الخميس، 26 مارس 2009

عذرا ماركس: الدين ليس وحده أفيونا للشعب


عذرا ماركس: الدين ليس وحده أفيونا للشعب
سامح سعيد عبود

بداية فإن الأفيون يدخل فى صناعة الكثير من الأدوية لعلاج الكثير من الأمراض من السعال إلى تسكين الألام ، والمخ البشرى نفسه يفرز مركبات كيميائية طبيعية لها تأثير شبيه بتأثير الأفيون، ،زيادة إفرازها تمنحنا السعادة، وتجعلنا محبين للحياة وأكثر تمسكا بها وتحملا للألم، وقلة إفرازها تدفعنا للإكتئاب، وكراهية الحياة، وربما الانتحار هربا من حياة قوامها الألم، أما عن خطورة الأفيون فهى فى استعباده لمن يتعاطاه، وكونه دافع للاستسلام للواقع و الرضا به مهما بلغ من سوء، فضلا عن أنه يقدم بديل جميل ووهمى لقبح الواقع، مما يحبط أى رغبة أو قدرة على تغييره، ولذلك كتب ماركس " إن الهم الديني هو في الوقت نفسه تعبير عن هم واقعي، واحتجاج علي هم واقعي . إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة ، هو قلب عالم لا قلب له ، مثلما هو روح وضع بلا روح . إنه أفيون الشعب". ولكن هل الدين وحده هو أفيون الشعب ، ماركس لم ينتبه لأنواع أخرى من الأفيون ربما كانت أكثر خطورة من الدين ومؤسساته.
مقولة ماركس كانت إبنة عصر أكثر بساطة من عصرنا المعقد ، ففى تلك الأيام كان الإنسان العادى غير المتعلم الذى يشكل وأقرانه غالبية السكان لا يجد أمامه إلا الحانة أو المقهى ليلتقى الزملاء والجيران بعد يوم من العمل، ليشربوا ويثرثروا بعض الوقت، و ربما يتسلون ببعض الألعاب القليلة، ويذهبوا مرة أسبوعيا لمعابدهم لممارسة طقوسهم الدينية، والنادر منهم من كان لديه القدرة على القراءة إلا أن ما كان متاح لديه هو بعض الصحف والكتب القليلة، وفى بعض المناسبات الاجتماعية المختلفة ، يرفه عن نفسه ببعض الفنون و الأداب الشعبية.. فى حين أن النخب الحاكمة والمتعلمة فقط هى من كانت تتردد على المسارح فى المدن أو تستمتع بالفنون النخبوية فى القصور وهى من كانت لديها القدرة على التعلم والتثقف..والخلاصة إن إنسان القرن التاسع عشر كانت أمامه فرصا أقل للانفصال العقلى عن الواقع الاجتماعى من إنسان القرن العشرين، وبالتالى كانت لديه فرصا أعلى للتمرد والثورة على هذا الواقع من إنسان العصر الحالى، حيث أن المخدرات المتاحة ما قبل القرن العشرين كانت نادرة بالنسبة لما يعرفه الناس الآن من زخم لا حصر له من المخدرات.
مع بدايات القرن العشرين بدء تحول تدريجى لأكثر من نصف سكان العالم إلى سكان مدن بعد أن كانت غالبيتهم الساحقة من سكان الريف والبوادى ، مما فتح لهم سبل أوسع للتسلية والترفيه من سكان الريف، و فى نفس الوقت تحول الإنتاج الفنى والأدبى والإعلامى من النمطين الفردى و السلعى البسيط والموجه لسوق محدود ببضعة آلاف من المستهلكين إلى النمطين الرأسمالى و البيروقراطى و الموجه لسوق يتجاوز الملايين من البشر، مما غلب طابع استهداف الربح أو خدمة نظام الحكم على أى دافع آخر فى تلك المجالات. كانت تلك بداية عصر صناعة التسلية وثقافة الجماهير، الذى أوصل سلع الترفيه والتسلية للمنازل بعد أن كان الناس يتكبدون مشقة البحث عنها خارج المنزل.
ثقافة الجماهير حفلت بأشكال متنوعة من المخدرات هدفها السيطرة على المحكومين من قبل النخب الحاكمة التى لم تعد قاصرة على استخدام الدين ومؤسساته فقط للسيطرة ، و قد بدء هذا التنوع المذهل مع اختراع السينما ثم الإذاعة و التليفزيون ، والتطور المذهل فى الصحافة والنشر ، و انتشار التعليم الحكومى الرسمى، و أخيرا الأنترنت و البث الفضائى و عالم الألعاب الإلكترونية و البدنية ... كل تلك الأشكال من الترفيه والتسلية شكلت تأثيرا أفيونيا على الناس جعلتهم أكثر قدرة على تحمل بؤس واقعهم ، و أكثر انعزالا عن الواقع الاجتماعى الحقيقى، وأكثر عبودية و اغترابا عن أنفسهم وواقعهم برغم حريتهم الظاهرية المتزايدة، وتنوع فرص اختياراتهم ما بين مخدر و آخر.
كل هذا الإنتاج الذى يزداد غزارة يوميا من الفنون والآداب ومواد الإعلام مع استثناءات نادرة تثبت القاعدة و لا تنفيها، هدفه الرئيسى بجانب ربح المنتجين وسيطرتهم على المستهلكين هو إغراق عقول الناس فى واقع افتراضى غير حقيقى، و اقناعهم بأن ما يستهلكونه من مواد فنية وأدبية وإعلامية هو واقع الحياة، بل و أهم ما فيها، والتأثير عبر هذا الوهم الافتراضى فى سلوكيات الناس وأفكارهم بما يتفق ومصالح النخب فى السيطرة والاستغلال.
هذه الأوهام الجميلة تسليهم وتمتعهم بالفعل، وتجعلهم أكثر قدرة على تحمل آلام الحياة شأنها شأن الأفيون، لكنها لا تساعدهم على الفهم الصحيح للواقع، مهما أدعى المتحذلقون من كهنة الفن والأدب والإعلام المستفيدين من ترويج تلك المخدرات بين الناس. و لأنهم أرباب مهن وصناعات فإنهم يضفون على ما يروجون له من بضائع أهمية لا تستحقها غالبا، ويزعمون أن لها فوائد يبالغون فى قيمتها، بل ولوقاحتهم أحيانا يعلون من قيمة ما ينتجونه عن أى قيمة أخرى، ذلك أن هدفهم ككل دجال هو السيطرة على الناس وسلب نقودهم باستهلاك ما يبيعونه لهم من بضائع فاسدة ، آليات السوق نفسها تثمن راقصة أو لاعب كرة بأكثر من عسكرى ينظم لنا المرور، أو عامل فى منجم، بل و حتى أكثر من عالم فى الفيزياء.
غالبا ، وبرغم القيمة الوهمية التى يضفيها السوق على السلع، فإن الفن والأدب و مواد الإعلام تحفل بالتفاهة ، ومن أمثلة ذلك أن الغالب من الشعر العربى التقليدى عبر أكثر من ألف عام برغم جماليته المؤثرة، و التى تنبع من كون أغراضه كانت تنحصر فى الغزل والفخر والهجاء والرثاء، و كان التعبير عن تلك الأغراض يقوم على الكذب والمبالغة، ولذلك قالوا أن أجمل الشعر أكذبه..و كذلك سفاهة الأغانى كونها تتحدث فى غالبيتها الساحقة عن الحب الجنسى، صريحة فى تعبيرها كانت أو غير صريحة. و التى تبرر الحب غالبا بجمال جسد المحبوب الفائق للعادة، مما يفصح عن أن المسألة لا تدور إلا حول الرغبة الجنسية،برغم أن الأمر يبدو أحيانا وكأنهم يتحدثون فى أمر جلل تتوقف عليه مصائر البشر، فضلا على أنها ترسخ لدى البشر أن أهم ما يبرر علاقة الحب التى تربط بين شخصين هو سمات جسدية تمنحها لنا الطبيعة أو تحرمنا منها دون فضل منا فى ذلك،أما السمات البشرية الأخرى و الأكثر جوهرية فى الإنسان و المرتبطة بإرادته كأخلاقه وسلوكه وتفكيره فهى مهمشة دائما.. حتى أغانى النظام الناصرى المسماة بالوطنية، وبرغم كل ما تحتويه من روعة فى الكلمات والموسيقى والأداء، و التى خلدتها حتى بعد انهيار الناصرية، فإنها كانت أحد أدوات السلطة الناصرية فى تضليل الجماهير حيث أوهمتنا بانتصارات وانجازات لم يكن لها أثر من الواقع. أما عن الأعمال الدرامية فهى لا تقدم سوى حواديت منبتة الصلة بالواقع الاجتماعى لغالبية البشر العاديين فى المصانع والمزارع، فمن قصص الحب الرومانسية إلى عالم الجريمة والمطاردات الخيالية والبطولات الفردية الخارقة للعادة، ومن الرعب إلى الخيال العلمى، و هى كلها أعمال لا يجد الإنسان العادى فيها نفسه، ولكنه يجد ما ينفس فيها عن خيباته وهزائمه وبؤسه وهمومه.
الحقيقة إنه إذا شاء الإنسان فعلا فهم الواقع ، فلا يمكن أن يكون ذلك عبر استهلاك الفنون والآداب و المواد المقدمة عبر وسائل الإعلام، وأنا اتحدث هنا عن السائد والغالب منها لا الهامشى و النادر ، و الواقع أن البشر الآن فيما عدا قلة نادرة منهم تنقسم أوقاتها ما بين العمل والتسلية، ولذلك فإننا نحيا عصر البلاهة المعممة بامتياز.
http://www.ahewar.org/m.asp?i=12

السبت، 7 مارس 2009

الهوية الجماعية هى ثقافة القطيع


الهوية الجماعية هى ثقافة القطيع
سامح سعيد عبود

عندما كنت طفلا، وتأثرا بكثير من أفراد العائلة صرت مشجعا لفريق كرة القدم نادى الزمالك ، وكان فى ذلك الوقت فى الستينات أحد أكبر فريقين لكرة القدم فى مصر ، وفى أواخر سنين المراهقة سألت نفسى،لماذا أشجع فريقا لا أشاركه اللعب، ومن ثم لا أشاركه انتصاراته وهزائمه؟ ولما لم أجد إجابة مقنعة ،عزفت عن التشجيع، ثم عزفت عن الاهتمام أصلا بالموضوع، وسألت أحد معارفى من مشجعى الزمالك، لماذ تصر على تشجيع الزمالك برغم تدهور مستواه، و لا تشجع الأهلى المحافظ على مركزه المتقدم، وكانت الإجابة إنه يحب الزمالك.
برغم من أن الغالبية الساحقة من المصريين متجانسة لغويا وثقافيا ودينيا وطائفيا وعرقيا على عكس معظم الشعوب فى العالم، فسكان الدلتا يسخرون من سكان الصعيد ، و سكان الصعيد يفخرون بصلابتهم فى حين ينعتون سكان الدلتا بالرخاوة، ثم تسرى القاعدة على أبناء المحافظات ، فيتحدثون عن بخل سكان دمياط، وكرم سكان الشرقية، وفى قلب المنوفية التى يسخر من أهلها باقى المصريين لانتهازيتهم، لاحظت نفس الظاهرة بين قريتين متجاورتين، حيث يتهم سكان واحدة منهما سكان الأخرى بالبخل ، فى حين يتهم سكان الأخرى سكان الأولى بالبلاهة، وهذا هو الحال عموما بين سائر المراكز داخل المحافظات، والقرى داخل هذه المراكز، و فى كل قرية سوف نجد نفس الحالة بين عائلات نفس القرية، برغم ما قد يربط بينهم من علاقات نسب أو قرابة وربما أصل مشترك، بل وتستمر الظاهرة لتشمل فروع نفس العائلة ، حتى نصل للأسر النووية لنفس العائلة التى نراها على نفس الحال من الفخر بالأسرة، وهجاء الأسر الأخري، وهناك بالطبع أحكاما عامة من هذا النوع، يطلقها المسلمون على المسيحيين، مثلما يطلق المسيحيون أحكاما عامة على المسلمين، وينطبق هذا على ما بين السنة والشيعة، وبالرغم من أن معظم المصريين سمر البشرة فإنك سوف تجد من بينهم من يكره سود البشرة، ويصفهم بالعبيد، ويقرن بين الجمال ولون الجلد.
يفسر الكثير من الكتاب بحسهم العنصرى والاستعلائى، الهوس الدينى الذى يجتاح المجتمع المصرى منذ أربعين عاما، على أنه نتيجة غزو الإسلام النجدى الوهابى الصحراوى، وتغلبه على الإسلام المصرى السمح الزراعى، متناسين إن مصر أول بلد ظهرت فيه جماعة الأخوان المسلمين عام 1928 التى خرجت من عباءتها كل جماعات الإسلام السياسى، كما أسست فيها فى عام 1906 جمعيات أنصار السنة المحمدية المنحازة لمدرسة أهل الحديث التى خرجت منها مذاهب المالكية والشافعية والحنبلية ، قبل الحقبة النفطية، وظهور الدولة السعودية نفسها، وإن ما يسمونه بالإسلام المصرى ما هو إلا نتيجة سيادة أخذت تنحصر لمذهب الإمام أبو حنيفة الخارج من مدرسة أهل الرأى، المعروف بتساهله فى العبادات والمظاهر الشكلية،وتشدده فى المعاملات، وهو تيار الغالبية على مدى التاريخ الإسلامى لأنه كان المذهب الرسمى للخلافتين العباسية والعثمانية، وإن ما يسمى بالإسلام النجدى ما هو إلا مذهب الإمام ابن حنبل المعروف بتشدده فى العبادات والمظاهر الشكلية،وتساهله فى المعاملات، وكان تاريخيا تيار الأقلية الضئيلة، حتى جاءته الفرصة لينتشر بالتحالف مع الدولة السعودية، وما حازته من نفوذ نتيجة حقبة النفط.إلا أن هذا لا ينفى دور المثقفين المصريين من أمثال العقاد وسيد قطب ومصطفى محمود و غيرهم و هم الأقوى تأثيرا من إبن باز وغيره ، فمن هو الذى زرع المعاهد الدينية فى كل قرى و أحياء مصر، وحول الأزهر من جامعة إسلامية لجامعة شاملة، وأنشأ إذاعة القرءان الكريم ودعم الجماعات الإسلامية فى مواجهة اليسار فى السبعينات ، و ابتدع الإعجاز العلمى للقرءان والسنة فى الإعلام والجامعات، أليست الدولة المصرية نفسها.
كل تلك الأحكام العامة التى تطلقها جماعات بشرية عن نفسها وعن الجماعات الأخرى، والتى تندرج تحت الفخر بقطيعنا ، وهجاء القطعان الأخرى، أو حتى العكس، هى تفكير بدائى ومتخلف وساذج، يردده العامة، كما يرسخ هذا التفكير فى أوساط العامة النخب المثقفة التى تنتج وتعيد إنتاج أفكار هؤلاء العامة ونشرها بينهم، والعامة بكل سوقيتهم ، والنخبة بكل تقعراتها التافهة، لا يستندون على العلم الذى ينفى بحزم فكرة الهوية الجماعية سواء أكانت قائمة على أساس من الدين أو المذهب أو المنطقة الجغرافية أو الثقافة أو العرق. فداخل نفس الأسرة النووية التى يشترك أفرادها فى الصفات الوراثية والبيئة والمستوى الاقتصادى، فإنه يمكن أن تجد تنويعات سلوكية وعقلية مختلفة ومتناقضة، من بخل وكرم، من شجاعة وجبن، من طيبة وشر ، كم يمكن أن تنجب الأسرة معاقا ذهنيا و أخا له عبقريا فى نفس الوقت وهكذا.
فلماذا إذن يفكر البشر على هذا النحو؟ الإجابة هى أن معظم البشر لا يفكرون بقدر ما يسلكون ويصدرون الأحكام ويتخذون القرارات بناء على ما تمت برمجتم به فى طفولتهم. فيسمح الأهل لأنفسهم بتلقين أطفالهم عقائدهم الدينية و أفكارهم والتعصب للقطيع الذى ينتمون إليه، وعندما ينضج الأطفال يصعب عليهم التفكير فيما تم تلقينهم إياه، ويرددونه أحيانا كالببغاوات، كما إن الكثيرين لا يستطيعون دفع ثمن هذا التفكير فى تلك المعتقدات والأفكار والأحكام العامة ، فماذا لو اكتشفوا عدم صحتها ، أنهم سوف يحرمون أنفسهم من دفء القطيع الذى ينتمون إليه إلى برودة العزلة، فتخيلوا أى نوع من العزلة الاجتماعية التى يعانيها إنسان، لمجرد أنه توقف عن الاهتمام بكرة القدم أو الهوس بالدين أو الجنس.
السبب الآخر إن الناس فى الغالب تحكم عواطفها فيما يتعلق بحب القطيع الذى تنتمى إليه، وكره القطعان الأخرى، وهى التى ليس لها من أسباب منطقية غالبا، ولكنها تندفع نحوها بلا تفكير، وأحيانا تخترع لها أسبابا تبررها، سواء لنفسها أو للآخرين، عندما يواجههم أحد بلماذا تحبون وتكرهون،لماذا تعتقدون فى هذا الشىء أو لا تعتقدون، وهذه هى المهمة القذرة لمثقفى الهوية فى التاريخ الذين يقدمون تلك الإجابات للعامة.
http://www.ahewar.org/m.asp?i=12