بنيويورك ، حين ذاك أصيب من قبل ثلاثة رجال سود بعدة طلقات ناريه صرعته طريحا على خشبة المسرح، وأشارت أصابع الاتهام لإليجا محمد وجماعته.
ولد مارتن لوثر كنج يوم 15 يناير 1929 إبنا لقس، ودخل كينج المدارس العامة في سنة 1935، ثم التحق بمدرسة "بوكر واشنطن"، وكان تفوقه على أقرانه سببا لالتحاقه بالجامعة في آخر عام 1942، حيث درس بكلية مورهاوس وفي سنة 1947 تم تعيينه كمساعد في كنيسة أبيه، في سبتمبر سنة 1954 قدم مارتن وزوجته إلى مدينة مونتجمري التي كانت ميدانا لنضال مارتن.
كانت الأوضاع التى يعانيها الأمريكيين الأفارقة هناك تنذر برد فعل عنيف يمكن أن يفجر أنهار الدماء لولا مارتن لوثر كينج الذى اختط للمقاومة طريقا آخر غير الدم. فنادى بمقاومة تعتمد مبدأ "اللا عنف" أو "المقاومة السلمية".وكانت حملته إيذانا ببدء حقبة جديدة في حياة الأمريكيين الأفارقة.
وبعد تولي "كيندي" منصب الرئاسة ضاعف كينج جهوده المتواصلة لإقحام الحكومة الاتحادية في الأزمة العنصرية المتفاقمة، إلا أن كيندي استطاع أن يتفادى هجمات كينج الذي كان لا يتوقف عن وصف الحكومة بالعجز عن حسم الأمور الحيوية. ، وحرر كنج خطابا أصبح فيما بعد من المراجع الهامة لحركة الحقوق المدنية، وقد أوضح فيه فلسفته التي تقوم على النضال في إطار من عدم العنف. و واصل قيادته لحركة العصيان المدنى المطالبة بالحقوق المدنية للأمريكيين الأفارقة التى لم تقتصر عضويتها عليهم بل ضمت الكثير من البيض والأقليات الأخرى، ثم حصل في عام 1964 على جائزة نوبل للسلام لدعوته إلى اللاعنف، فكان بذلك أصغر رجل في التاريخ يفوز بهذه الجائزة ولم يتوقف مارتن لوثر عن مناقشة قضايا الفقر للزنوج، وعمل على الدعوة إلى إعادة توزيع الدخول بشكل عادل بين كافة المواطنين، وكان هذا هو الأفق اليسارى لحركة الحقوق المدنية تحت قيادته، وفي 14 فبراير 1968 اغتيل مارتن لوثر كينج ببندقية أحد العنصريين البيض ويدعى (جيمس إرل راي) وكان قبل موته يتأهب لقيادة مسيرة في ممفيس لتأييد إضراب (جامعي النفايات) الذي كاد يتفجر في مائة مدينة أمريكية. وقد حكم على القاتل بالسجن 99 عاما، غير أن التحقيقات أشارت إلى احتمال كون الاغتيال كان مدبرا، وأن جيمس كان مجرد أداة! وقد حققت حركة الحقوق المدنية انتصارها بفضل أفكار مارتن لوثر كينج القائمة على اللاعنف. وليس بالعنف المسلح الذى بشر به مالكولم إكس، ومارسته فعليا منظمة الفهود السود اليسارية.
بعد أن عرفنا ملامح الشخصيتين باختصار شديد، يمكنا أن نرصد الملامح المتشابهة بينهما، من حيث قتلهما وخلفيتهما الدينية،إلا أن الفروق بينهما كبيرة، فالأول كان فيما عدا الشهور العشر الأخيرة قبل مصرعه، عنصريا حتى النخاع، وداعيا للعنف ومبررا له، وكان مجرد بوق جذاب ومنظم فعال لحركة دينية مشبوهة كانت تهدف لانقسام المضطهدين من الأمريكيين الأفارقة فى مواجهة مضطهديهم على أساس دينى عنصرى، وكانت تهدف لانقسام الطبقة العاملة الأمريكية بكل ألوانها العرقية على أساس عرقى فى مواجهة مستغليها...أما الثانى وبرغم أنه رجل دين، فلم يؤسس حركته على أساس دينى، وحركته وحدت الأمريكيين الأفارقة ومناصريهم وحلفائهم فى مواجهة مضطهديهم العنصريين،حتى نجحوا فى تحقيق المساواة المدنية والسياسية، مستندين على رؤية إنسانية تليق حقا بقيم اليسار على عكس الرؤية الدموية والعنصرية للأول برغم توبته عنها قبل مصرعه.
يتعاطف اليساريون من الصنف الشعبوى مع الدمويين، وكل من يرفع رايات الهويات العرقية والقومية والدينية، ويعتبرهم دون سواهم أبطالا ورموزا ومناضلين من أجل الحرية والمساواة،وينظرون بعين الشك وعدم التقدير لأنصار اللاعنف ومن ينطلقون من رؤى طبقية وإنسانية، فى هذا إجابة للسؤال المعنون به المقال.

الحرية لا تعنى سوى الحرية الفردية

الحرية لا تعنى سوى الحرية الفردية
سامح سعيد عبود
حالت العديد من الظروف فى الفترة الأخيرة دون أن اشتبك فى وقتها مع العديد من القضايا الهامة التى أثيرت فى مجموعة التقدم الحوارية خلال الشهرين الماضيين، ومنها قضية البهائين ،ومشروع اتحاد اليسار، وتداعيات المناقشات حوله فيما يتعلق بقضية التحرر الوطنى، و اليسار الليبرالى واليسار القومى/الإسلامى، وقد رأيت أن تحديد معنى الحرية نظريا ربما يكون هو نوع من المشاركة التى تأخرت منى فى كل تلك الحوارات.
أعتقد أن لا معنى لليسارية دون الانحياز للحرية الفردية التى تعنى حصريا المعنى الوحيد الصحيح للحرية كما سيجرى البرهنه عليه فى هذا المقال، و هذا الانحياز للحرية الفردية هو ما يميز بين اليسار الحقيقى المتمسك بهذا الانحياز وبين اليسار الزائف غير الملتزم بهذ الانحياز، و جدير بالذكر أن الفهم اليسارى للحرية الفردية يختلف عن الفهم البرجوازى المحدود و الشكلى للحرية الفردية. كما أنه من نافل القول أنه لا توجد حرية مطلقة لأن الحرية تنتهى دائما عندما تبدأ حريات الآخرين.
الحرية شأنها شأن الكثير من الكلمات الملتبسة التى تختلف معانيها عند الناس، إلا أن الحرية فى النهاية ومهما اختلفت معانيها و استخدامتها ، فإنها مرتبطة ارتباطا وثيقا أولا بالقدرة على اتخاذ قرارا بعينه من بين قرارت متعددة ، و ثانيا القدرة على إتيان فعل ما أو الامتناع عنه ، و لأن اتخاذ قرارا ما بممارسة فعل أو الامتناع عنه، يعنى التمتع بدرجة ما من الوعى الذى يسمح بذلك الاختيار، و بدرجة من القدرة على الفعل بناء على هذا الاختيار، فإن الحرية هى صفة محصورة تحديدا فى الكائنات التى تمتلك كل من الوعى والقدرة على الفعل.
وهذه الكائنات التى يمكن فعليا أن تتصف بالحرية من عدمها، والتى يمكن أن تتمتع بالحرية أو تحرم منها، تنقسم إلى الأفراد، و إلى المؤسسات المختلفة المكونة فى النهاية من بعض هؤلاء الأفراد، و المؤسسات تشمل الدول و الجمعيات و النقابات والأحزاب والشركات و المنظمات والهيئات وغيرها من المؤسسات المختلفة ، وتلك المؤسسات مثلها مثل الأفراد، كائنات واقعية ملموسة يمكن أن ندركها لأنه يمكن لها اتخاذ قرارت ما تؤثر فى الواقع الاجتماعى ، و أن تمارس أفعال معينة أو أن تمتنع عن أفعال محددة، تنعكس عليها وعلى غيرها من الشخصيات الأخرى فردية كانت أو مؤسساتية. ويمكن لها أن تتمتع بدرجة من الحرية، و أن تقيد حريتها فى الفعل و اتخاذ القرار.
والأفراد والمؤسسات التى يمكن أن تتمتع فعليا بالحرية أو يمكن أن تحرم منها و يمكن أن تقيد حريتها تختلف عن نوع آخر من الكائنات الخيالية التى لا توجد إلا فى عقول البشر كمجرد أفكار مثالية مجردة لا يمكن لنا أن ندركها ، فهى محض تصورات مفترضة كالجن والعفاريت لا أثر لها فى الواقع الاجتماعى، و من ثم فهى لا يمكن أن تتمتع بالحرية أو أن تحرم من تلك الحرية إلا فى أذهان مبدعيها من البشر شأنها شأن كل الأوهام والأساطير والخرافات، ذلك لأنها كائنات لا تتمتع لا بالإرادة ولا بالوعى الضروريان للتمتع بالحرية ، و من بين تلك الكائنات المثالية و أشهرها فى الاستخدام يمكن أن نذكر الوطن والجماهير والشعب و الأمة والطائفة وغيرها، فالحديث عنها باعتبارها كائنات واقعية يمكن أن تتمتع بالحرية أو أن تحرم من تلك الحرية، هو مجرد سقط حديث حتى ولو كان مثل هذا الحديث هو جوهر كتابات فيلسوف بارز مثل فختة صاحب كتاب "رسائل إلى الأمة الألمانية"، و هو مجرد لغو فارغ برغم أنه شائع الاستخدام للغاية و إلى حد الملل فى الخطابات السياسية الإيديولوجية، والكتابات الأكاديمية والتعليمية، و المواد الإعلامية المسموعة والمقروءة والمرئية، و الأعمال الفنية و الأدبية وعلى ألسنة العامة من الناس ، وهى أفكار برغم من لاعقلانيتها وتهافتها فهى الأشد تأثيرا فى الناس و وعيهم و أفعالهم. إلا أنه و برغم تأثيرها الطاغى فهى محض أساطير يصنعها الطامعين فى التسلط على الناس لتبرير تسلطهم لا غير، و ينخدع بها من ينخدع من هؤلاء الناس لتفسير خضوعهم لذلك التسلط، ويرددها البعض دون أن يعوا حقيقة ما يقولون، إلا أن كل هذا الشيوع الساحق لتلك الأفكار فى أذهان الناس و على ألسنتهم وفى كتاباتهم، ومما بلغت أقدارهم ومكاناتهم و حذلقتهم لا يعطي تلك الكائنات أى قدر من الحقيقة الواقعية، و ذلك ببساطة لأن الأوطان والشعوب والجماهير والقوميات والأمم والطوائف و غيرها من تلك الكائنات الهلامية لا يمكن لها أن تختار قرارا بعينه من بين العديد من القرارت التى يمكن أن تطرح عليها، ولا يمكن لها أن تمارس فعل محدد أو تمتنع عنه، بالانفصال عن إرادة و وعى الأشخاص المجبرين على الانتماء إليها غالبا، ولا الأشخاص الذين يدعون تمثيلها، و سواء كان هؤلاء أفراد، أو مؤسسات فأن لكل منهم كل على حدى إرادة و وعى ومصالح مختلفة عن غيرهم من الأفراد والمؤسسات، و قد يتوحد هؤلاء الأشخاص وفق مصالحهم المشتركة أو يتصارعون وفق مصالحهم المتعارضة، كأفراد ومؤسسات، وهذا هو ما يشكل الواقع الاجتماعى الحى الملموس القائم على أساس صراعات و تحالفات اجتماعية قائمة على أساس المصالح المتعارضة والمشتركة، كما هو قائم على توازنات القوى، وفق ما يملكه كل فرد أو مؤسسة من عناصر السلطة المادية فى صراعاته وتحالفاته المختلفة مع الأفراد، والمؤسسات الأخرى.
تلك الكائنات الخرافية التى تفترضها و تستخدمها النخب المتسلطة لتبرر هيمنتها على المهيمن عليهم ، لا يمكن أن تتحرر أو تحرم من الحرية، لأنها لا تملك ببساطة جهاز قادر على التفكير و الاختيار، والذى مازال محصورا فى جمجمة الفرد، فالمخ البشرى هو ذلك الجهاز الوحيد حتى الآن الذى يمكن له أن يفكر و أن يختار و أن يقرر، و كما أن هذه الكائنات الافتراضية لا تملك قوة مادية تمكنها من الفعل و من التأثير فيمن حولها من الأفراد، والمؤسسات، فالقوة المادية لابد و أن تتجسد فى النهاية فى أفعال أفراد قادرين على العمل.
الاستنتاج الجوهرى لكل ما سبق أننا يمكن أن نتحدث عن حرية وعبودية وتبعية واستقلالية المؤسسات المختلفة مثل الدول والجمعيات والشركات والنقابات والأحزاب والمنظمات، كما يمكن أن نتحدث عن حرية و عبودية وتبعية واستقلالية الأفراد، إلا أن الحديث عن حرية وعبودية وتبعية واستقلالية الأوطان والشعوب و الجماهير والقوميات و الأمم والطوائف وغيرها فلن يتجاوز حدود الصور الشعرية المجازية، التى ينحصر تأثيرها فى عقول مبدعيها و المخاطبين بها والمصدقين لها.
وفى الحقيقة فإن الحرية تنحصر عمليا فى الأفراد لا فى المؤسسات التى لا تتمتع إلا بحرية اعتبارية وشخصية اعتبارية، ذلك لأن اتخاذ القرارات و ممارسة الأفعال فى المؤسسات كالدول والشركات والجمعيات و النقابات والأحزاب و المنظمات لا يمكن أن يتم إلا عبر عقول وأجساد أفراد فى النهاية، هؤلاء الأفراد الذين يملكون سلطة اتخاذ القرارت الخاصة بتلك المؤسسات فى صراعاتها وتحالفتها مع الأفراد و المؤسسات الأخرى، و هؤلاء الأفراد الذين يعملون وفق تلك القرارت، و يمكنهم بالتالى استخدام ما تملكه تلك المؤسسات من قوة مادية فى الفعل، ومن ثم التأثير فى الأفراد الآخرين سواء أكانوا منتمين لتلك المؤسسات أو لا ينتمون إليها.
تتفاوت المؤسسات فيما بينها، وفق من له سلطة اتخاذ القرار فيها، الأولى السلطوية التى يتخذ فيها القرارات أفراد أو نخب من المنتمين لتلك المؤسسة و الذين يحتكرون تمثيلها والتعبير عن إرادتها. مثل الرؤساء والقادة والزعماء ومجالس الوزراء وأعضاء مجالس الإدارة واللجان المركزية وغيرها من هيئات اتخاذ القرارات فى تلك المؤسسات بصرف النظر عن إرادة ورغبة باقى الأفراد المنتمين للمؤسسة و المحرومين من سلطة اتخاذ القرار، و الثانية اللاسلطوية التى يتخذ فيها القرارات جميع الأفراد الذين ينتمون للمؤسسة أو غالبيتهم الفعلية.
فمن يملك سلطة اتخاذ القرار هو الذى يتمتع بحرية هذه المؤسسة فعليا، وهو الذى يمكن أن تقيد حريته الفردية عندما تقيد حرية تلك المؤسسة فعليا، أما الأفراد المحرومين من سلطة اتخاذ القرار فى تلك المؤسسة، فإن حريتهم الفردية مقيدة بسلطات من يتخذون القرارات بشأنهم وبشأن تلك المؤسسة. فإذا قرر من يتخذون القرارات فى مؤسسة الدولة شن الحرب على دولة أخرى أو عقد الصلح معها أو التحالف معها، فإن مواطنى تلك الدولة مجبرون على المشاركة فى الحرب و الإلتزام بالسلام و التحالف مع الدولة الأخرى بصرف النظر عن رغباتهم الشخصية و إرادتهم الفردية، فالدولة التى يتمتعون بجنسيتها تقيد حريتهم فى اتخاذ القرارات فيما ينبغى و ما لا ينبغى أن يفعلوه، و تحرمهم من التمتع بحريتهم الفردية، و تؤثر بقرارتها التى لم يتخذوها و لم يشاركوا فى اتخاذها فى ظروف حياتهم و مصيرهم وحاضرهم ومستقبلهم دون أن تسألهم عن ما يريدوه وما لا يريدوه. وهو عين ما يفعله السيد بعبيده والنبيل بتابعيه والرأسمالى بالعاملين لديه.
فالحرية إذن أن يحدد الفرد باعتباره فرد ظروف حياته ومصيره وحاضره ومستقبله، وذلك بأن يتخذ بملىء إرادته ما يفعله وما لا يفعله وأن يتحمل مسئولية قراراته، و بانتماء الفرد لأحد المؤسسات، فإن حريته الفردية لا بد و أن تعنى مشاركته فى اتخاذ كل القرارات التى تخص هذه المؤسسة.و خضوع الفرد لإرادة المؤسسة وسلطتها لا يكتسب أى شرعية دون مشاركة الفرد فى اتخاذ القرارات المتعلقة بالمؤسسة، أما دون هذه المشاركة فلا شرعية لسلطة المؤسسة، و لا أحقية لها لفرض إرادتها على الفرد الذى يحق له التمرد عليها ور فضها طالما حرمته من حريته الفردية.
فى العلاقات الدولية من المفترض أن تنتهى حرية الدولة عندما تبدأ حرية الدول الأخرى وحقوقها كما ينبغى أن تنتهى حرية الأفراد عندما تبدأ حريات الأفراد الآخرين، و هذا مشروط بالطبع بعلاقات مساواة فعلية بين الدول فى المجتمع الدولى، ومن نافل القول أنه أمر غير متحقق فى عالمنا اليوم، لأن القاعدة الحاكمة فى العلاقات الدولية هى أن مقدار ما تتمتع به الدول من حرية فى علاقتها الدولية يتوقف على مقدار ما تملكه من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية وغيرها، وهو ما يجعلها تستطيع أن تفرض إرادتها على الدول الأخرى الأقل تمتعا منها بعناصر القوة التى تملكها، وهو ما يجعلها تضطر للخضوع لإرادة الدول الأخرى الأكثر تمتعا منها بعناصر القوة، ولكى تزداد مساحة حرية الدولة فى علاقتها بالدول الأخرى، فأنها لابد و أن تزيد ما تملكه من عناصر القوة التى تسمح لها بفرض إرادتها على الآخرين. فالدولة المصرية تتمتع بدرجة من الحرية المقيدة، تتناسب مع ما تملكه من عناصر القوة على الساحة الدولية و لكى تزيد مساحة ما تتمتع به من الحرية فعليها أن تحوز على المزيد من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية وغيرها.
المشكلة هى أن الغالبية فى معسكر اليسار من اليسار القومى / الإسلامى مازالت تضع مسألة حرية الدولة واستقلالها و قوتها فى العلاقات الدولية محورا لنضالها واهتمامها،عازفة عن الاهتمام بالنضال من أجل حرية الأفراد واستقلالهم داخل الدولة وفى مواجهتها وهو ما تحاوله القلة فى معسكر اليسار من اليسار الليبرالى، وهو ما لا يسمح فى اعتقادى بإمكانية عمل مشترك فعال أو حوار مجدى بين الجانبين لاختلاف الرؤى والممارسة فيما بينهما جذريا، وأرجوا أن تثبت لى تجربة اتحاد اليسار عن خطأ هذا الاعتقاد و أتمنى أن تبرهن على سوء ظنى.

كيف نقاوم ارتفاع الأسعار؟

كيف نقاوم ارتفاع الأسعار؟
سامح سعيد عبود
تواصل أسعار السلع الأساسية ارتفاعها بينما تظل الأجور على حالها من الجمود أو النمو ببطء، وهذا يعنى العجز المتزايد عن تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن، واقتراب أكثرنا فقرا من حافة المجاعة، وربما الموت جوعا، وهو ما قد نشهده فى القريب العاجل، و الموجة الأخيرة من ارتفاع الأسعار لها بعد عالمى، حيث اتجهت شركات الطاقة لتحويل الحبوب مثل القمح والذرة إلى الإيثانول لتسيير السيارات والمصانع بعد ارتفاع أسعار البترول والغاز الطبيعى، مما رفع من أسعار الحبوب، ومن ثم أسعار الخبز والمعجنات و الزيوت النباتية، وربما قريبا سوف يتجهون لقصب السكر مما سوف يرفع من أسعار السكر، والقطن والكتان مما سوف يرفع من أسعار الملابس والمفروشات والزيوت النباتية. وسوف يكون لذلك كله أثره فى ارتفاع أسعار الألبان واللحوم والبيض ، أى كل ما يمكن أن نأكله و نرتديه تقريبا
أما عن الأبعاد المحلية الخاصة بمصر، فإن السياسات المتوالية للنظام أهدرت مساحات شاسعة من الأرض الزراعية وحولتها لأراضى بناء برغم أننا من أفقر بلاد العالم فيما يتعلق بالمساحات المزروعة بالنسبة لعدد السكان المتفجر بلا رابط و لا ظابط، وأدت نفس تلك السياسات لتحويل المساحات المحدودة لدينا لزراعة محاصيل تجارية للتصدير للخارج ، ومن ثم أصبحنا معتمدين تماما على السوق العالمى لتلبية معظم احتياجتنا من الغذاء، فنحن بفضل نظامنا الرشيد أصبح لنا كلمة مسموعة فى سوق الحبوب العالمى لا باعتبارنا من كبار المنتجين لا سمح اللة، بل باعتبارنا من أكبر ثلاث بلاد مستوردة للقمح والذرة فى السو ق العالمى.
من منتصف الخمسينات إلى منتصف السبعينات، كانت الدولة المصرية، تفرض على المزراعين أسعار جبرية لمنتجاتهم من حبوب و قصب سكر وقطن وكتان، وتبيعها للمستهلكين سواء فى شكلها الخام أو بعد تصنيعها كأغذية و ملابس، فى ظل سياسة تسعير جبرى لمعظم السلع الأساسية بما فيها حتى تلك التى كانت تباع فى السوق الحر كالفواكة والخضروات والبقول، مما عمق الوعى لدى الناس أن الحكومة هى المسئول الأول والأخير عن أرتفاع وانخفاض الأسعار باعتبارها أكبر تاجرة يشترون منها احتياجاتهم، فضلا عن مسئوليتها عن ارتفاع وانخفاض الأجور باعتبارها أكبر صاحبة عمل توظف معظم العاملين بأجر ، وهذا الوضع وإن كان صحيحا فيما مضى، إلا أنه قد تغير بدءا من الثمانينات بعد أن تخلت الحكومة عن دورها كصاحبة عمل و كتاجرة، لصالح قوى السوق، وهو أسم التدليل الذى يطلقه الإعلام على الرأسماليين، الذين أصبح بامكانهم وحدهم تحديد أسعار معظم السلع وأجور معظم العاملين بأجر بعيدا عن أى تحكم أو رقابة .
فإذ كانت الدولة مازالت توظف ربع قوة العمل المأجور إلا أن الباقين منهم يعملون فى القطاع الخاص، سواء فى القطاع الرسمى منه أو غير الرسمى. و إذا كانت الدولة مازلت تحدد أسعار بعض السلع كمنتجات البترول والغاز الطبيعى، فإن معظم السلع خرجت من سيطرتها،إلا أنها فى نفس الوقت يمكنها اتخاذ سياسات مالية معينة تكبح ارتفاع الأسعار أو بالعكس تطلق لها العنان، إلا أنها إمكانية ليست مطلقة،لأن لها علاقة بتوازنات قوى اقتصادية وسياسية واجتماعية.
ومن هنا فنحن أمام واقع مختلف عما أعتاد عليه الناس قديما، ومازال راسخا فى وعيهم الجماعى، ففى ظل الوضع القديم كان العاملين بأجر يسعون لتحسين مستوى دخولهم فى الغالب بأحد طرق الحل الفردى، مثل ممارسة بعضهم العمل الآخر بجانب العمل الأصلى، و ممارسة بعضهم للفساد الإدارى، و ممارسة بعضهم الأعمال الحرة كالتجارة ، ولجوء بعضهم للهجرة للخليج، وأما عن الحرفيين والمهنيين والمنتجين الصغار فيمكنهم غالبا رفع أسعار سلعهم وخدماتهم ، وأحيانا ما كان يمارس العاملين بأجر النضال الجماعى بالاحتجاج والاعتصام والإضراب الذى كان موجها غالبا ضد الدولة باعتبارها صاحبة العمل الأولى والتاجرة الكبرى ، وذلك إما لرفع الأجور وتحسين دخولهم وشروط عملهم أو خفض أسعار السلع والخدمات ، وكان هذا يمارس أما على نطاق جزئى فى أحد مصانع القطاع العام ، أو على نطاق جماهيرى واسع كما حدث فى انتفاضة 18و19 يناير 1977 . وبرغم طبيعة هذا النضال الاقتصادي إلا أنه كان يقترن بمسحة من نضال سياسى باعتباره موجها ضد الدولة .
فى ظل الوضع الحالى مازال يمكن لبعض العاملين بأجر لدى الدولة والقطاع العام ممارسة النضال الاقتصادى فى مواجهتها لرفع أجورهم وتحسين شروط عملهم ،إلا إن العاملين بأجر فى القطاع الخاص لا يملكون ترف ممارسة هذا النضال إلا باستثناء قطاع محدود منهم لا يتجاوز المليون ، وهم العاملين فى منشئات كبيرة كثيفة العمالة، ليبقى معظم العاملين بأجر وخصوصا فى القطاع غير الرسمى عاجزين عن أى نضال اقتصادى، نظرا لأوضاعهم الوظيفية غير المستقرة، والجدير بالذكر أنه فى ظل الارتفاع المضطرد فى البطالة والركود الاقتصادى، يصعب على العاملين بأجر الضغط على أصحاب العمل لتحقيق مطالبهم بشكل عام، سواء أكان صاحب العمل الدولة أو القطاع الخاص، وسواء فى القطاع الرسمى أو غير الرسمى.
إذا كان هذا هو الوضع على جبهة رفع الأجور وتحسين شروط العمل، وهو ما لا يمكن أن تمارسه سوى قطاعات من العاملين بأجر بشروط محددة، فإن هناك جبهة أخرى هى جبهة خفض الأسعار، وهو ما يمكن أن يناضل من أجله المستهلكون الذين يشكل العاملون بأجر غالبيتهم العظمى. وهناك شكلين من أشكال النضال فى تلك الجبهة
الأول هو تنظيم حملات مقاطعة للتجار، لإجبارهم على خفض الأسعار، وهذا يستلزم درجة عالية من الوعى والإرادة الجماعية والتصميم لدى غالبية المستهلكين، ودرجة عالية من التنظيم و القيادة الجماهيرية واسعة النفوذ وسط الغالبية الساحقة من الجماهير وهو ما لا تملكه أى قوى سياسية أو اجتماعية فى مجتمعنا، مع الأخذ فى الاعتبار أن الأسعار يمكن أن تعاود ارتفاعها بعد انتهاء المقاطعة.
الثانى هو تنظيم حركة تعاون استهلاكى، توفر احتياجات المستهلكين من السلع و الخدمات المختلفة بأسعار تزيد قليلا عن التى يبيع بها المنتجون سلعهم وخدماتهم، وهو ما سوف يخفض من أسعار السلع والخدمات،لأن ما يحصل عليه سواء المستوردون أو تجار الجملة والتجزئة يرفع من أسعار السلع والخدمات أضعافا مضاعفة عن أسعار المنتجين، وخصوصا مع زيادة حلقات الوساطة فى مجتمع يفضل رأسماليوه الاستثمار فى التجارة والمضاربة عن الاستثمار فى الإنتاج.
و الجدير بالذكر أن هناك عقبات أمام هذا النوع من النضال إلا أنه من الممكن التغلب عليها، بنضال سياسى يحرر التعاون من سيطرة الدولة وقوانينها، وممارسة أشكال من التعاون الاستهلاكى واقعيا خارج الإطار القانونى و الرسمى ، كما أنه من الممكن ممارسته فى البداية على نطاق محدود لا يلبث أن ينتشر.
كان من الممكن أن أنهى المقال بشعارات سياسية من قبيل الحد الأدنى للأجور وربط الأجر بالأسعار، وبصرف النظر عن قبول أو رفض هذه الشعارات، فإن رفعها فى ظل عدم وجود قوى سياسية أو اجتماعية قادرة على الوصول للسلطة أو حتى التأثير في السلطة بوسائل الضغط الجماهيرى لتحقيق هذه الشعارات هو أقرب للغو الحديث الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع.

فصام الاشتراكيين الثوريين

فصام الاشتراكيين الثوريين
سامح سعيد عبود
يتفق من ينتسبون لليسار فيما بينهم حول الحلم الشيوعى بالمجتمع البشرى و قد خلا من القهر والاستغلال و الملكية الخاصة والطبقات والسلطة المتعالية والمنفصلة عن إرادة البشر، و حيث تتزايد فيه حريات الأفراد والمساواة فيما بينهم، و لاشك أن اليسار قد فشل فى تحقيق الحلم الشيوعى أو الاقتراب منه حتى الآن، وربما لن تستطيع الأجيال البشرية الحية الآن أن تصل إليه أو أن تشارك فى صنعه، و برغم اعترافنا بذلك إلا أنه يحق لنا بل يجب علينا التبشير دائما بالحلم الشيوعى، و النقد المستمر للرأسمالية السائدة حاليا فى كوكبنا، إلا أن بعض من يدعون الراديكالية فى أوساط اليسار، يطرحون الحلم الشيوعى وكأنه برنامج اللحظة الراهنة كنوع من المزايدة الرخيصة على الواقعيين فى أوساط اليسار، فى نفس الوقت الذى يتخذون فيه مواقف أكثر يمينية من هؤلاء الذين ينعتوهم بالانتهازيين.
فجماعة الاشتراكيين الثوريين تصف نفسها بأنها الجماعة الأكثر راديكالية وثورية ويسارية فى مصر باعتبارها الأعلى صوتا فى التعبير عن هذا الحلم،إلا أننا نلاحظ أنهم فى المواقف العملية يقفون فى الجانب الآخر مع القوى القومية والدينية والشعبوية فى مواجهة اليسار سواء الراديكالى أو التقليدى الأكثر اتساقا مع مبادئه فى الحرية والمساواة والتقدم.وهذه هى الانتهازية نفسها بألف لام التعريف.
فى الحقيقة أن هذا لم يتضح فقط فى موقفهم الأخير من التحالف مع الأخوان المسلمين الذى فى حقيقته مجرد إلحاقهم بوظائف لدى الأخوان بالمخالفة مع كل اليساريين الآخرين الذين رفضوا هذا التوظف، فقد كان لهم السبق فى تأييد القتل العنصرى للمدنيين على الهوية فى فلسطين والعراق الذى أسموه العمليات الاستشهادية، والتى وصفوها بأعمال المقاومة ضد الإمبريالية والصهيونية، برغم أنهم يعرفون أن من يقومون بهذه الأعمال لن يخرجوا عن القوى القومية والدينية والطائفية التى تقترف جرائم خطف وتفجير المدنيين، ويتلخص مشروعهم السياسى فى الدولة الاستبدادية القومية أو الدينية، و هم يطالبون بالتضامن و التحالف مع القوميين والدينيين والطائفين لمجرد عدائهم لما يسمونه إمبريالية، وبالتضامن مع السفاحين العنصريين لمجرد أنهم يتحدون الاحتلال، فماذا تكون العدمية إن لم تكن تقديس الاحتجاج فى حد ذاته بصرف النظر عن من يمارسه ولماذا، و إن لم تكن الربط بين أى عنف واحتجاج والنضال الثورى بصرف النظر عن الهدف منه.
وعلى ما يبدو أن ما أصبح يحدد مواقف الاشتراكيين الثوريين التحالفية والسياسية هو الموقف من عدو وهمى أسمه الإمبريالية، ومن ثم لم يصبح الصراع الطبقى ضد الرأسمالية محلية كانت أو عالمية هو ما يشغلهم عمليا، مثلما تفترض الماركسية التى ينتسبون إليها، فمثلما استسلم الشيوعيون المصريون فى الستينات لنظرية التطور اللارأسمالى المصنوعة فى موسكو، و فرضيات المجموعة الاشتراكية فى السلطة الناصرية والاشتراكية التى بدون اشتراكيين و التى تحتاج لاشتراكيين، فحلوا منظماتهم المستقلة والتحقوا كموظفين بالدولة الناصرية ،استسلم الاشتراكيون الثوريون لتحليل يعتبر الإسلام السياسى حركة تحرر وطنى معادية للأمبريالية يجب التحالف معها ، لمجرد أنه تحليل وارد حزب هامشى فى انجلترا، دون أن يتعب أحدهم نفسه فى تحليل الظاهرة على نحو أكثر عمقا، فبرغم عداء الإسلام السياسى الواضح لمصالح الطبقة العاملة و مواقفه العنصرية ضد غير المسلمين، ومواقفه ضد الحريات والحقوق الإنسانية عموما، يصبح عداءه الدينى العنصرى للإمبريالية، وموقفه التنافسى على السلطة الديكتاتورية من نظام الحكم القائم، مبررات كافية للتغاضى عن الدفاع عن الحقوق والحريات الإنسانية ومصالح الطبقة العاملة وسائر المضطهدين. وقد وصل الأمر بأحد كبار كوادرهم أن يرفض التوقيع على بيان إدانة اغتيال كل من اليساريين اللبنانيين جورج حاوى وسمير القصير على أساس أن البيان لم يعلن تضامنه مع حزب اللة اللبنانى، وهو من سبق لكوادره اغتيال الشهيدين الشيوعيين مهدى عامل و حسين مروة.
وبرغم نقد جماعة الاشتراكيون الثوريون لرأسمالية الدولة، فأنهم مازالوا يدافعون عن القطاع العام فى مواجهة الخصخصة، برغم أنه بخلق ما يسمى بالقطاع العام، سواء بتأميم القطاع الخاص، أو بالاستثمار الحكومى فى الإنتاج والخدمات، تم تحويل نسبة ضخمة من العمال فى المجتمعات الرأسمالية أو كلها كما فى المجتمعات البيروقراطية التى عرفها الناس باسم الاشتراكية، إلى طبقة أخرى تقع لو أردنا الدقة ما بين العمال و الأقنان، وهذا التحويل هو بمثابة تدهور حقيقى فى وضع العمال الاجتماعى، برغم ما قد يتميز به أشباه الأقنان هؤلاء على العمال الآخرين من استقرار وظيفى، وضمان اجتماعى، و مستوى معيشى أفضل، وأجور أعلى، و خدمات اجتماعية أوفر وأرخص، إلا أن هذا لا يمنع فى نفس الوقت أنهم أقل حرية و إنتاجية و أكثر عبودية من العمال غير الحكوميين. فوضع العامل لدى الدولة فى مواجهة الدولة كصاحب عمل هو وضع الإذعان من القن لشروط سيده، و التى تقوم على القبول بكل شروط وظروف العمل التى تفرضها الدولة عليه، فأين الانحياز لحرية العمال إذن ،إلا إذا كانوا يؤمنون بغير أن يعلنوا بالطبع أن القطاع العام لونا من الاشتراكية التى يبشروا بها.
مما سبق يتضح لنا أن هناك حالة من الفصام الحقيقى تعانيها تلك الجماعة المعزولة التى فشلت بعد خمسة عشر عاما من تكوينها فى أن تحقق أى ارتباط بالطبقة العاملة، وأن تتجاوز حدود الحلقة الضيقة المحصورة فى القاهرة الكبرى، و برغم ذلك تريد أن تفرض نفسها على الساحة السياسية الملتهبة الآن كأحد اللاعبين الرئيسيين، لتفرض شروط توازن القوى الموضوعية عليها أن تكون ذيلا لأحد القوى الكبرى، و قد اختاروا بمحض إرادتهم تذيل أسوء تلك القوى على الإطلاق، و أكثرها تناقضا مع مواقف اليسار على نحو مهين،تاركين الرفاق اليساريين فى معسكر الديمقراطية الحقيقية وحدهم،متناسين أنه لا معنى إطلاقا لتحالف النملة مع الفيل، إلا أن مجموعة من النمل تستطيع أن تصمد فى معسكر الحرية الحقيقية محاولة هزيمة أفيال القهر على الجانب الآخر فى معسكر الاستبداد، بأن تمتلك عناصر القوة أولا لمصارعتها، فعليك دائما قبل أن تنزل للملعب وأن تفرض شروطك فى اللعب أن تمتلك أولا القوى الذاتية للعب، وفى الحالة اليسارية أن ترتبط بالقوى الاجتماعية التى تتدعى التعبير عنها،و أن تبذل فى ذلك جهدا حقيقيا قبل النزول للملعب.