الأربعاء، 29 سبتمبر 2010

النظام العالمى و الإمبراطورية الغامضة


النظام العالمي والإمبراطورية الغامضة
سامح سعيد عبود

تحليل النظام العالمى أو نظرية الأنساق الدولية، تصف الواقع العالمى فى القرون الخمسة الماضية، على نحو أكثر دقة مما تصفه نظريات التبعية، إذ تؤكد على أن وحدة التحليل الاجتماعى الأساسية ينبغى أن تكون النظام العالمى ككل، وليس الدولة القومية كما تذهب إلى ذلك نظرية التبعية، فالعالم نظام واحد مكون من دول، ومن مؤسسات عابرة القومية كالشركات متعدية الجنسية، والمنظمات الدولية المختلفة الحكومية وغير الحكومية، و من ثم لا يجوز محاولة فهم العالم انطلاقا من مفهوم الدولة القومية دون النظر للمؤسسات الدولية، وتشير النظرية إلى أن التقسيم الدولى للعمل، يقسم العالم إلى البلاد الأساسية، والبلاد شبه الهامشية، والبلاد الهامشية، وبتعبير آخر بلاد مركزية وبلاد شبة محيطية وبلاد محيطية، تركز البلاد المركزية الأساسية على الإنتاج الذى يتطلب العمالة عالية المهارة و من ثم عالية الإنتاجية، وعلى المشاريع كثيفة رأسالمال، التى تنتج قيمة مضافة أعلى، أما بقية العالم فيركز على الإنتاج الذى يتطلب العمالة منخفضة المهارة، ومنخفضة الإنتاجية، وعلى المشاريع متدنية رأسالمال، التى تنتج قيمة مضافة أدنى، وهذا يعزز باستمرار هيمنة البلدان الأساسية المركزية على البلاد المحيطية وشبةالمحيطية، والفوارق فى المستويات المعيشية بينهم، ومع ذلك، فإن هذا النظام يتميز بالحركية إذ يسمح بحركة البلاد ما بين المركز والمحيط وشبه المحيط، إذ يمكن للدول أن تكسب أو تخسر وضعها فى المركز، أو شبه المحيط، أو المحيط، مع مرور الوقت، فبعض البلدان أصبحت مهيمنة فى العالم ثم مهيمن عليها أو العكس، طوال القرون القليلة الماضية، وقد مر بوضع الهيمنة على العالم كل من هولندا، و أسبانيا، والمملكة المتحدة ومؤخرا الولايات المتحدة، وربما الصين فى المستقبل القريب، وقد انتقلت اليابان من المحيط فى القرن التاسع عشر، إلى المركز فى القرن العشرين، جدير بالذكر الإشارة إلى أن الدول شبه المحيطية هى التي تقع بين المركز والمحيط الخارجي، و تستفيد من هامش العلاقات الدولية من خلال تبادل غير متكافئ مع دول المحيط.
تم تطوير النسخة الأكثر شهرة من النظرية على يد ايمانويل والرشتاين في عقدى السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، وقد فحص فالرشتاين صعود النظام العالمي فى القرن 15، عندما كان الاقتصاد الإقطاعي الأوروبي يعاني من الأزمة، وكيفية تحوله للرأسمالية، وكيف استفاد من بعض المزايا، وسيطر على معظم الاقتصاد العالمي، عبر تنمية الاقتصاد، وانتشار التصنيع والرأسمالية، مما أدى بشكل غير مباشر إلى التنمية غير المتكافئة فى العالم.
قد تعرضت نظرية النظام العالمي إلى انتقادات مختلفة، ولا سيما لكونها تركز على الاقتصاد، وليس بما فيه الكفاية على نظم الحكم والثقافة، ومن ناحية أخرى فإن فالرشتاين انتقد نظريات التنمية بسبب تركيزها على الدولة القومية كوحدة للتحليل فقط، وبسبب افتراضها أنه لا يوجد سوى طريق واحد للتنمية التطورية لجميع البلدان، و عدم مبالاتها بالهياكل عبر الوطنية التي تعيق التنمية المحلية والوطنية، فى حين ينتقده دعاة استقلال الدول لعدم اتخاذه الدولة كوحدة أساسية للتحليل، كما يوجه الماركسيون التقليدون الاتهام له بعدم إعطاءه الوزن الكافي لمفهوم الطبقة الاجتماعية، كما يعيب عليه الوضعيون التعميم، والافتقار إلى البيانات الكمية، وأخيرا انتقاده لعدم وضوح الحدود الفاصلة بين الدول والشركات والمؤسسات الدولية.
عندما نفهم العالم كوحدة للتحليل، يمكنا أن نزيل الغموض من حول مصطلح الإمبريالية، والذى عند ترجمته إلى معناه باللغة العربية يكون "الإمبراطورية"، و من هنا يمكن أن نفهم الإمبراطورية " الإمبريالية " بأنها توسع فى هيمنة إحدى مؤسسات السلطة فى المجتمع البشرى، تلك المؤسسات التى تسيطر على إحدى أو كل مصادر السلطة المادية، وهى الثروة المادية والعنف المادى والعنف المعنوى ووسائل المعرفة، فمن يسيطر على مصادر واسعة للسلطة المادية يصبح إمبراطورية قد تكون عسكرية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية.
الإمبراطورية هى إمكانية قائمة و كامنة لدى كل مؤسسات السلطة المختلفة إلا أنها تصبح واقعا ماديا ملموسا عندما تستطيع بعض هذه المؤسسات أن توسع من سيطرتها على مصادر السلطة المادية سواء أكانت الثروة أو العنف أو المعرفة، لتحقق تضخمها الذى يمنحها صفة الإمبراطورية تمييزا لها عن المؤسسات الأخرى التى فشلت فى تحقيق هذا التوسع، و عملية التحول لإمبراطورية غالبا ما تكون بالاستيلاء على ما تحوزه المؤسسات الأخرى المنافسة لها من مصادر للسلطة المادية، و التى تفترسها المؤسسات المنتصرة لتصبح جزءا من الإمبراطورية.
الإمبراطورية هى نتيجة لصراع بين متنافسين لديهم نفس الإمكانية فى التحول لإمبراطورية، و عبر الصراع فيما بينهم، فأن بعضهم يحقق انتصارا ليصبح إمبراطورية، والآخر تلحق به الهزيمة، فيموت أو يتم ابتلاعه من المنتصر، و هذا يحتمل كافة أشكال الصراع من الحروب والمؤامرات والغزو ..الخ، هكذا تحولت مؤسسة سلطة سياسية كانت مجرد دولة مدينة كروما إلى دولة إمبراطورية هائلة حول البحر المتوسط، وهكذا أسست جيوش المغول والعرب والترك إمبراطورياتها، وليست عملية التحول لإمبراطورية قاصرة على الدول باعتبارها مؤسسات السلطة السياسية العامة التى تحتكر العنف فى المجتمع البشرى، إلا أن المؤسسات الرأسمالية باعتبارها مؤسسات سلطة اقتصادية فيما يتعلق بالإنتاج المادى، والمؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية أيضا فى مجال ممارسة سلطتها المعرفية عبر تشكيل الوعى الاجتماعى تتحول لإمبراطوريات، فكما لدينا إمبراطوريات الكوكا كولا والماكروسوفت كإمبراطوريات اقتصادية، فلدينا إمبراطوريات الCNN و رويتر كإمبراطوريات إعلامية.
الإمبراطورية هى ميل غريزى لدى كل مؤسسات السلطة البشرية، و من ثم فهى ميل غريزى أيضا للمشروع الرأسمالى الذى لا يهدف سوى للربح على حساب قوة العمل، وعلى حساب المشاريع الرأسمالية المنافسة له، و هذا الميل الغريزى لا يمكن فصله عن المشروع الرأسمالى الذى يتصف به، كما لا يمكن فصل الجوع كغريزة عن الكائن الحى، ومن ثم فلا يمكن فصل الميل الغريزى نحو التحول لإمبراطورية عن أى مؤسسة رأسمالية سياسية أو اقتصادية، فمن هذا الفصل تحديدا ينبع الاستخدام الزائف لمصطلح الإمبريالية، و من ثم التحدث عن الإمبريالية كما لو كانت شيئا مختلفا عن الرأسمالية كنمط إنتاج و كحضارة، فنحن لا نقول جوع الأسد أكل الغزال، ولكن نقول الأسد أكل الغزال بسبب جوعه، ولذا لا يصح التعاطف مع أسد جائع لم يجد غزالا ليأكله.
الفصل ما بين الإمبراطورية كميل غريزى للرأسمالية، والرأسمالية كنمط إنتاج، يخلق سلسلة من الأوهام حول إمكانية وجود رأسمالية بدون إمبريالية، أو أن الإمبريالية ظاهرة مستقلة عن الرأسمالية، أو أن الإمبريالية هى مجرد المرحلة الأعلى فى التطور الرأسمالى كما افترض لينين، أو أن الإمبريالية هى مجرد غزو واحتلال عسكرى بهدف الهيمنة على المستعمرات ونهبها، والحقيقة أن الميل الإمبراطوري للرأسمالية كحضارة أدى لصراعات حادة بدءا من الحروب العسكرية إلى الحروب التجارية، داخل كل مجتمع محلى، وعلى النطاق العالمى أيضا، على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بين مؤسسات السلطة الرأسمالية المختلفة والمتنافسه، سواء أكانت دول أو جيوش أو مشاريع رأسمالية، وعبر هذا الصراع بين المتنافسين تم ابتلاع المهزومين الضعفاء و الأكثر تخلفا، و تم توسيع مجال سيطرة المنتصرين الأقوياء و الأكثر تقدما، مشكلين فى النهاية إمبراطورياتهم، وانتهى هذا الصراع فى لحظة منه إلى تحول الرأسمالية من مجرد نمط إنتاج محصور فى بعض مدن غرب أوروبا إلى حضارة واحدة عالمية عبر الكوكب بأسره، و لأول مرة فى التاريخ اندمج كل البشر فى نظام عالمى واحد يتم فيه انتزاع فائض القيمة من قوة العمل على نطاق عالمى، وهذا هو أحد أهم إنجازات الرأسمالية تقدما، والذى ما كان ليحدث لولا ميلها الإمبراطوري تحديدا.
الميل الإمبراطوري للمؤسسات الرأسمالية المختلفة يخلق صراعات ثانوية فيما بين مؤسسات السلطة، فيتنافس أصحاب مصانع النسيج فى انجلترا فيما بينهم كما يتنافسون مع أصحاب مصانع النسيج فى مصر من أجل الحصول على قسم أكبر من السوق، ويستخدم أصحاب مصانع النسيج دولهم لكى تدعمهم فى تلك المنافسة، فتمارس الغزو العسكرى من أجل الأسواق والمواد الخام، وتفرض الحماية الجمركية لأسواقها القومية، وغيرها من الأساليب، وينتهى الأمر بخروج بعض أصحاب مصانع النسيج من حلبة المنافسة، وفى نفس الوقت تتضخم ثروات البعض الآخر، ولو تأملنا النتيجة سوف نجد أن من يستمر وتضخم ثروته هو الأكثر استخداما لقوى إنتاج أكثر تقدما، فى حين يخرج من حلبة السباق الأقل تقدما فى قوى الإنتاج.
أن الصراع الجوهرى القائم هو بين هؤلاء الرأسماليين وبين العمال فى كلا البلدين، ذلك أن أرباح كل هؤلاء الرأسماليين بصرف النظر عن جنسياتهم و بلدانهم، وبصرف النظر عن تخلفهم وتقدمهم تأتى من انتزاع فائض القيمة من العمال بصرف النظر عن جنسياتهم، وهذا هو جوهر الاستغلال الرأسمالى، وليس على العمال فى أى بلد الانحياز لطرف ضد طرف آخر فى هذه الصراعات الثانوية، فمصلحتهم المؤكدة هى فى التخلص منهم جميعا، والصراع الذى يجب أن يعنيهم بحق هو الصراع الأساسى فيما بينهم وبين مؤسسات السلطة التى تقهرهم وتستغلهم، لا الصراعات بين المتنافسين على التهامهم.
الفصل الزائف ما بين الإمبراطورية والرأسمالية هو الذى أدخل سلسلة من المفاهيم البرجوازية فى الحركة العمالية العالمية، مثل مفاهيم التحرر الوطنى، والتنمية المستقلة، و أكذوبة البرجوازيات الوطنية المعادية للإمبريالية، تلك البرجوازيات المحلية التى يفترض أصحاب تلك المفاهيم أنه يجب أن تتحالف معها الطبقة العاملة المحلية كمرحلة أولى فى طريق تحررها، والخدعة الجلية فى تلك الترسانة من المفاهيم، هو أن تلك البرجوازيات الوطنية المحلية والموصوفة أيضا لدى البعض بالتقدمية، رغم تخلفها وضعفها وعجزها عن التطور غالبا، تريد الاستقواء بطبقتها العاملة المحلية فى مواجهة منافسيها من الرأسماليين الأجانب لا غير، على أساس عشائرى، ومن ثم خلقت هذه المفاهيم، وروجت لها كى تنفرد وحدها باستغلال وقهر الطبقة العاملة المحلية، فاستطاعت أن تخدع العمال باسم الوطنية والقومية والدين والطائفة والعرق وغيرها، ليكونوا مجرد وقود فى حروبها ضد منافسيها، و بالتالى تأجيل أو طمس أو تشوية الصراع الطبقى، ومن المؤكد أن من يحمل هذه المفاهيم، و يروج لها بين العمال، إنما يعبر عن مصالح البرجوازيات والبيروقراطيات المحلية لا مصلحة الطبقة العاملة.
مثل هذه المفاهيم تتجاهل أن أى مطعم صغير فى أى بلدة لديه نفس الميل الغريزى الإمبراطورى الذى لسلسلة مطاعم ماكدونالدز، إلا أن المطعم الصغير عاجز فقط عن إشباع غريزته فى التوسع على حساب أصحاب المطاعم الأخرى المنافسين، و عاجز بسبب تخلفه و صغره وضعفه عن منافسة سلسلة مطاعم ماكدونالدز، و هى مشكلة تخص صاحب المطعم فقط، لا مشكلة العامل فى المطعم، الذى قد يفضل العمل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز لو اتيحت له الفرصة لما قد يحصل عليه من شروط عمل أفضل لديها، فهو فى كل الأحوال يتم استغلاله وقهره، إلا أن شروط العمل تختلف من صاحب عمل لصاحب عمل آخر، وهذا هو محل تفضيلات العامل لو اتيحت له فرصة اختيار العمل الذى يرغبه، و هذا أيضا محل تفضيلات المستهلك الذى قد يفضل الأكل فى سلسلة مطاعم ماكدونالدز طالما كانت تبيع له بضائع أرخص وأفضل مما تبيعه المطاعم المحلية.
مثل هذه المفاهيم العشائرية تتجاهل ما عانته الطبقات العاملة المحلية على يد برجوازيتها أو بيروقراطيتها المحلية فى عهد الاستقلال الوطنى ما بعد الحرب العالمية الثانية من نهب واستغلال وقهر، فاق بمراحل ما عانته تلك الطبقات تحت سلطة الدول الاستعمارية المباشرة، فقد تحول ضباط الصف الوطنيين فى جيوش الاحتلال البلجيكى والأنجليزى والفرنسى على الترتيب "موبوتو وعيدى أمين وبوكاسا" إلى رموز للثراء الفاحش وسط مظاهر بؤس شعوبهم المدقع، بسبب توليهم للسلطة الوطنية المستقلة فى الكونغو وأوغندا وأفريقيا الوسطى، و قتل ونكل البعثيون بالملايين من العراقيين و السوريين أكثر بكثير مما قتل ونكل الانجليز والفرنسيين على الترتيب من العراقيين و السوريين فى العراق وسوريا فى فترة احتلالهما لتلك البلاد، و حادثة دنشواى وما تلاها من محاكمات واعدامات ظالمة ارتكبتها سلطة الاحتلال الانجليزى لمصر، تتضاءل أمام ما تعرض له خميس والبقرى من محاكمة واعدام، و أمام ما تعرض له الألاف من المعتقلين السياسين دون محاكمات من تعذيب وقتل فى عهد السلطة الوطنية الناصرية.
أصحاب هذه المفاهيم يبرزون فحسب ما فعله الاستعماريون فقط من استرقاق للزنوج وإبادة للهنود الحمر، ونهب للثروات الطبيعية لشعوب المستعمرات، ومن مذابح تعرض لها أبناء المستعمرات، وغيرها من الجرائم فى إطار عملية التوسع الرأسمالى، فى حين يتجاهلون بفظاظة أن ما عاناه هؤلاء عانته أيضا فى نفس الوقت البروليتاريا فى البلاد الاستعمارية، حيث يذكر مورس دوب "إن هذه الفترة تعد من أسوء الفترات التى عانى منها العمال الذين كانوا لا يكادون يجدون ما يسترون به عوراتهم، وكانوا يعيشون فى حالة بؤس مخيف"[1]،وذكر أيضا "ثمة مؤامراة دبجها القانون منذ 1563 حتى عام 1824، ودبرتها العناصر صاحبة المصلحة فى نجاحها، تهدف إلى بخس العمال الأنجليز أجورهم، و ربطهم بالأرض، وحرمانهم من الأمل والهبوط بهم إلى درجة من الفقر لا منجاة منها... فقد شغل القانون الإنجليزى والقائمون عليه لأكثر من قرنين من الزمان بالهبوط بمستوى العامل الإنجليزى إلى أدنى حد للكفاف، والقضاء على كل المحاولات المنظمة للتعبير عن السخط، ومضاعفة العقوبات التى تفرض عليه عندما يفكر فى حقوقه الطبيعية"[2]" ويضيف"ولم تفرض تلك اللوائح عقوبات على أى محاولة من جانب العمال أو الصناع لتحسين شروط العمل فحسب، بل فرضت عقوبات صارمة على العامل الذى يقبل أن يتقاضى أجرا أعلى عما حددته اللائحة"[3] وهو ما وصفه أنجلز أيضا على نحو مفصل فى كتابه حالة الطبقة العاملة فى انجلترا 1844، حيث كان العمال الانجليز وفقا لوصفه فى منتصف القرن التاسع عشر "لا يرتدون سوى الملابس القديمة، و لا يأكلون سوى البطاطس، ولا يعيشون سوى فى الأكواخ القذرة المزدحمة". و هو ما تحدث عنه ماركس على نحو أكثر تفصيلا فى كتاب رأس المال، ليأتى منتسبين له زورا تفوح منهم روائح عنصرية عشائرية، ويتحدثون عن صراع موهوم بين القوميات والأديان والطوائف والأعراق والثقافات.
حقا كانت بريطانيا العظمى الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس، وسيدة العالم بلا منازع من القرن الثامن عشر، وإلى منتصف القرن العشرين، ولكن هذا الذى يعتبره البعض مدعاة لفخر كل بريطانى، قد تأتى لها بسبب الثورة الصناعية التى انطلقت على أرضها، و أنه بنى على معاناة مريرة لا حد لها تجرعتها البروليتاريا البريطانية التى شهدت ألوانا بشعة من القهر والاستغلال، حتى بداية القرن العشرين، بسبب ممارسات كل من الرأسمالية الإنجليزية التى فرضت على نساء البروليتاريا وأطفالها، العمل لأكثر من ست عشر ساعة فى اليوم، وبأجور متدنية لا تكفى سوى لاستمرارهم فى الوجود، ودولة تلك الرأسمالية الوحشية، التى أصدرت فى مواجهة البروليتاريا البريطانية، قوانين إعدام قادة الإضرابات والنقابات، وجمعت فائض سكانها الزائدون عن الحاجة، ورحلتهم قسرا لبلاد العالم الجديد، وحشدتهم جبرا فى حروبها من أجل فتح الأسواق لرأسماليها، وجندتهم قسرا فى المستعمرات، هى دولة كانت تنكل بالمتشردين والمتعطلين عن العمل من مواطنيها، وهى نفسها التى وضعت القوانين التى أرغمتهم على التشرد والبطالة، تماما مثلما كانت تتاجر فى العبيد المخطوفين من سواحل أفريقيا.
تراهم يتحدثون بإعجاب عن محمد على باشا بانى مصر الحديثة، وإبنه إبراهيم باشا الذى استرد لها مجد الفراعنة العسكري ببناء إمبراطورية لم تجربها مصر منذ عهد الرعامسة، دون اعتبار لوجهة نظر الفلاح المصرى الذى جر بالعنف لخوض حروب الباشا، لصالح السلطان العثمانى أو ضده، فقتل أو جرح أو نجى أو أضطر للهرب من الجندية فشردت اسرته، لينال المجد كله، والثروة بأسرها، محمد على وأسرته، فى حين ظل الفلاح المصرى بائسا مقهورا كما كان حاله عبر العصور، ذلك الفلاح الذى تم جر ابنه وحفيده مرة أخرى لحفر قناة السويس بالسخرة أيضا، فى عهد سعيد باشا، وفى حروب الخديوى إسماعيل مرة ثالثة، ليحصد غيره المجد والثروة.
لا شك أن ما حققته الطبقة العاملة فى القرن العشرين، وخصوصا فى أوروبا وأمريكا الشمالية من مكاسب و حقوق وحريات، ما كان ليتم لولا النضال البطولى للطبقة العاملة هناك ضد رأسماليتها المحلية، فحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن للعمال حق الانتخاب والترشيح فى البلاد الرأسمالية، و كان العمال و مازالوا يساقون فى الحروب بين الدول الرأسمالية المتنافسة على مناطق النفوذ، مخدوعين أحيانا إلا أنهم مضطرون غالبا. كما أن جيوش الاحتلال نفسها كانت تضم الكثير من المجندين من شعوب المستعمرات، الهنود فى الجيش الانجليزى، المغاربة فى الجيش الفرنسي، وما حصل عليه العمال فى البلاد المتقدمة من بعض الترف فى فترة ربع القرن المجيد الذى تلى الحرب العالمية الثانية لا يساوى سوى ثمن رخيص جدا فى مقابل ما قدموه من تضحيات هائلة لصالح رأسمالى بلادهم.
هذه الرؤية أكثر تمسكا بحقيقة الطابع العالمى لرأسالمال كنمط إنتاج، وبأن العمال لا وطن لهم سوى حيث يعملون، ويحصلون على معاشهم، فهى تنظر للعالم من وجهة نظر البروليتاريا المجردة من كل مصادر السلطة المادية، لا من وجهة نظر البرجوازيين الذين يحوزون على مصادر تلك السلطة.

[1] مورس دوب تعريب د. رؤوف عباس كتاب دراسات فى تطور الرأسمالية دار الكتاب الجامعىص39
[2] Centuries,vol 11,398
[3] مورس دوب مصدر سابق ص 253

الأحد، 26 سبتمبر 2010

التبعية وأوهام التحرر منها

التبعية وأوهام التحرر منها
سامح سعيد عبود
تفترض نظرية التبعية أن الفقر والتخلف في دول الجنوب التابعة، وعدم الاستقرار السياسي فيها، يعود سببه إلى المسار التاريخي الذي فرضته عليها دول الشمال المتبوعة، و أن الدول الأغنى في حاجة للدول الأفقر حتى تستمر هي في النمو، فنمو دول الشمال يرتكز على تخلف دول الجنوب، ومن ثم فإن من مصلحة دول الشمال الحفاظ على هذا التخلف فى الجنوب، وبناء على ذلك أيضا، فإنه من المستحيل على بلاد الجنوب أن تخرج من فقرها وتخلفها إلا بفك الارتباط بينها وبين بلاد الشمال، وأنه من المستحيل تحقيق نمو لهذه البلاد دون تحررها من التبعية لبلاد الشمال، وهى كلها فروض تحطمت على صخرة الواقع الذى لا يرحم، حيث نهضت النمور الآسيوية في الستينات برغم عدم فكها الارتباط مع دول الشمال، بل بسبب اندماجها الكامل فى الاقتصاد العالمى، ونهضت الصين والهند في الثمانينات حينما تخلتا عن أوهام فك الارتباط، وحينما اندمجتا فى الاقتصاد العالمى بالكامل، وهو ما أدى إلى سقوط نظرية التبعية، بعد أن كان لها تأثير كبير في الخمسينات والستينات والسبعينات.
نظرية التبعية مناقضة لنظريات التحديث أو التصنيع أو التنمية التقليدية، التي تدعي بأن البلدان الفقيرة والمتخلفة هي بلاد في طور أدنى من النمو بسبب عدم اندماجها الكامل في الاقتصاد الرأسمالى العالمى، فى حين تفترض نظرية التبعية إن هذه البلدان مندمجة بالفعل في الاقتصاد الرأسمالى العالمى، غير أنها هيكليا في حالة تبعية مستمرة للبلاد الأكثر تطورا، و أن هذه التبعية تمنعها من الإنتاج الوطني للمنتوجات التى تستهلكها، بما يجعلها مجبرة على شراءها من من بلدان الشمال، وهذا يخالف بوضوح انتقال كثير من الصناعات من بلاد الشمال إلى بلاد الجنوب فى العقود الثلاث الأخيرة.
رغم وجود اختلافات عديدة بين أصحاب نظرية التبعية، فإنهم يتفقون جميعا على أن البلدان الفقيرة مجبرة على تزويد البلدان الغنية بالمواد الأولية وباليد العاملة الرخيصة، فماذا سوف يحل بعرب البترول لو امتنعوا عن تصدير البترول؟، وماذا سوف يحل بعرب الانفجار السكانى لو امتنعوا عن توجيه فائضهم السكانى للعمل لدى الاستثمارات الأجنبية أو الهجرة لبلاد النفط أو بلاد الشمال؟.
يدعى منظروا التبعية إن هذا الوضع ناتج عن التاريخ الاستعماري فيما بين المجموعتين من البلاد، برغم أن كل من السعودية وتركيا و إيران وعمان لم تتعرض لتجربة الاستعمار الحديث، ويدعى منظروا التبعية أن دول الشمال وضعت مجموعات من الإكراهات القانونية والمالية والفنية وغيرها بما يجعل البلدان الفقيرة في حالة تبعية لها، وإن هذه الإكراهات ناتجة عن ضعف نقل التكنولوجيا بين البلدان الغنية المصدرة للتكنولوجيا، وبلدان الجنوب التي تعوزها تلك التكنولوجيا، وهذا القول يتناقض مع تحول اليابان من بلد متخلف إلى مركز إبداع التكنولوجيا فى العالم، ولا يفسر لماذا لم تتطور الصين، وهى من كانت أكثر تطورا من أوروربا حتى نهاية القرن السادس عشر، و لاتجيب النظرية عن لماذا لم يستفد سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فى النصف الثانى من القرن العشرين من فرصة تاريخية اتيحت لهم، حين تراكمت لديهم الأموال من فوائض النفط، والأيدى العاملة، والسوق المحلى، فى تصنيع الشرق الأوسط ، ولا تجيب عن لماذا تدفقت فوائض الأموال النفطية والأيدى العاملة العربية من الشرق الأوسط إلى دول الشمال المتبوع.
نظرية التبعية لا تضع فى الاعتبار دور النخب السياسية والاقتصادية والثقافية المحلية في حدوث التخلف المزمن لهذه البلدان، كما لا تضع فى الاعتبار طبيعة أنظمة الحكم لتلك البلاد باعتبارها المعوق الرئيسى أمام التنمية, والتاريخ الاقتصادى الاجتماعى كتفسير لهذا التخلف المزمن.
بناء على ما سبق يمكن تفسير نجاح اليابان و فشل الصينيون والشرق أوسطيون، بالرجوع إلى سبب داخلى فى كل تلك المجتمعات، لا بسبب مؤامرات الغرب الإمبريالى على الفاشلين. اليابان ببساطة عرفت اقطاع شبيه بالاقطاع الأوروبى، توزعت فيها السلطات بين الأمبراطور فى المركز والاقطاعيات، مما حجم من سلطة الإمبراطور المركزية، ورسخ احترام قواعد تعاقدية بين الإقطاعيين والدولة، وبين الاقطاعيين والأقنان، مع احترام كل الأطراف لحقوق الملكية الخاصة، مما سمح للبرجوازية اليابانية بتصنيع البلاد وتحديثها، بتوجية من الدولة اليابانية فى عهد الميجى، بعد أن أطمئنت على أموالها من المصادرة من الإقطاعيين والإمبراطور، برغم تخلف اليابان حتى منتصف القرن التاسع عشر عن جارتها الكبرى الصين.
يمكن تفسير فشل الشرق أوسطيين والصينين فى التحديث والرسملة، بأنهم عرفوا نمط من إقطاع الدولة، المسمى بنمط الإنتاج الآسيوى عند البعض، وبالخراجى عند البعض الآخر، تركزت فيه السلطة فى يد الحاكم الأعلى للدولة، وما كان الإقطاعيين إلا كبار رجال دولته الملتزمين بطاعته، وكان يمكن للحاكم أن يبقيهم أو يستبدلهم بآخرين فى أى وقت، ويصادر ممتلكاتهم، ويسلبهم اقطاعيتهم، فكل الرعايا الخاضعين لسلطته التى لا راد لها، من التجار والحرفيين والمهنيين والمزراعين وحتى هؤلاء البيروقراطيين كانوا يعانون من قنانة معممة للدولة ممثلة فى الحاكم صاحب اللقب الوراثى، برغم أنهم كانوا فى معظم الأحيان يتمتعون بالحرية الفردية، إلا أن إقطاع الدولة قيد حرية الجميع فى العمل والاستثمار والإبداع والابتكار العملى، وهو الأمر الذى لم يسمح للبرجوازية الصينية والشرق أوسطية التجارية، ختى النهضة الأوروبية، أن تستثمر أموالها فى التصنيع، طالما كانت أموالهم عرضة للمصادرة وفق نزوات الحاكم، برغم كل ما تراكم فى أيدى التجار والبيروقراطيين من ثروات هائلة نتيجة سيطرتهم على طرق التجارة العالمية البعيدة، على عكس وضع تجار غرب أوربا الذين استثمروا أموالهم فى التصنيع، بعد الكشوف الجغرافية الكبرى، وتمت لهم السيطرة على الملاحة الدولية، برغم ما عرفه الشرق أوسطيون والصينيون من تطور فى العلوم النظرية وتطبيقاتها فى القرون الوسطى، سبق تطور العلوم والتكنولوجيا الجديثة التى انطلقت فى أوروبا، إلا أن العلوم والابتكارات الشرق أوسطية والصينية لم تندمج بالإنتاج على عكس ما حدث فى غرب أوروبا.
يهمل منظروا نظرية التبعية دور الفساد الحكومى والشعبى، والاستبداد الغاشم للحكومة، وأجهزتها البيروقراطية، وغياب ثقافة المنافسة كأسباب لتفسير التخلف مركزين على الأسباب الخارجية، بالإضافة إلى أن هذه النظرية عامة، وأنها غير قادرة على تحليل الفوارق في التنمية بين بلدان الجنوب، حيث تنقسم لبلدان متوسطة النمو وبلدان متدنية النمو.
من ناحية أخرى إننا إذا وضعنا فى الاعتبار إن الاندماج فى الاقتصاد العالمى، يعنى اقتصاد أكثر كفاءة، ويعنى إنتاجية أفضل، وتطوير أسرع لقوى الإنتاج، وأن فك الارتباط بهذا الاقتصاد يعنى قوى إنتاج أقل تطورا، وإنتاجية أسوء، واقتصاد أقل كفاءة، فأن فك الارتباط كاملا كان أم نسبيا مع السوق العالمى يصبح اتجاه رجعى وليس تقدمى بأى حال، مع ملاحظة أن التبعية ناتجة موضوعيا عن علاقة متبادلة بين طرف متخلف، ومن ثم تابع، وبين طرف متقدم، ومن ثم متبوع، ومن ثم لا قضاء على التبعية بين الطرفين إلا بطريقين أحدهما ما تقول به نظرية التبعية، وهو فك الارتباط بين كل الطرفين، و الآخر ما تقول به النظريات القائلة بإمكانية تطوير الطرف الضعيف فى العلاقة ليصبح ندا للطرف القوى فى العلاقة. الطريق الأول الداعى لفك الارتباط والتحرر من التبعية، يتضمن بالضرورة التخلى عن هدف اللحاق بالشمال المتقدم، أى أنه يعنى الاكتفاء بمستوى متدن من قوى الإنتاج، وبالتالى من الإنتاجية، حيث يجب الاستغناء عن التكنولوجيا التى يحتكرها الشمال، وهذا لا يعنى إلا شىء واحد ألا وهو الانخفاض الحاد فى مستويات المعيشة الناتج عن انخفاض الإنتاجية، المرتبطة بالتكنولوجيا الأقل تطورا، فكيف يمكن مواجهة التزايد السكانى، وما يعنيه من ضرورة تلبية احتياجات السكان المتزايدة، بتكنولوجيا أقل إنتاجية.
الطريق الثانى لن يتأتى إلا بتطوير الاندماج على مستوى العالم إلى ذروته ليختفى الصراع القومى مفسحا الطريق للصراع الوحيد الممكن ألا وهو الصراع الطبقى، فى ضوء الميل الواضح للشركات المتعدية الجنسية والرأسمال العالمى لتصنيع العديد من بلدان العالم الثالث سعيا وراء الربحية الأعلى بتخفيض تكاليف العمل فى إطار إعادة فك وتركيب المجتمع البشرى التى تجريه تلك الشركات، وهو ما يدمر فرضية نظرية التبعية حول تقسيم العمل الدولى بين دول المركز الصناعى، ودول المحيط الزراعى والتعدينى .
تعتمد نظرية التبعية على فرضية أساسية، هذه الفرضية أنه مع ثمانينات القرن التاسع عشر، أى مع المرحلة الرأسمالية الاحتكارية، تفاوتت تعويضات العمل على نفس الإنتاجية بين المركز المتقدم والمتبوع الذى كانت فيه تعويضات العمل أعلى من مثيلتها عن نفس الإنتاجية فى دول المحيط المتخلف والتابع، مما أدى لنزح فائض القيمة من الثانية إلى الأولى، عبر عملية التبادل فيما بينهما، وهى ظاهرة يقول أنصار النظرية أنها مستمرة حتى الآن، وأن سياسات التنمية المستقلة فشلت فى القضاء عليها، وكان من أهم أسباب سقوطها، وقد أدى هذا التحول فى تفاوتات عائد العمل على نفس الإنتاجية إلى نتائج هامة على مستوى الصراع الطبقى على مستوى العالم فى المركز الرأسمالى المتقدم حيث ازدهرت الحركات الإصلاحية التى استأنست بها الرأسمالية الطبقة العاملة، وفى المحيط المتخلف حيث ازدهرت الحركات الثورية التى لم تنجح فى تحقيق أهدافها.
قضية التبعية إذن ليست فى التبادل السلعى فى حد ذاته بين المراكز و الأطراف، وهو السائد منذ أن بدأت الرأسمالية فى الحياة، الأمر الذى أكسبها العالمية، وإنما فى قواعد هذا التبادل غير العادلة، والتى انقلبت لميزة نسبية فى بعض بلدان العالم الثالث حيث تسعى الرأسمالية العالمية إلى حيث الأيدى العاملة الرخيصة، والأقل قدرة على ممارسة الصراع ضد رأس المال، لتصدر الصناعات كثيفة العمالة إلى دول المحيط، ومن ثم فأن جوهر التحرر من التبعية فى الحقيقة، وهو ما لا يقترب منه أحد هو تحقيق تبادل عادل للسلع، يعنى تعويضات متماثلة لقوة العمل مقابل نفس الإنتاجية فى بلدان المركز والمحيط، وهو لا يعنى سوى تحرير قوة العمل كسلعة مثل غيرها من السلع، مثلها مثل الرأسمال، وإعطاءها حرية الانتقال عبر العالم شأنها فى ذلك مثل غيرها من السلع، وهو الأمر الذى سوف يؤدى إلى تساوى عائد العمل على نفس الإنتاجية فى شتى بقاع العالم، وتوقف نزح العائد من الأطراف إلى المركز، وهو الشعار الذى لم ترفعه أى حركة ثورية تتبنى نظرية التبعية رغم وضوحه وبساطته وتحقيقه للعدالة فى نفس الوقت .
أن بلوغ الاندماج ذروته بهذه الطريقة، يعنى أنه إذا كانت عملية الإنتاج يتم تدويلها تماما فيما يتعلق بحركة رأسا لمال والسلع دون حرية انتقال العمالة، وهو الأمر الذى تقاومه بعض قطاعات الرأسمالية المحلية بشدة لأنه يفقدها قدرتها على تحقيق أعلى معدل للربح، فأن الاندماج المنشود، والذى يعنى التحرر من التبعية يشمل حرية انتقال العمالة، ومن ثم تنظيمها عبر العالم، ويعنى التعويضات المتساوية لقوة العمل عن نفس الإنتاجية .
ذهب الهوس العشائرى بنظرية التبعية، إلى حد رفض بعض متبنيها لنظرية القيمة فى العمل، استنادا على دوافع قومية ووطنية، لأن هذه النظرية تحديدا لا تساند رؤيتهم لكل من الاستغلال والقهر، الذى ينخرطون في النضال ضدهما على أسس قومية عشائرية لا على أسس طبقية.
سر الإهمال أو التشوية أو العداء لنظرية القيمة فى العمل من قبل هؤلاء القوميين، يرجع إلى أن هذه النظرية تقول ببساطة أن قيمة السلع الزراعية والحيوانية و التعدينية التى تتخصص فيها بلاد الجنوب، لا بد وأن تكون أقل من قيمة السلع الصناعية التى تتخصص فيها بلاد الشمال، طالما أن قوة العمل المبذولة فى الإنتاج الزراعى والتعدينى أقل من قوة العمل المبذولة فى الصناعة، وهذا يفسر جزئيا، الفرق فى مستوى المعيشة بين البلاد التى تتخصص فى إنتاج المواد الأولية باستثناء دول الخليج، و بين مستوى المعيشة فى البلاد الصناعية، والراجع أساسا إلى الفرق فى الإنتاجية المرتفعة للعامل الصناعى، ومن ثم دخله المرتفع بالنسبة للعامل الزراعى أو التعدينى، وبين الإنتاجية المنخفضة للعامل الزراعى أو عامل التعدين، ومن ثم دخله المنخفض، فالعامل الزراعى قد لا يعمل فى أفضل الأحوال سوى بضعة أسابيع فى العام، فى حين يقف العامل الصناعى على خط الإنتاج معظم أيام العام، و فى حين يستخدم العامل الزراعى وسائل إنتاج بسيطة بذل في إنتاجها عمل أقل و من ثم قيمة أقل، يستخدم العامل الصناعى وسائل إنتاج أكثر تعقيدا بذل فى إنتاجها عمل أكثر، ومن ثم قيمة أكثر، فالمشروع الصناعى يستثمر قوة عمل أكثر من المشروع الزراعى سواء كان هذا العمل حيا كان أو ميتا، ولهذا يخلق المشروع الصناعى قيمة مضافة أعلى مما يخلقها المشروع الزراعى والتعدينى.
يثبت ذلك أنه فى داخل البلد الواحد نلاحظ الفروق فى كل من الدخل والإنتاجية ما بين العمال الصناعيين والعمال الزراعيين، ففى حين يبلغ عمال الصناعة فى مصر 19% من قوة العمل، فإنهم يساهمون ب 35% من الدخل القومى، وبرغم من أن عمال الزراعة يبلغون 30% من قوة العمل فأنهم لا يساهمون بأكثر من 15% من الدخل القومى، مع ملاحظة أن مستوى التصنيع فى مصر متخلف وبدائى فى الغالب الأعم، ومن ثم لا ينتج قيم مضافة بنفس المستوى المتقدم فى البلاد الصناعية، فالقيمة المضافة الناتجة عن تجميع أجهزة الكومبيوتر التى تتم فى مصر، أدنى بكثير من القيمة المضافة الناتجة عن صنع الدوائر المتكاملة والمعجلات وغيرها من أجزاء الكومبيوتر نفسه التى تتم فى الولايات المتحدة.

الجمعة، 24 سبتمبر 2010

تنمية اقتصادية لصالح من

تنمية اقتصادية لصالح من
سامح سعيد عبود

من التعريفات الشائعة للتنمية الاقتصادية انها تحقيق معدل نمو مرتفع لمتوسط دخل الفرد الحقيقى خلال فترة ممتدة من الزمن، على ألا يصاحب ذلك تدهور في توزيع الدخل، أو زيادة في مستوى الفقر في المجتمع، ومن ناحية أخرى فالتنمية الاقتصادية هى الزيادة في كمية السلع والخدمات التي ينتجها اقتصاد معين، وهذه السلع يتم إنتاجها باستخدام عناصر الإنتاج الرئيسية، وهي الأرض والعمل ورأس المال والتنظيم، فهى إذن عملية يتم فيها زيادة الدخل الحقيقي زيادة تراكمية ومستمرة عبر فترة ممتدة من الزمن، بحيث تكون هذه الزيادة أكبر من معدل نمو السكان مع توفير الخدمات الإنتاجية والاجتماعية، وحماية الموارد المتجددة من التلوث، والحفاظ علي الموارد غير المتجددة من النضوب، ووفقا لهذا التعريف يبدوا أنه لم تحدث أى تنمية اقتصادية فى العالم، فقد تم خلال الثلاث قرون الماضية منذ الثورة الصناعية، تلويث الموارد المتجددة من أنهار وبحار وغابات، واهدار الموارد غير المتجددة من نفط وغاز ومعادن و أراضى صالحة للزراعة، فيما لاعلاقة له بتحسين شروط الحياة لغالبية البشر، بل لتحقيق مصالح النخب البيروقراطية والرأسمالية، المتحكمة فى التنمية الاقتصادية لصالحها، ولا شك أنه لا معنى لكلمة متوسط الدخل، طالما تفاوتت تلك الدخول بين أفراد المجتمع، وتعاظمت الفوارق بينهم، بين من يحصلون على بضع جنيهات، وبين من يحصلون على الملايين منها، و لاشك أنه لا معنى لكم السلع والخدمات التى ينتجها مجتمع معين، دون النظر لنوع تلك السلع والخدمات، فما هو المفيد فى تكديس السلاح بينما يتضور الناس جوعا، و ما هو المفيد فى بناء عقارات فاخرة لا يسكنها أحد بينما لا تجد الملايين السكن المناسب.
مازال معظم الناس لا ينظرون للمجتمعات البشرية الطبقية وتاريخها من زاوية تفاوتتها الطبقية، وإنما من زاوية عشائرية تفترض التجانس الاجتماعى فى تلك المجتمعات دائما، و تمنعهم تلك الرؤية من فهم حقيقة تلك المجتمعات فى حقيقتها الطبقية غير المتجانسة، وهو ما يجعلهم ينظرون بانبهار إلى التنمية، مستقلة كانت أم تابعة، كهدف مقدس، دون اعتبار لتوزيع نتائج هذه التنمية على سكان تلك المجتمعات، ودون التفات لمن هم المستفيدين حقا من هذه التنمية التى تحققت، متجاهلين دماء وعرق الغالبية المغمورة دائما فى صفحات التاريخ، تلك الغالبية التى طالما عانت البؤس والقهر، و التى لا تحصل من ثمار التنمية إلا على الفتات، بينما تلتهم الأقلية نصيب الأسد من تلك الثمار ، برغم أن تلك الغالبية، هى منتجة الثروة، وخالقة النمو، ومحققة التنمية، و التى لم ينال أفرادها أى مجد أو أى مقابل لتضحياتهم فى سباق التنمية الاقتصادية.
تراهم يهتمون بالتنمية باعتبارها مجرد أرقام صماء تثبت زيادة الدخل ومن ثم زيادة الاستهلاك، دون اهتمام بالمصدر الفعلى لهذا الدخل، أو ذاك الاستهلاك، الذى ربما يكون قد جاء من ارتفاع أسعار سلعة استراتيجية كالبترول كما هو حادث فى دول الخليج، والتى قد تنهار بانهيار أسعار تلك السلعة أو نضوبها.
يتحدثون بانبهار عن الصين التى أصبحت تنتج نصف الإنتاج السلعى فى العالم، وأصبح اقتصادها الثانى عالميا، والتى حققت أعلى معدلات للنمو فى العقدين الأخيرين، دون النظر إلى أن العامل الصينى الذى ينتج كل هذا الإنتاج مازال محروما من ثمار النمو التى تلتهمها البرجوازية الصينية والبيروقراطية الصينية، فى حين يحصل هو على أدنى معدلات الأجور فى العالم، ويعمل فى ظل أسوء شروط للعمل، لإنتاج أرخص السلع فى العالم، وهو ما يفسر الأرقام الضخمة لمعدلات النمو التى تحققها الصين.
توجد الكثير من النظريات البرجوازية التي تفسر التنمية الاقتصادية، ومنها النظريات التقليدية التى تذهب إلى ضرورة إطلاق الحريات الفردية الاقتصادية، برفعها شعار دعه يعمل.. دعه يمر، و تأكيدها على أهمية كل من حرية الأسواق و المنافسة الكاملة، وبالتالى البعد عن أي تدخل حكومي في الاقتصاد لتحقيق التنمية الاقتصادية، كما ترى تلك النظريات أن التراكم الرأسمالي مفتاح التقدم الاقتصادي، ولذلك أكدت تلك النظريات على ضرورة اتخاذ سياسات تشجع على الادخار، كما أكدت على أن تحقيق الربح هو الحافز الرئيسي الذي يدفع الرأسماليين علي اتخاذ قرار الاستثمار، وكلما زاد معدل الأرباح زاد معدل التراكم الرأسمالي والاستثمار، إلا أن معدل الأرباح لا يتزايد بصورة مستمرة، وإنما يميل للتراجع نظرا لتزايد حدة المنافسة بين الرأسماليين علي التراكم الرأسمالي، ويفسر سميث ذلك بزيادة الأجور التي تحدث بسبب حدة المنافسة بين الرأسماليين، وهذا التفسير يختلف عن تفسير ماركس لظاهرة ميل معدل الربح للتراجع، بالزيادة المضطردة فى نسبة العمل الميت(وسائل الإنتاج) مقارنة بالنقص المضطرد فى نسبة العمل الحى(العمل البشرى) فى تكوين رأسالمال مما يقلل من الأرباح، و يعتقد التقليديون بحتمية الوصول إلي حالة الاستقرار كنهاية لعملية التراكم الرأسمالي، ذلك لانه ما أن تبدأ الأرباح في التراجع حتي تستمر إلي أن يصل معدل الربح إلي الصفر، ويتوقف التراكم الرأسمالي، ويستقر حتي عدد السكان، ويصل معدل الأجور إلى مستوي الكفاف، ووفقا لأدم سميث فإن الذي يوقف النمو الاقتصادي هو ندرة الموارد الطبيعية التي تقود الاقتصاد إلي حالة من السكون.
النظرية التقليدية فى التنمية الاقتصادية، كانت تعبير عن مرحلة الرأسمالية التنافسية للقرن التاسع عشر، والتى اهتزت مكانتها،بأزمة الركود التى نشبت فى نهايته، وبأزمة الكساد التى انفجرت فى ثلاثينات القرن العشرين، وكان الحل أن تتطور الرأسمالية إلى مرحلتها الثانية، رأسمالية الدولة الاحتكارية، والتى شهدت تقاسم كل من الرأسمالية والبيروقراطية الهيمنة الاجتماعية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فكان لا بد من ظهور نظريات أخرى لتعبر عن هذه المرحلة الجديدة، كان جوهرها المزيد من تركيز رأسالمال والاحتكار الذى هو تقيد لحرية كل من السوق والمنافسة، والمزيد من تدخل الدولة فى الإنتاج على عكس ما ذهب إليه التقليديون، والمزيد من البقرطة سواء النابعة من تضخم دور الدولة، أو من السيطرة البيروقراطية على الشركات الاحتكارية والرأسمالية الكبرى، وحروب التوسع بهدف التخلص من الفائض السكانى المتعطل عن العمل، وتدمير قوى الإنتاج لتجديدها بعد الحرب للهروب من ميل معدل الربح للهبوط كما سبقت الإشارة، وتوجية الاستثمارات نحو صناعة السلاح، وقد نشأت فى هذا السياق العديد من النظريات التنموية المخالفة للنظرية التقليدية، وإن كان بعضها ارتدى أحيانا مسوح إيديولوجية تعادى الرأسمالية شكلا لامضمونا، بينما يمارس حامليها أبرز خصائصها، وهى استعباد العمل المأجور.
تجدر الإشارة إلى أن فكرة الحرية المطلقة للأسواق دون تدخل الدولة هى فكرة خيالية مثالية، لم تتحقق يوما على أرض الواقع، فكثيرا ما لجأت البرجوازية أكثر فأكثر إلى تكريس رأسمالية الدولة، واستعمال أجهزة الدولة القمعية للتخفيف من حدة الصراع الطبقي المتفاقم، بل واستعمال الميزانيات العامة للدولة لتعويض البرجوازيين عن الأرباح التي لا يحققونها نتيجة أزمات نمط الإنتاج الرأسمالي، وإغراق هذه الميزانيات في مديونية خيالية. فعلى سبيل المثال بلغت المبالغ المالية التي ضختها ميزانيات الدول لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية الأخيرة منذ نوفمبر 2008 حوالي 27 ترليون دولار، وهو ما يشكل نصف الناتج الداخلي الإجمالي العالمي[1]" كما أن الدولة الرأسمالية هى التى توجه جيوشها بحثا عن أسواق للسلع التى تنتجها رأسماليتها، وهى التى تفرض الحماية الجمركية حماية لسوقها القومى.
لم تتعرض النظرية الكينزية، و هى أبرز تلك النظريات لتحليل مشاكل الدول النامية، ولكنها اهتمت بالدول المتقدمة فقط، ويري كينز أن الدخل الكلي يعتبر دليل على مستوي التشغيل في أي دولة، فكلما زاد حجم التشغيل زاد حجم الدخل الكلي، ووفقا لكينز فإن البطالة تحدث بسبب نقص الطلب الفعلي على السلع والخدمات، وللتخلص من البطالة، يقترح كينز حدوث زيادة في الإنفاق العام سواء على الاستهلاك أو الاستثمار، وكانت الكينزية حلا ممتازا لمشكلة الكساد فى البلاد الرأسمالية الكبرى التى لاتحتاج لأسواق خارجية، إلا أن البلاد التى تفتقر إلىالأسواق، فقد تبنت الحل الفاشى الذى أشعل الحرب العالمية الثانية.
ظلت السياسات الكينزية هى السياسات الفعلية لكل الحكومات الاشتراكية الديمقراطية، التى مهما تنوعت برامجها، فإنها لا تهدف سوى إلى ازدياد الطلب العام على الاستهلاك أو الاستثمار، وذلك من خلال التوسع فى الإنفاق العام، وهى لكل ذلك تفترض ضرورة تدخل الدولة بتأميم المؤسسات الخاسرة، أو ذات الربحية الضعيفة، ودعم بعضها الآخر على نحو ما يعرف باشتراكية الدولة ... ولأن الحل الكينزى كان حلا ناجحا لأزمات الكساد الدورية، فإن الاشتراكية الديمقراطية بوجه عام، شهدت فترة صعود تاريخى منذ الثلاثينيات، وإلى السبعينيات من القرن العشرين، إلا أنها أخذت فى الانحدار بعد ذلك، والاقتراب تدريجيا فى سياستها وبرامجها من سياسات وبرامج الأحزاب الليبرالية، وبالتالى فقدت طابعها المميز عن هذه الأحزاب.
الأساس المادى لانهيار الكينزية، ومن ثم أزمة الحركة الاشتراكية الديمقراطية فى العالم بأسره، هو دخول الرأسمالية منذ السبعينات فى أزمة من الركود التضخمى، الأمر الذى أصبحت معه السياسات الكينزية غير صالحة للاستخدام فحلت محلها الليبرالية الجديدة، وهى إعادة إنتاج محسنة للنظرية التقليدية فى التنمية، فمنذ الثمانينات وحتى الآن، ومهما كانت نوعية الحكومة فى أى من دول المركز أو الأطراف، فأنها تتجه نحو الخصخصة، والتراجع عن تدخل الدولة فى عملية الإنتاج، وهو الأمر الذى يعنى زوال اشتراكية الدولة أيا كان نوعها، ومنذ هذا التاريخ ومهما كانت نوعية الحكومة ليبرالية أم اشتراكية، فإنها تسحب كافة المكاسب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التى حصلت الطبقة العاملة وسائر الطبقات الشعبية عبر تاريخها، فيما عرف بنموذج دولة الرفاهية، وبدأت مع التسعينات بوادر عودة الوجه القبيح للرأسمالية الوحشية، الذى عرفه القرن التاسع عشر، وكان الأساس الموضوعى لسقوط الكينزية هو الديكتاتورية العالمية للسوق التى لا تستطيع معها أى حكومة اشتراكية ديمقراطية مهما خلصت نيتها أن تفرض المزيد من الضرائب على رأسالمال، ومن ثم زيادة الإنفاق الاجتماعى العام، جذبا للاستثمار، ومنع الرأسمال من الهرب عبر الحدود.
على الجانب الآخر، وفى المجتمعات المتخلفة ظهرت نظريات أخرى أكثر دولتية وبيروقراطية، مع تدخل الدولة لتحل البيروقراطية كليا أو جزئيا محل البرجوازية المحلية فى قيادة التنمية المستقلة للمجتمع، و هو ما اصطلح عليه اسم الاشتراكية، ونطلق عليه البيروقراطية منعا للالتباس، وكان من أبرزها النموذج السوفيتى، فضلا عن نماذج أخرى شبيهة له بتلك الدرجة أو بأخرى بالعالم الثالث، و برغم الاستناد الأيديولوجى لهذا النموذج على الماركسية، إلا أن ماركس برئ منه ف " لو تحققنا من الاقتصاد السوفيتي بصورة علمية، لوجدنا أن هذا الاقتصاد كان هو نفسه الاقتصاد البرجوازي مع احتكار الدولة لوسائل الإنتاج، فالرأسمالية لا تعني فقط الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بينما تعنى الاشتراكية على العكس ملكية الدولة لها، فالرأسمالية تعنى فى الأساس خلق القيمة المضافة من خلال شراء قوة العمل المأجور الحرة، و لا فرق هنا إذا ما كان المشترى دولة أم فرد، أما فى حالة خضوع العمال لحالة الإذعان للدولة، فإن العلاقة تسمى بيروقراطية، و لا يجوز تسميتها رأسمالية أو اشتراكية، لأن العمال يتدهورون فى ظل السيطرة البيروقراطية من وضع العمالة الحرة لوضع العمل الجبرى أو القنانة، فاعتبار ملكية الدولة ملكية اشتراكية لا يستهدف سوى الحفاظ على قدسية الدولة والملكية الخاصة، وتحويل المأجورين إلى عبيد للدولة، والتخطيط الاقتصادي لا يعني إطلاقًا تخطيطًا اشتراكيًّا، ففي القرن التاسع عشر، بدأت الدولة بالاستيلاء على المؤسسات الكبرى الخاصة بالاتصال، والبريد، والخطوط الحديدية، فالإنتاج الدولتى المنهجى ظاهرة قديمة في الرأسمالية[2] ، بدأها فى القرن التاسع عشر محمد على فى مصر، والميجى فى اليابان، و بسمارك فى ألمانيا، قبل الثورة البلشفية.
شهد العالم منذ السبعينات من القرن العشرين ظروفا جديدة أدت إلى سقوط كافة أشكال تدخل الدولة المباشر فى عملية الإنتاج، و صعود السياسات الليبرالية..ومع تحول عملية الإنتاج والتوزيع والتبادل إلى العالمية، بسيطرة الشركات المتعددة الجنسية على 70% من مجمل الإنتاج العالمى، ومع حقيقة حرمان المجتمعات التى كانت تدعى بالاشتراكية من الإمكانيات الكاملة للسوق العالمى، كانت لابد وأن تسقط هى وأنظمة رأسمالية الدولة الوطنية فى بلاد العالم الثالث التى كانت تتبنى سياسات تنمية مستقلة ..وسقطت معظم الأنظمة الفاشية وشبه الفاشية فى أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا.
ومع التسعينات فى شتى بقاع الأرض أخذت تنتشر عملية الخصخصة، وهى تحويل القطاع العام لقطاع خاص، وتخلت الدولة عن دورها المباشر فى عملية الإنتاج، وفى كل بلاد العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، يتم سحب كافة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التى حصلت عليها الطبقات العاملة والشعبية خلال المائة وخمسون عاما الماضية، و تمت عودة الوجه الأصلى والقبيح للرأسمالية، وهو الأمر الذى يؤكده تقرير منظمة العمل الدولية بجنيف عام 1993، وذلك بسبب ضعف الحركة العمالية نقابيا وسياسيا، وبسبب الطبيعة العالمية للإنتاج، التى تتخلف عنها حركة الطبقة العاملة .
أن الاستنتاجات الجوهرية على هذا التطور تتلخص فى أنه عند عجز أو ضعف البرجوازية عن أداء مهامها التاريخية فى تحقيق التنمية، وعلى رأسها تطوير قوى الإنتاج، أو عند وقوع هذه البرجوازية فى أزمة ما تهدد وجودها ذاته، فإن الدولة تتدخل بطرق متباينة، لتؤدى بعض المهام، أو لحل أزمة تلك البرجوازية.
إن أشكال تدخل الدولة أيا ما كانت هى ذات طبيعة مؤقتة، أو هى مرحلة انتقالية بين مرحلتين فى إطار النمو الرأسمالى، وغالبا ما ينتهى شكل التدخل نفسه من خلال نفس البيروقراطية التى حلت محل البرجوازية، فنجد قطاعا منها هو الذى يقود عملية التحول إلى الخصخصة وانتزاع المكاسب الاجتماعية من الطبقات الشعبية (جوربا تشوف فى الاتحاد السوفيتى- السادات فى مصر- دينج هيسياو بنج فى الصين ).
إن ظروف الإنتاج الرأسمالى مع نهاية القرن العشرين قد تجاوزت أطر الدولة القومية، مما ساعد على زوال بعض أشكال تدخل الدولة، باعتبار أنها أشكال تجاوزها التاريخ، وإلا كان هذا السقوط المدوى لمعظم هذه الأشكال، وتأزم بعضها، والتحول الجوهرى للأخرى بالرغم من استمرارها فى رفع نفس الشعارات القديمة، هو على سبيل القدر المأساوى غير المفسر ، فهل يسير التاريخ وفق قوانين موضوعية أم وفق عبث لا ضابط له ولا رابط، أو من خلال التآمر الخيانى، إن هذا التزامن العجيب مع وجود تفسير واضح يؤكد صحة الاستنتاج.
[1] عبد السلام أديب أزمة تدبير الأزمة العامة للنظام الرأسمالي الحوار المتمدن - العدد: 3130 - 2010 / 9 / 20
[2] أنور نجم الدين النموذج اللينينى الحوار المتمدن 20/9/2010