الأحد، 10 يونيو 2012

كل السلطة للخيال!.. ! دفاعا عن الخيال


كل السلطة للخيال!.. ! دفاعا عن الخيال

سامح سعيد عبود

المقصود بالخيال هنا هو وضع تصورات ذهنية مسبقة بواسطة المخ لإحداث تغيرات بالواقع الطبيعى أو الاجتماعى، هذا الخيال المميز للرئيسيات عموما والعليا منها خصوصا وعلى رأسها الإنسان العاقل، هو السر الكامن وراء كل التطورات التقنية والاجتماعية التى حققها البشر عبر ملايين السنين، والافتقار إلي هذا الخيال لا معنى له سوى الجمود والتخلف،والمشكلة الحقيقية التى تعوق التطور هو أن الغالبية الساحقة من البشر تربى اجتماعيا بحيث تعادى هذا النوع من الخيال وتقاومه وتضطهد من يملكه ويمارسه،  فالناس غالبا ما ينشدون استقرار الواقع على ما هو عليه، ويخافون مما يجهلون، وما يطرحه الخيال عليهم من تغيرات عما اعتادوا عليه، إلا انهم فى النهاية ينساقون لاستهلاك كل منتجات الخيال التى سبق وقد رفضوها من القلة الطليعية المبدعة التى تجرأت على تغيير الواقع، والسفر بهم للمجهول.

هذا النوع من الخيال هو ما جعل القرد يضع عصا طويلة فى عش النمل ليسهل عليه اصطياده، أو يسقط حجرا على ثمرة الجوز ليهشمها، وهو ما دفع بإنسان فى الغابة لأن يفكر فى شحذ الحجر لتكون له حافة حادة ليسهل عليه تقطيع لحم الفريسة، وليركب هذا الحجر على عصا ليسهل عليه طعنها من بعد، وهو نفس الخيال الذى جعل مايكروسوفت تبتكر نظام النوافذ ليسهل على الناس استخدام الكومبيوتر، بدلا من الدوس المعقد،وهو الخيال الذى جعل مجموعة عمال بسطاء فى قرية روتشدل عام 1844 لابتكار مؤسسة للتعاون الاستهلاكى حمتهم من ارتفاع أسعار السلع، وسرعان ما تحولت فكرتهم البسيطة لحركة عالمية لها منظماتها وقوانينها، وأصبحت أساسا لحركات سياسية واجتماعية تتبنى إقامة مجتمع قائم على أساس فكرة التعاون ومبادئه وأهدافه، وهو نفسه ما دفع صغار التجار والحرفيين المصريين لتطوير نظام الجمعية الشهرية لتمويل أعمالهم بعيدا عن القروض وفوائدها.

كبشر نولد جميعا ولدينا ملكة الخيال فضلا عن ملكات الفضول المعرفى، لكننا اجتماعيا نولد فى مجتمع، تتعمد مؤسساته السلطوية على قمع تلك الملكات،واستأصالها أحيانا، وتقليصها أحيانا أخرى فى الحدود التى تخدم مصالحها واستمرار تسلطها، فالسادة ولكى تستمر سيادتهم، من مصلحتهم أن يقتنع عبيدهم بطبيعية وضعهم وأنه من نواميس الكون،لا يمكن مخالفته، فلا يحلمون بامكانية التحرر من العبودية، ويظل غاية مرادهم، هو استخدام خيالهم لتحسين شروط عبوديتهم، فالمطلوب قطعة لحم أو جبنة على قطعة الخبز الجاف الذى يسمح لهم بها السادة. و من نتائج هذا الفقر فى الخيال، أن عمال الشركات التى حكم بإلغاء خصخصتها، طالبوا بعودتها للقطاع العام، وهو ما رفضته الحكومة،وطعنت عليه، دون أن يتخيلوا أنه يمكنهم المطالبة بإدارتها ذاتيا، أو تحويلها لتعاونيات لصالح العاملين فيها.

هذا الفقر فى الخيال تخلقه مؤسسات التعليم التى تعتمد على التلقين والكتاب المقرر بل والإجابة النموذجية، وتقدر حفظ المعلومات واسترجاعها، وعدم تشجيع النقد والاختلاف والإبداع، وتخلقه مؤسسات الدين المنظم والعادات والأعراف الاجتماعية المحافظة التى تستنكر الخروج عن المألوف والمعتاد، ومن أسوء النماذج على ذلك ما يفعله دعاة السلفيين فى أتباعهم، حيث يحولونهم وفق مبدأ الطاعة العمياء لمجرد آلات مبرمجة على الفعل والقول، حيث تحول كل سلوك إنسانى تافه أو غير تافه لديهم ومن لحظة الاستيقاظ وحتى الدخول فى النوم، إلى نمط واحد من السلوك والكلام، من يخرج عليه فقد ارتكب أثما، وفقد ما يثقل من ميزان حسناته يوم الحساب، وتخلقه مؤسسات الإعلام والثقافة التى تحولنا جميعا لمجرد متلقين سلبيين لما تلقيه علينا من مواد، وما تتلاعب به من مشاعرنا، وتحشره فى عقولنا من معلومات، وما تلهينا به من استعراضات،تجعلنا نلهث وراءها دون أن تعطينا فرصة للفهم والتأمل.

ما سبق ذكره ضروري للرد على من يرفضون أى أفكار اشتراكية على أساس أن الاشتراكية فشلت وانهارت فى بلادها الأصلية، والرد على تساؤل غريب عن نموذج لبلد يطبق الأفكار الاشتراكية التحررية الأناركية كى يمكنهم الحكم عليها، لاحظ أن كثير من هؤلاء يحلمون بعودة الخلافة الإسلامية رغم سقوطها هى أيضا، و لا يلتفتون لنماذج حية فاشلة فعليا أمام ناظرينا للنموذج الإسلامى فى الصومال وأفغانستان والسعودية وإيران باكستان والسودان، إلا أنه الكيل بميكالين وهو يؤكد عيبا خطيرا فى طريقة التفكير والاستدلال.

فيما يتعلق بالنظم الاجتماعية لا يجوز النظر إليها بمنطق الفشل والنجاح، إذ أن هذه النظم تعبر عن مصالح طبقات و لا تعبر عن مصالح طبقات أخرى، فالرأسمالية برغم كل أزماتها ومآسيها واخفاقاتها ونجاحاتها ومميزاتها وعيوبها، هى التعبير عن مصالح الرأسماليين، وضد مصالح البروليتاريا، وسوف يظلون يدافعون عنها حتى رمقهم الأخير مثلما دافع الإقطاعيون عن الإقطاع،وسوف تظل البروليتاريا تناضل ضدها، أما الاشتراكية السلطوية التى انهارت فقد كانت تعبر عن مصالح البيروقراطيين، وقد قامت وانهارت لأسباب موضوعية لا مجال لذكرها فى هذا المقال القصير، أما الاشتراكية التحررية (الأناركية) فهى تعبر عن مصالح الغالبية الساحقة من البشر، و لحظات تحققها على نطاق واسع فى التاريخ كانت قصيرة فى روسيا وأسبانيا، وإن كانت تجربة اقليم تشيباس بالمكسيك مازالت قائمة منذ 15 عاما إلا أن هذا ليس مهما على الإطلاق لسببين أولهما أن الاشتراكية التحررية تقوم على أساس الممارسات التعاونية الطوعية والديمقراطية المباشرة، وهى ممارسات وعلاقات ومؤسسات موجودة فعليا فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فى العالم كله، وإن كانت هامشية وليست سائدة،السبب الثانى مع افتراض أن الاشتراكية التحررية مجرد كلام نظرى لم يجد طريقه للتطبيق، ألا يستحق منا محاوله تحقيقه على أرض الواقع.

أعتقد أن مشكلات انتفاضات الربيع العربى ترجع فى جزء كبير منها لفقر مزمن فى الخيال فى مجتمعات تأكلها الرجعية والمحافظة والتقليدية وعبادة الشرعية ،والعقليات النقلية والنصية رغم أن الثورة هى الخروج عن المألوف والمعتاد والنقد الأكثر جذرية للواقع، هى الفرصة التى يخرج منها الخيال من قمقمه،و لامخرج من مشكلات الربيع العربى إلا بإعطاء كل السلطة للخيال، وذلك بأن يتخلى الناس عن طوباويتهم الإصلاحية، وأن يتحلوا بالواقعية ويطلبوا المستحيل.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية