الأحد، 9 ديسمبر 2012

مقدمة حول معايير الفقه الدستورى للديمقراطية كنظام حكم



سامح سعيد عبود
الهدف من هذه المقدمة أن يطلع القارىء على معايير الفقه الدستورى للديمقراطية كنظام حكم، والتى يمكن أن تقيس المدى الذى وصل إليه نظام حكم ما من ديمقراطية، وذلك كى يستطيع القارىء من خلال هذه المعايير أن يدرك مدى ديمقراطية نظم الحكم العربية المختلفة، وتطور هذه النظم عبر الفترة الممتدة من نهايات القرن العشرين وتنتهى فى بدايات القرن الواحد والعشرين.
الديمقراطية بالتعريف هى حكم الشعب، ولكن الفقه الدستورى يفرق بين الشعب الحاكم صاحب السيادة فى النظام الديمقراطى للحكم، وبين الدولة برغم أنها نابعة من تلك السيادة على وجه الحصر فى ذلك النظام، ومن الجدير بالذكر أن نشير أن تحديد من يتمتعون بحق المشاركة فى السيادة والحكم من بين أفراد الشعب قد تغير وتطور بمرور الزمن، فحق المشاركة فى الديمقراطيات القديمة التى كانت قائمة فى أثينا وروما كان مقصورا على المواطنين الذكور البالغين الأحرار دون بقية السكان من العبيد والنساء وغير البالغين، وفى بدايات الديمقراطيات الحديثة حتى نهايات القرن التاسع عشر، كان حق المشاركة فى السيادة والحكم مقصورا على المواطنين من الذكور البالغين المالكين لحد معين من الثروة والحائزين على قدر من السلطة والنفوذ بسبب وظائفهم، دون بقية السكان من الطبقات غير المالكة للثروة وغير الحائزة على السلطة والنفوذ فضلا عن النساء وغير البالغين، إلى أن أصبح حق المشاركة يعنى وفق المفاهيم المعاصرة التى استقرت بعد الحرب العالمية الثانية حق كل الأفراد البالغين الذين يحملون جنسية الدولة المعنية فى المشاركة فى الحكم والسيادة..أما الدولة الديمقراطية فهى السلطة العامة التى يمكن أن نحلل عناصرها إلى أولا مواطنين يمارسون السلطة العامة عمليا نيابة عن الشعب كالوزراء والقضاة وونواب الشعب وغيرهم، وثانيا هيئات تنظم هؤلاء المواطنين كالوزارات والمحاكم والبرلمانات، تلك الهيئات التى تؤدى وظائف السلطة العامة مثل التنفيذ والقضاء والتشريع.
أشكال الممارسة الديمقراطية :
حقوق مشاركة المواطن فى السلطة العامة التى تميز النظام الديمقراطى عن غيره من النظم السياسية للحكم التى لا تكفل له هذه الحقوق، هى أن لكل مواطن الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة، وإما بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرا. على أن يكون لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد وظائف السلطة العامة في البلاد. وأن تكون إرادة الشعب هي مصدر أى سلطة وأى شرعية تكتسبها السلطات العامة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري المباشر، وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.

يمارس المواطن حقوق المشاركة عبر ثلاثة أشكال من الديمقراطية :
الديمقراطية المباشرة :
هى المثل الأعلى للديمقراطية ذلك لأنها الوحيدة التى تتيح لكل المواطنين حقوق المشاركة فى السلطات العامة بشكل مباشر بعيدا عن أن يمثلهم أحد ما فى ممارسة السلطة العامة، الذى فى حقيقته انتقاص من حرية المواطنين وسيادتهم، إلا أن الديمقراطية المباشرة يعيبها أنها لا تتناسب إلا مع المجتمعات قليلة السكان عمليا برغم تميزها نظريا، إلا أننا نلاحظ أنه مع التطور التكنولوجى الهائل فى ثورة الاتصالات أصبحت ممارسة الديمقراطية المباشرة على نطاق أوسع فى المجتمعات كثيرة السكان أكثر يسرا وسهولة، ولكن هذه الممارسة مشروطة بإتاحة استخدام هذه الإمكانيات لجميع المواطنين فضلا عن ضرورة وضع ضوابط لعدم إساءة استخدامها.

الديمقراطية شبه المباشرة :
• تتيح لكل المواطنين حقوق المشاركة المباشرة فى السلطات العامة بأحد أو بعض أو كل الطرق التالية :
 الاستفتاء الشعبى على مشاريع القوانين والقرارات. 
 الاقتراح الشعبى بمشاريع لقوانين أو لقرارات والذى تقدمه نسبة معينة من مجموع المواطنين وفى هذه الحالة يعرض الاقتراح على الاستفتاء الشعبى.
 التحقيق الشعبى مع النواب والمسئولين التنفيذيين المنتخبين عبر لجان شعبية مستقلة.
 تكليف نائب الدائرة ومحاسبته ومراقبته وإقالته قبل انتهاء مدة عضويته بالمجلس النيابى من قبل المواطنين الذين انتخبوه وينوب عنهم.
 محاسبة ومراقبة المسئولين التنفيذيين وإقالتهم قبل انتهاء فترة توليهم المسئولية التنفيذية. من قبل المواطنين الذين انتخبوهم وينوبون عنهم.
 وجوب موافقة غالبية المواطنين على ما يتلقاه المسئولين التنفيذيين وأعضاء المجالس النيابية والقضاة من أجور نقدية وعينية وامتيازات مقابل تفرغهم لأداء أعمالهم. 
 علنية كل المحاكمات واتباع نظام المحلفين فى المحاكم بما يضمن الرقابة الشعبية على القضاء.
إلا أننا نلاحظ فى معظم نظم الحكم السائدة فى العالم ومنها نظم الحكم فى العالم العربى، أنه يتم اهمال ممارسة أحد أو بعض أو كل حقوق المشاركة الشعبية سواء المباشرة أو شبه المباشرة فى السلطة العامة، والتى بدونها تصبح الديمقراطية مجرد أعطاء الناس الحق الدورى فى اختيار من يحكمونهم كل عدة سنوات من ممثلى النخب السياسية الحاكمة، وفى هذا إهدار للسيادة الشعبية واغتصاب لحق الناس الأصيل فى إدارة شئونهم بأنفسهم، ومن ثم تصبح ممارسة حقوق المشاركة الشعبية سواء بالديمقراطية المباشرة أو شبه المباشرة هى ما يعطى للديمقراطية معناها الأصيل، فبغير المشاركة الشعبية المباشرة أو شبه المباشرة تصبح الديمقراطية بلا معنى، ومجرد ثرثرة برلمانية فارغة، ولعبة انتخابات يمارسها محترفو الانتخابات والدعاية والسياسة، ويسيطر علي نتائجها القلة من الساسة وملاك الثروة والبيروقراطيين ورجال الإعلام، دون الغالبية من المجردين من وسائل الثروة والعنف والمعرفة.

الديمقراطية التمثيلية :
الشكل الثالث والسائد من الممارسة الديمقراطية فى العالم ومن ثم فى البلاد العربية، وتعنى أن الشعب هو صاحب الحق الوحيد فى اختيار من ينوبون عنه ويمثلونه فى ممارسة وظائف السلطات العامة بانتخابهم انتخابا حرا مباشرا. فهو من يمنحهم شرعية ممارسة السيادة بالنيابة عنه، وهو من يسلبهم هذه الشرعية، وتنقسم الديمقراطية التمثيلية إلى نوعين رئيسين هما
الديمقراطية البرلمانية يقتصر حق المشاركة فيها على الانتخاب المباشر لأعضاء الهيئات التشريعية والترشيح لعضويتها.
الديمقراطية الرئاسية وتعنى حق المشاركة فيها انتخاب كل من أعضاء الهيئات التشريعية وأعضاء الهيئات التنفيذية كرؤساء الدول وحكام الأقاليم والولايات والمحافظين وعمد المدن والقرى، والترشيح لعضوية المجالس التشريعية ومناصب السلطة التنفيذية. 
مع ملاحظة أن هناك القليل جدا من النظم تتوسع فى استخدام الحق فى انتخاب المواطنين لممثليهم فى السلطات العامة ليشمل الانتخاب المباشر أو غير المباشر لكل أعضاء هيئات السلطات العامة بما فيها القضاء. والحالة الأخيرة معناها ممارسة كاملة لهذا الحق بعكس الحالتين السائدتين البرلمانية والرئاسية التى تنتقص من ممارسته.

الفصل بين السلطات العامة :
تفترض الديمقراطية كنظام حكم الفصل بين السلطات العامة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) كى لا تجور سلطة عامة على اختصاصات سلطة عامة أخرى، وكلما كان الفصل بين السلطات أكثر اكتمالا كلما ضمنا توازنا بين السلطات، ومنعا أكثر للطغيان، ودرجة أعلى من الديمقراطية.
تتفاوت الديمقراطيات فيما بينها فى درجة الفصل بين السلطات، فبعضها يفصل فصلا جزئيا يسمح باشتراك هيئة من هيئات السلطة العامة فى ممارسة وظائف سلطة عامة أخرى، فيشارك بعض رؤساء الدول ورؤساء الحكومات والوزراء فى تشريع القوانين، وبعض هذه النظم يفصل فصلا كاملا بين تلك الهيئات فى أداءها لوظائفها فلا يسمح بأن تمارس السلطة التنفيذية سوى تنفيذ تشريعات السلطة التشريعية.
مكانة السلطات العامة بالنسبة لبعضها :
برغم جوهرية مبدأ الفصل بين السلطات بالنسبة للديمقراطية كنظام حكم، فإن السلطات العامة الثلاث لا تقف على قدم المساواة، إذ تتفاوت فى مكانتها بالنسبة لبعضها البعض، فبعض الأنظمة تضع السلطة التشريعية فى مكانة أعلى من السلطة التنفيذية باعتبارها الأكثر تعبيرا عن السيادة الشعبية لكونها الوحيدة المنتخبة من الشعب، كما فى الديمقراطية البرلمانية، وبعض النظم تساوى فى المكانة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية كما فى الديمقراطية الرئاسية لكون كلتا السلطتين التشريعية والتنفيذية منتخبتين شعبيا، وبعض النظم توحد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية فى مؤسسة منتخبة واحدة هى البرلمان كما فى الديمقراطية المجلسية التى ينتخب فيها المجلس التشريعى من يتولون مهام السلطة التنفيذية من بين أعضائه، على أن يظلوا تحت هيمنته الكاملة.
تنقسم نظم الحكم فيما يتعلق بشكل السلطة التنفيذية إلى شكلين رئيسيين :

النظم الجمهورية :
تنقسم بدورها إلى جمهوريات رئاسية تكون السلطة التنفيذية فيها بيد رئيس الجمهورية المنتخب شعبيا، وجمهوريات برلمانية تكون السلطة التنفيذية فيها بيد مجلس الوزراء، أما رئيس الجمهورية الذى يجرى انتخابه عادة بواسطة البرلمان، فهو مجرد رمز للدولة يعطيه الدستور مهام شرفية، مع ملاحظة أن هناك جمهوريات شبه رئاسية تجمع بين الخصائص الرئاسية والبرلمانية فى نفس الوقت، فيتقاسم رئيس الجمهورية المنتخب شعبيا ومجلس الوزراء السلطة التنفيذية، كما يتقاسم رئيس الجمهورية مع البرلمان السلطة التشريعية. 

النظم الملكية :
تنقسم بدورها إلى ملكيات مطلقة يملك ويحكم فيها رأس الدولة أيا كان لقبه الوراثى حيث تتركز فى يديه كل السلطات، وملكيات مقيدة وفيها رأس الدولة أيا كان لقبه الوراثى يملك السيادة نظريا ولكنه لا يحكم فعليا بل يكون مجرد رمز للدولة يعطيه الدستور بعض المهام الشرفية، أما السلطة التنفيذية فتكون بيد مجلس الوزراء، مع ملاحظة أن هناك ملكيات شبه مطلقة تجمع بين خصائص الملكيتين المطلقة والمقيدة فى نفس الوقت فيتقاسم صاحب اللقب الوراثى ومجلس الوزراء السلطة التنفيذية.كما يتقاسم صاحب اللقب الوراثى مع البرلمان السلطة التشريعية.

توزيع السلطات بين مكونات الدولة :
تنقسم نظم الحكم إلى نظم أحادية تتركز فيها كل السلطات العامة فى مركز الدولة، ونظم اتحادية تتوزع فيها السلطات بين الاتحاد والأقاليم الداخلة فى الاتحاد حيث تحتكر سلطات الاتحاد غالبا المجالات السيادية وهى الأمن الداخلى والدفاع والتمثيل الخارجى والعدل والمالية العامة، تاركا للأقاليم الاتحادية الداخلة فيها السلطة العامة فى المجالات غير السيادية، أو تتقاسم كل منهما السلطات العامة فى المجالات السيادية والمجالات غير السيادية.
كما تنقسم نظم الحكم الأحادية والاتحادية أيضا لنظم مركزية الإدارة حيث تتركز كل السلطات العامة فى الدولة أو الأقليم الاتحادى، تاركة بعض المهام الإدارية التنفيذية للمحليات التابعة لها، ونظم لامركزية الإدارة تتوزع فيها السلطات العامة ما بين الدولة أو الإقليم الاتحادى من جهة، وبين المحليات بمستوياتها المختلفة من جهة أخرى، والنظم الاتحادية والنظم اللامركزية الإدارة، تضمن عدم تركز السلطات العامة فى يد قلة من الأشخاص فى مركز الدولة وانفرادهم بها كما فى النظم المركزية والأحادية، بل يتم توزيع السلطات العامة بين الاتحاد ومكوناته، وبين الدولة أو الإقليم الاتحادى والمحليات، لتصبح ممارسة السلطات العامة فى يد عدد أوسع من أفراد الشعب، ومن ثم تضمن كل من الاتحادية واللامركزية الإدارية المشاركة الشعبية فى السلطة العامة على نحو أكثر اتساعا، ومن هنا فاللامركزية الإدارية والاتحادية أكثر تحقيقا للديمقراطية وتجسيدا للسيادة الأصلية للشعب عن الأنظمة الأحادية ومركزية الإدارة.

0 تعليقات:

إرسال تعليق

الاشتراك في تعليقات الرسالة [Atom]

<< الصفحة الرئيسية